الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَإِذۡ نَجَّيۡنَٰكُم مِّنۡ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ يَسُومُونَكُمۡ سُوٓءَ ٱلۡعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبۡنَآءَكُمۡ وَيَسۡتَحۡيُونَ نِسَآءَكُمۡۚ وَفِي ذَٰلِكُم بَلَآءٞ مِّن رَّبِّكُمۡ عَظِيمٞ} (49)

فيه ثلاث عشرة مسألة :

الأولى : قوله تعالى : " وإذ نجيناكم " " إذ " في موضع نصب عطف على " اذكروا نعمتي " وهذا وما بعده تذكير ببعض النعم التي كانت له عليهم أي اذكروا نعمتي بإنجائكم من عدوكم وجعل الأنبياء فيكم . والخطاب للموجودين والمراد من سلف من الآباء كما قال " إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية{[720]}{[721]} " [ الحاقة : 11 ] أي حملنا آباءكم وقيل : إنما قال " نجيناكم " لأن نجاة الآباء كانت سببا لنجاة هؤلاء الموجودين . ومعنى " نجيناكم " ألقيناكم على نجوة من الأرض ، وهي ما ارتفع منها هذا هو الأصل ، ثم سمى كل فائز ناجيا فالناجي من خرج من ضيق إلى سعة وقرئ " وإذ نجيتكم " على التوحيد .

الثانية : قوله تعالى : " من آل فرعون " " آل فرعون " قومه وأتباعه وأهل دينه وكذلك آل الرسول صلى الله عليه وسلم من هو على دينه وملته في عصره وسائر الأعصار سواء كان نسيبا له أو لم يكن . ومن لم يكن على دينه وملته فليس من آله ولا أهله وإن كان نسيبه وقريبه . خلافا للرافضة ؛ حيث قالت : إن آل الرسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة والحسن والحسين فقط . دليلنا قوله تعالى " وأغرقنا آل فرعون " [ البقرة : 50 ] " أدخلوا آل فرعون أشد العذاب{[722]} " [ غافر : 46 ] أي آل دينه إذ لم يكن له ابن ولا بنت ولا أب ولا عم ولا أخ ولا عصبة ، ولأنه لا خلاف أن من ليس بمؤمن ولا موحد فإنه ليس من آل محمد وإن كان قريبا له ؛ ولأجل هذا يقال : إن أبا لهب وأبا جهل ليسا من آله ، ولا من أهله وإن كان بينهما وبين النبي صلى الله عليه وسلم قرابة ؛ ولأجل هذا قال الله تعالى في ابن نوح " إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح{[723]} " [ هود : 46 ] وفي صحيح مسلم عن عمرو بن العاص قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم جهارا غير سر يقول ( ألا{[724]} إن آل أبي - يعني{[725]} فلانا - ليسوا لي{[726]} بأولياء إنما وليي الله وصالح المؤمنين ) وقالت طائفة : آل محمد أزواجه وذريته خاصة لحديث أبي حميد الساعدي أنهم قالوا : يا رسول الله كيف نصلي عليك ؟ قال ( قولوا اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته كما صلت على آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى أزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد ) رواه مسلم وقالت طائفة من أهل العلم : الأهل معلوم والآل الأتباع . والأول أصح لما ذكرناه ولحديث عبدالله بن أبي أوفى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أتاه قوم بصدقتهم قال ( اللهم صل عليهم ) فأتاه أبي بصدقته فقال ( اللهم صل على آل أبي أوفى )

الثالثة : اختلف النحاة هل يضاف الآل إلى البلدان أو لا ؟ فقال الكسائي : إنما يقال آل فلان وآل فلانة ولا يقال في البلدان هو من آل حمص ولا من آل المدينة . قال الأخفش : إنما يقال في الرئيس الأعظم نحو آل محمد صلى الله عليه وسلم وآل فرعون ؛ لأنه رئيسهم في الضلالة قال : وقد سمعناه في البلدان قالوا : أهل المدينة وآل المدينة .

