الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ رِجَالٞ صَدَقُواْ مَا عَٰهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيۡهِۖ فَمِنۡهُم مَّن قَضَىٰ نَحۡبَهُۥ وَمِنۡهُم مَّن يَنتَظِرُۖ وَمَا بَدَّلُواْ تَبۡدِيلٗا} (23)

قوله تعالى : " من المؤمنين رجال " رفع بالابتداء ، وصلح الابتداء بالنكرة لأن " صدقوا " في موضع النعت . " فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا " " من " في موضع رفع بالابتداء . وكذا " ومنهم من ينتظر " والخبر في المجرور . والنحب : النذر والعهد ، تقول منه : نحبت انحب ، بالضم . قال الشاعر :

وإذا نحبت كَلْبٌ على الناس إنهم *** أحق بتاج الماجد المتكرم

وقال آخر :

قد نحب المجدُ علينا نَحْبَا{[12782]}

وقال آخر :

أنَحْبٌ فيقضَى أم ضلالٌ وباطلُ{[12783]}

وروى البخاري ومسلم والترمذي عن أنس قال : قال عمي أنس بن النضر - سميت به - ولم يشهد بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكبر عليه فقال : أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم غبت عنه ، أما والله لئن أراني الله مشهدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بعد ليرين الله ما أصنع . قال : فهاب أن يقول غيرها ، فشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد من العام القابل ، فاستقبله سعد بن مالك فقال : يا أبا عمرو أين ؟ قال : واها{[12784]} لريح الجنة ! أجدها دون أحد ، فقاتل حتى قتل ، فوجد في جسده بضع وثمانون ما بين ضربة وطعنة ورمية . فقالت عمتي الربيع بنت النضر : فما عرفت أخي إلا ببنانه . ونزلت هذه الآية " رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا " لفظ الترمذي . وقال : هذا حديث حسن صحيح . وقالت عائشة رضي الله عنها في قوله تعالى " من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه " الآية : منهم طلحة بن عبيد الله ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصيبت ، يده ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أوجب{[12785]} طلحة الجنة ) . وفي الترمذي عنه : أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا لأعرابي جاهل : سله عمن قضى نحبه من هو ؟ وكانوا لا يجترئون على مسألته ، يوقرونه ويهابونه ، فسأله الأعرابي فأعرض عنه ، ثم سأل فأعرض عنه ، ثم إني اطلعت من باب المسجد وعلي ثياب خضر ، فلما رآني النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أين السائل عمن قضى نحبه ) ؟ قال الأعرابي : أنا يا رسول الله . قال : ( هذا ممن قضى نحبه ) قال : هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث يونس بن بكير . وروى البيهقي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انصرف من أحد ، مر على مصعب بن عمير وهو مقتول على طريقه ، فوقف عليه ودعا له ، ثم تلا هذه الآية : " من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه - إلى - تبديلا " ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم : ( أشهد أن هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة فأتوهم وزوروهم والذي نفسي بيده لا يسلم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلا ردوا عليه ) . وقيل : النحب الموت ، أي مات على ما عاهد عليه ، عن ابن عباس . والنحب أيضا الوقت والمدة يقال : قضى فلان نحبه إذا مات . وقال ذو الرمة :

عشيةَ فرَّ الحارثيون بعد ما *** قضى نحبه في ملتقى الخيل هَوْبَرُ

والنحب أيضا الحاجة والهمة ، يقول قائلهم ما لي عندهم نحب ، وليس المراد بالآية . والمعنى في هذا الموضع بالنحب النذر كما قدمنا أولا ، أي منهم من بذل جهده على الوفاء بعهده حتى قتل ، مثل حمزة وسعد بن معاذ وانس بن النضر وغيرهم . ومنهم من ينتظر الشهادة وما بدلوا عهدهم ونذرهم . وقد روي عن ابن عباس أنه قرأ " فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر ومنهم من بدل تبديلا " . قال أبو بكر الأنباري : وهذا الحديث عند أهل العلم مردود ، لخلافه الإجماع ، ولأن فيه طعنا على المؤمنين والرجال الذين مدحهم الله وشرفهم بالصدق والوفاء ، فما يعرف فيهم مغير وما وجد من جماعتهم مبدل ، رضي الله عنهم .


