الثامنة- قوله تعالى : " إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة " أي قال الملك الذي تكلم عن أوريا " إن هذا أخي " أي على ديني ، وأشار إلى المدعى عليه . وقيل : أخي أي صاحبي . " له تسع وتسعون نعجة " وقرأ الحسن : " تسع وتسعون نعجة " بفتح التاء فيهما وهي لغة شاذة ، وهي الصحيحة من قراءة الحسن . قاله النحاس . والعرب تكني عن المرأة بالنعجة والشاة ؛ لما هي عليه من السكون والمعجزة وضعف الجانب . وقد يكنى عنها بالبقرة والحجرة والناقة ، لأن الكل مركوب . قال ابن عون :
أنا أبوهن ثلاثٌ هنَّه *** رابعةٌ في البيت صُغْرَاهُنَّهْ
ونعجتي خمسا تُوَفِّيهِنَّه *** ألا فتًى سمح يغذِّيهِنَّهْ
طَيُّ النَّقَا في الجوع يطويهِنَّهْ *** ويلُ الرغيف ويله منهُنَّهْ
يا شاةَ ما قَنَصٍ لمن حَلَّتْ له *** حرُمت علي وليتَها لم تَحْرُمِ
فبعثتُ جاريتي فقلت لها اذهبي *** فتجسسي أخبارها لي واعلمي
قالت رأيت من الأعادي غِرَّةً *** والشاة مُمْكِنَةٌ لمن هو مُرْتَمِ
فكأنما التفتت بجيد جِدَايَةً *** رَشَإٍ من الغزلان حُرٍّ أرْثَمِ
فرميتُ غفلةَ عينِه عن شاته *** فأصبت حَبَّةَ قلبِهَا وطِحَالَهَا
وهذا من أحسن التعريض حيث كنى بالنعاج عن النساء . قال الحسين بن الفضل : هذا من الملكين تعريض وتنبيه كقولهم ضرب زيد عمرا ، وما كان ضرب ولا نعاج على التحقيق ، كأنه قال : نحن خصمان هذه حالنا . قال أبو جعفر النحاس : وأحسن ما قيل في هذا أن المعنى : يقول : خصمان بغى بعضنا على بعض على جهة المسألة ، كما تقول : رجل يقول لامرأته كذا ، ما يجب عليه ؟
قلت : وقد تأول المزني صاحب الشافعي هذه الآية ، وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن شهاب الذي خرجه الموطأ وغيره : ( هو لك يا عبد بن زمعة ) على نحو هذا ، قال المزني : يحتمل هذا الحديث عندي - والله أعلم - أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أجاب عن المسألة فأعلمهم بالحكم أن هذا يكون إذا ادعى صاحب فراش وصاحب زنى ، لا أنه قبل على عتبة قول أخيه سعد ، ولا على زمعة قول ابنه إنه ولد زنى ؛ لأن كل واحد منهما أخبر عن غيره . وقد أجمع المسلمون أنه لا يقبل إقرار أحد على غيره . وقد ذكر الله سبحانه في كتابه مثل ذلك في قصة داود والملائكة ؛ إذ دخلوا عليه ففزع منهم ، قالوا : لا تخف خصمان ولم يكونوا خصمين ، ولا كان لواحد منهم تسع وتسعون نعجة ، ولكنهم كلموه على المسألة ليعرف بها ما أرادوا تعريفه . فيحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم حكم في هذه القصة على المسألة ، وإن لم يكن أحد يؤنسني على هذا التأويل في الحديث ، فإنه عندي صحيح . والله أعلم .