الرابعة : واختلف النحاة أيضا هل يضاف الآل إلى المضمر أو لا ؟ فمنع من ذلك النحاس والزبيدي والكسائي فلا يقال إلا : اللهم صل على محمد وآل محمد ولا يقال وآله ، والصواب أن يقال أهله . وذهبت طائفة أخرى إلى أن ذلك يقال . منهم ابن السيد وهو الصواب ؛ لأن السماع الصحيح يعضده فإنه قد جاء في قول عبد المطلب :

لا هُمَّ إن العبد يم *** نع رحله فامنع حِلاَلَكْ{[727]}

وانصر على آل الصلي *** ب وعابديه اليوم آلَكْ

وقال ندبة :

أنا الفارس الحامي حقيقةَ والدي*** وآلي كما تحمي حقيقةَ آلكا

الحقيقة [ بقافين ] ما يحق على الإنسان أن يحميه أي تجب عليه حمايته

الخامسة : واختلفوا أيضا في أصل آل فقال النحاس : أصله أهل ثم أبدل من الهاء ألفا ، فإن صغرته رددته إلى أصله . فقلت : أهيل وقال المهدوي : أصله أول وقيل : أهل ، قبلت الهاء همزة ، ثم أبدلت الهمزة ألفا وجمعه آلون وتصغيره أويل فيما حكى الكسائي . وحكى غيره : أهيل ، وقد ذكرناه عن النحاس . وقال أبو الحسن بن كيسان : إذا جمعت : آلا ، قلت : آلون ، فإن جمعت آلا الذي هو السراب ، قلت : آوال مثل : مال وأموال .

السادسة : قوله تعالى : " فرعون " قيل : إنه اسم ذلك الملك بعينه ، وقيل : إنه اسم كل ملك من ملوك العمالقة مثل كسرى للفرس وقيصر للروم والنجاشي للحبشة ، وأن اسم فرعون موسى قابوس في قول أهل الكتاب . وقال وهب : اسمه الوليد بن مصعب بن الريان ، ويكنى : أبا مرة ، وهو من بني عمليق بن لاوذ بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام . قال السهيلي : وكل من ولى القبط ومصر فهو فرعون ، وكان فارسيا من أهل اصطخر . قال المسعودي : لا يعرف لفرعون تفسير بالعربية . قال الجوهري : فرعون لقب الوليد بن مصعب ملك مصر ، وكل عات فرعون ، والعتاة الفراعنة ، وقد تفرعن ، وهو ذو فرعنة أي دهاء ومكر . وفي الحديث ( أخذنا فرعون هذه الأمة ) " وفرعون " في موضع خفض إلا أنه لا ينصرف لعجمته .

السابعة : قوله تعالى : " يسومونكم " قيل معناه يذيقونكم ويلزمونكم إياه وقال أبو عبيدة : يولونكم يقال سامه خطة خسف إذا أولاه إياها ومنه قول عمرو بن كلثوم

إذا ما الملك سامَ الناس خسفا *** أبَيْنَا أن نُقِرَّ الخَسْف فينا

وقيل : يديمون تعذيبكم ، والسوم الدوام ، ومنه سائمة الغنم لمداومتها الرعي . قال الأخفش : وهو في موضع رفع على الابتداء{[728]} وإن شئت كان في موضع نصب على الحال أي سائمين لكم

الثامنة : قوله تعالى : " سوء العذاب " مفعول ثان ل " يسومونكم " ومعناه أشد العذاب ، ويجوز أن يكون بمعنى سوم العذاب ، وقد يجوز أن يكون نعتا بمعنى سوما سيئا ، فروي أن فرعون جعل بني إسرائيل خدما وخولا وصنفهم في أعماله ، فصنف يبنون وصنف يحرثون ويزرعون وصنف يتخدمون ، وكان قومه جندا ملوكا ومن لم يكن منهم في عمل من هذه الأعمال ضربت عليه الجزية فذلك سوء العذاب .