[12782]:قبله: * يا عمرو يا بن الأكرمين نسبا*
[12783]:هذا عجز بيت للبيد، وصدره: * ألا تسألان المرء ماذا يحاول*
[12784]:هذه الكلمة توضع موضع الإعجاب بالشيء.
[12785]:أوجب الرجل: إذا فعل فعلا وجبت له به الجنة أو النار.
 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ رِجَالٞ صَدَقُواْ مَا عَٰهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيۡهِۖ فَمِنۡهُم مَّن قَضَىٰ نَحۡبَهُۥ وَمِنۡهُم مَّن يَنتَظِرُۖ وَمَا بَدَّلُواْ تَبۡدِيلٗا} (23)

ولما كان كل من{[55367]} آمن بائعاً{[55368]} نفسه وماله لله ، لأن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم ، وكان بعض الراسخين في الإيمان لم يعط الإيمان حقه في القتال في نفسه وماله ، كما فعل أبو بكر رضي الله عنه ، أما في ماله فبالخروج عنه كله ، وأما في نفسه فيما يقحمها من الأهوال ، حتى كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول له في بعض المواطن : " الزم مكانك وأمتعنا بنفسك " ، " ويقول له ولعمر رضي الله عنهما أنهما من الدين بمنزلة السمع والبصر " وكان أبو بكر رضي الله عنه في ليلة الغار يذكر الطلب فيتأخر ، والرصد فيتقدم ، وما عن الجوانب{[55369]} فيصير إليها ، ومنهم من وفى هذه الغزوة وما قبلها فأراد الله التنويه بذكرهم والثناء عليهم توفية لما يفضل به في حقهم ، وترغيباً لغيرهم{[55370]} فأظهر ولم يضمر لئلا يتقيد بالمذكورين سابقاً فيخص هذه الغزوة فقال : { من المؤمنين } أي الكمل { رجال } أي في غاية العظمة عندنا ، ثم وصفهم بقوله : { صدقوا } .

ولما كان العهد عند ذوي الهمم العلية ، والأخلاق الزكية ، لشدة ذكرهم له{[55371]} ومحافظتهم على الوفاء به ، وتصوره{[55372]} لهم حتى كأنه رجل عظيم قائم تجاههم ، يتقاضاهم الصدق ، عدى الفعل إليه فقال : { ما عاهدوا الله } المحيط علماً وقدرة وجلالاً وعظمة { عليه } أي من{[55373]} بيع أنفسهم وأموالهم له بدخولهم في هذا الدين الذي بنى على ذلك فوفوا به أتم وفاء ، وفي هذا إشارة إلى أبي لبابة بن{[55374]} المنذر رضي الله عنه ، وكان من أكابر المؤمنين الراسخين في صفة الإيمان حيث زل في إشارته إلى بني قريظة بأن المراد بهم الذبح ، كما تقدم في الأنفال في قوله تعالى : (

يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم }{[55375]}[ الأنفال : 27 ] فذهب من حينه وربط نفسه تصديقاً لصدقه{[55376]} في سارية من سواري المسجد حتى تاب الله عليه وحله رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة .

ولما ذكر الصادقين ، وكان ربما فهم{[55377]} أن الصدق لا يكون إلا بالقتل ، قسمهم قسمين{[55378]} مشيراً إلى خلاف ذلك بقوله : { فمنهم من قضى } أي أعطى { نحبه } أي نذره{[55379]} في معاهدته ، أنه ينصر رسول الله صلى الله عليه وسلم و{[55380]} يموت دونه ، وفرغ من ذلك وخرج من عهدته بأن قتل شهيداً ، فلم يبق عليه نذر كحمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير وعبد الله بن جحش وسعد بن الربيع وأنس بن النضر{[55381]} الذي غاب عن{[55382]} غزوة بدر فقال : غبت عن أول قتال قاتل فيه النبي صلى الله عليه وسلم ، لئن أشهدني الله قتالاً ليرين الله ما أصنع ، فلما انهزم من انهزم{[55383]} في غزوة أحد قال : اللهم إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء - يعني المشركين - ومما صنع هؤلاء - يعني المنهزمين من المسلمين . وقاتل حتى قتل بعد بضع وثمانين جراحة{[55384]} من ضربة بسيف ، وطعنة برمح ، ورمية بسهم ، وروى البخاري{[55385]} عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : " نرى{[55386]} هذه الآيات نزلت في أنس بن النضر { من المؤمنين رجال } " - انتهى ، وغير هؤلاء ممن قتل قبل هذا في غزوة أحد وغيرها ، وسعد بن معاذ ممن جرح في هذه الغزوة وحكم في بني قريظة بالقتل والسبي{[55387]} ، ولم يرع لهم حلفهم لقومه ، ولا أطاع قومه في الإشارة عليه باستبقائهم كما استبقى عبد الله بن أبي المنافق بني قينقاع ولا أخذته بهم رأفة غضباً لله ولرسوله{[55388]} رضي الله عنه ، وممن لم يقتل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم طلحة بن {[55389]}عبيد الله أحد العشرة رضي الله عنهم ثبت{[55390]} في أحد وفعل ما لم يفعله غيره ، لزم النبي صلى الله عليه وسلم فلم يفارقه ، وذب عنه ووقاه{[55391]} بيده حتى شلت إصبعه فشهد النبي صلى الله عليه وسلم أنه ممن قضى نحبه ، فالمراد بالنحب هنا العهد الذي هو كالنذر المفضي إلى الموت ، وأصل النحب الاجتهاد في العمل ، ومن هنا{[55392]} استعمل في النذر لأنه الحامل على ذلك { ومنهم } أي الصادقين { من ينتظر } قضاء النحب إما بالنصرة ، أو الموت على الشهادة ، أو مطلق المتابعة الكاملة .