التاسعة- قال النحاس : وفي قراءة ابن مسعود " إن هذا أخي كان له تسع وتسعون نعجة أنثى " و " كان " هنا مثل قول عز وجل : " وكان الله غفورا رحيما " [ النساء : 96 ] فأما قوله : " أنثى " فهو تأكيد ، كما يقال : هو رجل ذكر وهو تأكيد . وقيل : لما كان يقال هذه مائة نعجة ، وإن كان فيها من الذكور شيء يسير ، جاز أن يقال : أنثى ليعلم أنه لا ذكر فيها . وفي التفسير : له تسع وتسعون امرأة . قال ابن العربي : إن كان جميعهن أحرارا فذلك شرعه ، وإن كن إماء فذلك شرعنا . والظاهر أن شرع من تقدم قبلنا لم يكن محصورا بعدد ، وإنما الحصر في شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ، لضعف الأبدان وقلة الأعمار . وقال القشيري : ويجوز أن يقال : لم يكن له هذا العدد بعينه ، ولكن المقصود ضرب مثل ، كما تقول : لو جئتني مائة مرة لم أقض حاجتك ، أي مرارا كثيرة . قال ابن العربي : قال بعض المفسرين : لم يكن لداود مائة امرأة ، وإنما ذكر التسعة والتسعين مثلا . المعنى : هذا غني عن الزوجة وأنا مفتقر إليها . وهذا فاسد من وجهين : أحدهما : أن العدول عن الظاهر بغير دليل ، لا معنى له ، ولا دليل يدل على أن شرع من قبلنا كان مقصورا من النساء على ما في شرعنا . الثاني : أنه روى البخاري وغيره أن سليمان قال : ( لأطوفن الليلة على مائة امرأة تلد كل امرأة غلاما يقاتل في سبيل الله ونسي أن يقول إن شاء الله ) وهذا نص .
العاشرة- قوله تعالى : " ولي نعجة واحدة " أي امرأة واحدة : " فقال أكفلنيها " أي أنزل لي عنها حتى أكفلها . وقال ابن عباس : أعطنيها . وعنه : تحول لي عنها . وقال ابن مسعود . وقال أبو العالية : ضمها إلي حتى أكفلها . وقال ابن كيسان : اجعلها كفلي ونصيبي . " وعزني في الخطاب " أي غلبني . قال الضحاك : إن تكلم كان أفصح مني ، وإن حارب كان أبطش مني . يقال : عزه يعزه بضم العين في المستقبل عزا غلبه . وفي المثل : من عَزَّ بَزَّ . أي من غلب سلب . والاسم العزة وهي القوة والغلبة . قال الشاعر :
قَطَاةٌ عَزَّها شَرَكٌ فباتَتْ *** تُجَاذِبُه وقد عَلِقَ الجناحُ
وقرأ عبد الله بن مسعود وعبيد بن عمير : " وعازني في الخطاب " أي غالبني ، من المعازة وهي المغالبة ، عازه أي غالبه . قال ابن العربي : واختلف في سبب الغلبة ، فقيل : معناه غلبني ببيانه . وقيل : غلبني بسلطانه ؛ لأنه لما سأله لم يستطع خلافه . كان ببلادنا أمير يقال له : سير بن أبي بكر فكلمته في أن يسأل لي رجلا حاجة ، فقال لي : أما علمت أن طلب السلطان للحاجة غصب لها . فقلت : أما إذا كان عدلا فلا . فعجبت من عجمته وحفظه لما تمثل به وفطنته ، كما عجب من جوابي له واستغربه .
{ إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب } هذه حكاية كلام أحد الخصمين ، والأخوة هنا أخوة الدين ، والنعجة في اللغة تقع على أنثى بقر الوحش وعلى أنثى الضأن ، وهي هنا عبارة عن المرأة ، ومعنى أكفلنيها أملكها لي وأصله اجعلها في كفالتي ، وقيل : اجعلها كفلي أي : نصيبي ، ومعنى عزني في الخطاب أي : غلبني في الكلام والمحاورة يقال : عز فلان فلانا إذا غلبه وهذا الكلام تمثيل للقصة التي وقع داود فيها . وقد اختلف الناس فيها وأكثروا القول فيها قديما وحديثا حتى قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : ( من حدث بما يقول هؤلاء القصاص في أمر داود عليه السلام جلدته حدين لما ارتكب من حرمة من رفع الله محله ) ، ونحن نذكر من ذلك ما هو أشهر وأقرب إلى تنزيه داود عليه السلام : روي : أن أهل زمان داود عليه السلام كان يسأل بعضهم بعضا أن ينزل له عن امرأته فيتزوجها إذا أعجبته ، وكانت لهم عادة في ذلك لا ينكرونها ، وقد جاء عن الأنصار في أول الإسلام شيء من ذلك ، فاتفق أن وقعت عين داود على امرأة رجل فأعجبته فسأله النزول عنها ففعل وتزوجها داود عليه السلام فولد له منها سليمان عليه السلام ، وكان لداود تسع وتسعون امرأة فبعث الله إليه ملائكة مثالا لقصته ، فقال أحدهما : إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة إشارة إلى التسع والتسعين امرأة التي كانت لداود ، ولي نعجة واحدة إشارة إلى أن ذلك الرجل لم تكن له إلا تلك المرأة الواحدة ، فقال : أكفلنيها إشارة إلى سؤال داود من الرجل النزول عن امرأته فأجابه داود عليه السلام بقوله : { لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه } فقامت الحجة عليه بذلك ، فتبسم الملكان عند ذلك وذهبا ولم يرهما ، فشعر داود أن ذلك عتاب من الله له على ما وقع فيه .
{ فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب } ولا تقتضي هذه القصة على هذه الرواية أن داود عليه السلام وقع فيما لا يجوز شرعا ، وإنما عوتب على أمر جائز كان ينبغي له أن يتنزه عنه لعلو مرتبته ومتانة دينه ، فإنه قد يعاتب الفضلاء على ما لا يعاتب عليه غيرهم كما قيل : حسنات الأبرار سيئات المقربين ، وأيضا فإنه كان له تسع وتسعون امرأة فكان غنيا عن هذه المرأة فوقع العتاب على الاستكثار من النساء ، وإن كان جائزا ، وروي : هذا الخبر على وجه آخر ، وهو أن داود انفرد يوما في محرابه للتعبد فدخل عليه طائر من كوة فوقع بين يديه فأعجبه فمد يده ليأخذه فطار على الكوة فصعد داود ليأخذه فرأى من الكوة امرأة تغتسل عريانة فأعجبته ثم انصرف فسأل عنها فأخبر أنها امرأة رجل من جنده وأنه خرج للجهاد مع الجند فكتب داود إلى أمير تلك الحرب أن يقدم ذلك الرجل يقاتل عند التابوت وهو موضع قل ما تخلص أحد منه فقدم ذلك الرجل فقاتل حتى قتل شهيدا فتزوج داود امرأته فعوتب على تعريضه ذلك الرجل للقتل وتزوجه امرأته بعده مع أنه كان له تسع وتسعون امرأة سواها ، وقيل : إن داود هم بذلك كله ولم يفعله ، وإنما وقعت المعاتبة على همه بذلك ، وروي : أن السبب فيما جرى له مثل ذلك أنه أعجب بعلمه وظهر منه ما يقتضي أنه لا يخاف الفتنة على نفسه ففتن بتلك القصة ، وروي أيضا أن السبب في ذلك أنه تمنى منزلة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، والتزم أن يبتلى كما ابتلوا فابتلاه الله بما جرى له في تلك القصة .
ولما كانت هذه الدعوى بأمر مستغرب يكاد أن لا يسمعه أحد إلا أنكره ساق الكلام مؤكداً فقال : { إن هذا } يشير إلى شخص من الداخلين ، ثم أبدل منه قوله : { أخي } أي في الدين والصحبة ، ثم أخبر عنه بقوله : { له تسع وتسعون نعجة } ويجوز أن يكون { أخي } هو الخبر والتأكيد حينئذ لأجل استبعاد مخاصمة الأخ وعدوانه على أخيه ويكون ما بعده استئنافاً { ولي } أي أنا أيها المدعي { نعجة } ولما كان ذلك محتملاً لأن يكون جنساً أكده بقوله : { واحدة } ثم سبب عنه قوله : { فقال } أي الذي له الأكثر : { أكفلنيها } أي أعطنيها لأكون كافلاً لها { وعزني } أي غلبني وقوى عليّ واشتد وأغلظ بي { في الخطاب * } أي الكلام الذي له شأن من جدال وغيره بأن حاورني إلى أن أملّني فسكت عجزاً عن التمادي معه ، ولم يقنع مني بشيء دون مراده .