التاسعة : قوله تعالى : " يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم " " يذبحون " بغير واو على البدل من قومه " يسومونكم " كما قال أنشده سيبويه :

متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا *** تجد حطبا جَزْلاً وناراً تأجَّجَا

قال الفراء وغيره " يذبحون " بغير واو على التفسير لقوله " يسومونكم سوء العذاب " [ البقرة : 49 ] كما تقول أتاني القوم زيد وعمرو فلا تحتاج إلى الواو في زيد ونظيره : " ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب{[729]} " [ الفرقان : 68 - 69 ] وفي سورة إبراهيم " ويذبحون " بالواو لأن المعنى يعذبونكم بالذبح وبغير الذبح ، فقوله " ويذبحون أبناءكم " جنس آخر من العذاب لا تفسير لما قبله والله أعلم .

قلت : قد يحتمل أن يقال : إن الواو زائدة بدليل سورة " البقرة " والواو قد تزاد كما قال :

فلما أَجَزْنَا ساحةَ الحَيِّ وانتَحَى

أي قد انتحى وقال آخر :

إلى الملك القَرْمِ وابن الهمام *** وليثِ الكتيبةِ في المُزْدَحَم

أراد إلى الملك القرم ابن الهمام ليث الكتيبة وهو كثير .

العاشرة : قوله تعالى : " يذبحون " قراءة الجماعة بالتشديد على التكثير ، وقرأ ابن محيصن " يذبحون " بفتح الباء والذبح الشق والذبح المذبوح ، والذباح : تشقق في أصول الأصابع ، وذبحت الدن بزلته أي كشفته ، وسعد الذابح أحد السعود ، والمذابح المحاريب والمذابح جمع مذبح ، وهو إذا جاء السيل فخد في الأرض ، فما كان كالشبر ونحوه سمي مذبحا . فكان فرعون يذبح الأطفال ويبقي البنات وعبر عنهم باسم النساء بالمآل ، وقالت طائفة : " يذبحون أبناءكم " يعني الرجال وسموا أبناء لما كانوا كذلك ، واستدل هذا القائل بقوله " نساءكم " والأول أصح لأنه الأظهر . والله أعلم .

الحادية عشرة : نسب الله تعالى الفعل إلى آل فرعون ، وهم إنما كانوا يفعلون بأمره وسلطانه لتوليهم ذلك بأنفسهم ، وليعلم أن المباشر مأخوذ بفعله . قال الطبري : ويقتضي أن من أمره ظالم بقتل أحد فقتله المأمور فهو المأخوذ به .

قلت : وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال : يقتلان جميعا هذا بأمره والمأمور بمباشرته ، هكذا قال النخعي . وقال الشافعي ومالك في تفصيل لهما . قال الشافعي : إذا أمر السلطان رجلا بقتل رجل والمأمور يعلم أنه أمر بقتله ظلما كان عليه وعلى الإمام القود كقاتلين معا ، وإن أكرهه الإمام عليه وعلم أنه يقتله ظلما كان على الإمام القود ، وفي المأمور قولان : أحدهما : أن عليه القود والآخر لا قود عليه ، وعليه نصف الدية . حكاه ابن المنذر . وقال علماؤنا : لا يخلو المأمور أن يكون ممن تلزمه طاعة الآمر ويخاف شره كالسلطان والسيد لعبده ، فالقود في ذلك لازم لهما أو يكون ممن لا يلزمه ذلك فيقتل المباشر وحده دون الآمر ، وذلك كالأب يأمر ولده أو المعلم بعض صبيانه أو الصانع بعض متعلميه إذا كان محتلما فإن كان غير محتلم فالقتل على الآمر وعلى عاقلة الصبي نصف الدية . وقال ابن نافع : لا يقتل السيد إذا أمر عبده وإن كان أعجميا بقتل إنسان . قال ابن حبيب : وبقول ابن القاسم أقول إن القتل عليهما فأما أمر من لا خوف على المأمور في مخالفته ، فإنه لا يلحق بالإكراه بل يقتل المأمور دون الآمر ، ويضرب الآمر ويحبس . وقال أحمد في السيد يأمر عبده أن يقتل رجلا : يقتل السيد . وروي هذا القول عن علي بن أبي طالب وأبي هريرة رضي الله عنهما وقال علي ويستودع العبد السجن . وقال أحمد : ويحبس العبد ويضرب ويؤدب . وقال الثوري : يعزر السيد . وقال الحكم وحماد : يقتل العبد . وقال قتادة : يقتلان جميعا . وقال الشافعي : إن كان العبد فصيحا يعقل قتل العبد وعوقب السيد وإن كان العبد أعجميا فعلى السيد القود . وقال سليمان بن موسى : لا يقتل الآمر ولكن تقطع يديه ثم يعاقب ويحبس ، وهو القول الثاني ، ويقتل المأمور للمباشرة وكذلك قال عطاء والحكم وحماد والشافعي وأحمد وإسحاق في الرجل يأمر الرجل بقتل الرجل وذكره ابن المنذر . وقال زفر : لا يقتل واحد منهما وهو القول الثالث . حكاه أبو المعالي في البرهان ورأى أن الآمر والمباشر ليس كل واحد منهما مستقلا في القود ؛ فلذلك يقتل لا واحد منهما عنده والله أعلم .