ولما كان{[55393]} المنافقون ينكرون أن يكون أحد صادقاً فيما يظهر من الإيمان ، أكد قوله تعريضاً بهم : { وما بدلوا تبديلاً } أي وما أوقعوا شيئاً من تبديل بفترة أو توان ، فهذا تصريح بمدح أهل الصدق ، وتلويح بذم أهل النفاق عكس ما تقدم ، روى البخاري{[55394]} عن زيد بن ثابت{[55395]} رضي الله عنه قال : لما نسخنا الصحف{[55396]} بالمصاحف{[55397]} فقدت آية من سورة الأحزاب كنت كثيراً أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأها ، لم أجدها مع أحد إلا مع خزيمة الأنصاري - رضي الله عنه - الذي جعل{[55398]} رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته شهادة رجلين { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه } . وقوله : " نسخنا الصحف " التي كانت عند حفصة رضي الله عنها بعد موت عمر رضي الله عنه " في المصاحف " التي أمر بها عثمان رضي الله عنه ، وقوله : " لم أجدها " أي مكتوبة بدليل حفظه لها ، وهذا يدل على أنه لما نسخ المصاحف في عهد عثمان رضي الله عنه لم يقتنعوا بالصحف . بل ضموا{[55399]} إليها ما هو مفرق عند الناس مما كتب بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وبحضرته كما فعلوا حين جمعوا الصحف على عهد أبي بكر رضي الله عنهم أجمعين{[55400]} .


[55367]:زيد من ظ وم ومد.
[55368]:من ظ ومد، وفي الأصل وم: بايع.
[55369]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: الجواب.
[55370]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: نصرهم.
[55371]:زيد من ظ وم ومد.
[55372]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: تصويره.
[55373]:في ظ: منه.
[55374]:زيد من ظ وم ومد.
[55375]:آية 27.
[55376]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: لمصدقه.
[55377]:من مد، وفي الأصل وظ وم: فيهم.
[55378]:زيد من ظ وم ومد.
[55379]:زيد من ظ وم ومد.
[55380]:من مد، وفي الأصل وظ وم: أو.
[55381]:في ظ: أبي النضر.
[55382]:من ظ ومد، وفي الأصل وم: في.
[55383]:زيد من ظ وم ومد.
[55384]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: جراعة.
[55385]:زيد من ظ وم ومد.
[55386]:من ظ وم ومد وصحيح البخاري 2/705، وفي الأصل: ترى.
[55387]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: بالسبي.
[55388]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: رسوله.
[55389]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: عبد الله إحدى.
[55390]:سقط من ظ.
[55391]:من م ومد، وفي الأصل وظ: رقاه.
[55392]:من م ومد، وفي الأصل وظ: هذا.
[55393]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: كانوا المنانوا ـ كذا.
[55394]:راجع صحيحه 2/705.
[55395]:زيد من ظ وم ومد والصحيح.
[55396]:من ظ وم ومد والصحيح، وفي الأصل: المصحف.
[55397]:في الصحيح: في المصاحف.
[55398]:من ظ وم ومد والصحيح، وفي الأصل: جعله.
[55399]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: صمنوا.
[55400]:زيد من ظ وم ومد.