الثانية عشرة : قرأ الجمهور " يذبحون " بالتشديد على المبالغة ، وقرأ ابن محيصن " يذبحون " بالتخفيف والأولى أرجح إذ الذبح متكرر ، وكان فرعون على ما روي قد رأى في منامه نارا خرجت من بيت المقدس ، فأحرقت بيوت مصر فأولت له رؤياه أن مولودا من بني إسرائيل ينشأ ، فيكون خراب ملكه على يديه ، وقيل غير هذا والمعنى متقارب .

الثالثة عشرة : قوله تعالى : " وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم " إشارة إلى جملة الأمر إذ هو خبر فهو كمفرد حاضر أي وفي فعلهم ذلك بكم بلاء أي امتحان واختبار و " بلاء " نعمة . ومنه قوله تعالى " وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا " [ الأنفال : 17 ] قال أبو الهيثم : البلاء يكون حسنا . ويكون سيئا وأصله المحنة والله عز وجل يبلو عبده بالصنع الجميل ليمتحن شكره ويبلوه بالبلوى التي يكرهها ليمتحن صبره ، فقيل : للحسن بلاء وللسيئ بلاء . حكاه الهروي . وقال قوم : الإشارة ب " ذلكم " إلى التنجية فيكون البلاء على هذا في الخير أي تنجيتكم نعمة من الله عليكم . وقال الجمهور : الإشارة إلى الذبح ونحوه . والبلاء هنا في الشر والمعنى وفي الذبح مكروه وامتحان وقال ابن كيسان : ويقال في الخير : أبلاه الله وبلاه وأنشد :

جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم *** وأبلاهما خير البلاء الذي يبلو{[730]}

فجمع بين اللغتين والأكثر في الخير أبليته ، وفي الشر بلوته وفي الاختبار : ابتليته وبلوته . قاله النحاس .


[720]:راجع ج 18 ص 270.
[721]:راجع ج 18 ص 263.
[722]:راجع ج 15 ص 319
[723]:راجع ج 9 ص 46.
[724]:الزيادة عن صحيح مسلم.
[725]:قوله: يعني فلانا. "ألا إن آل أبي فلان" فال النووي: "هذه الكناية هي من بعض الرواة، خشي أن يسميه فيترتب عليه من النفر الذين كانوا يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته. راجع سيرة ابن هاشم (ج 1 ص 276) طبع أوربا.
[726]:الزيادة عن صحيح مسلم.
[727]:الحلال (بالكسر): القوم المقيمون المتجاورون. يريد بهم سكان الحرم.
[728]:يريد أنها مستأنفة. وعبارة البحر لأبي حيان: "يحتمل أن تكون وهذه الجملة مستأنفة وهي حكاية حال ماضية، ويحتمل أن تكون في موضع الحال؛ أي سائليكم".
[729]:راجع ج 13 ص 76.
[730]:قائله زهير