الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَإِذۡ قُلۡنَا ٱدۡخُلُواْ هَٰذِهِ ٱلۡقَرۡيَةَ فَكُلُواْ مِنۡهَا حَيۡثُ شِئۡتُمۡ رَغَدٗا وَٱدۡخُلُواْ ٱلۡبَابَ سُجَّدٗا وَقُولُواْ حِطَّةٞ نَّغۡفِرۡ لَكُمۡ خَطَٰيَٰكُمۡۚ وَسَنَزِيدُ ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (58)

فيه تسع مسائل :

الأولى : قوله تعالى : " وإذ قلنا ادخلوا " حذفت الألف من " قلنا " لسكونها وسكون الدال بعدها والألف التي يبتدأ بها قبل الدال ألف وصل لأنه من يدخل .

الثانية : قوله تعالى : " هذه القرية " أي المدينة سميت بذلك ؛ لأنها تقرت أي اجتمعت ، ومنه قريت الماء في الحوض أي جمعته ، واسم ذلك الماء قرى ( بكسر القاف ) مقصور ، وكذلك ما قري به الضيف قال الجوهري : والمقراة للحوض ، والقري لمسيل الماء ، والقرا للظهر ومنه قوله{[785]} :

لاحقُ بطنٍ بِقِراً سَمِينِ

والمقاري : الجفان الكبار . قال :

عظامُ المقاري ضيفهم لا يُفَزَّعُ

وواحد المقاري مقراة ، وكله بمعنى الجمع غير مهموز ، والقرية ( بكسر القاف ) لغة اليمن ، واختلف في تعيينها فقال الجمهور : هي بيت المقدس وقيل : أريحاء من بيت المقدس . قال عمر بن شبة : كانت قاعدة ومسكن ملوك . ابن كيسان الشام : الضحاك : الرملة والأردن وفلسطين وتدمر . وهذه نعمة أخرى ، وهى أنه أباح لهم دخول البلدة وأزال عنهم التيه .

الثالثة : قوله تعالى : " فكلوا منها حيث شئتم " إباحة .

قوله تعالى : " رغدا " كثيرا واسعا ، وهو نعت لمصدر محذوف أي أكلاً رغداً ، ويجوز أن يكون في موضع الحال على ما تقدم وكانت أرضا مباركة عظيمة الغلة فلذلك قال " رغدا "

الرابعة : قوله تعالى : " وادخلوا الباب سجدا " الباب يجمع أبوابا وقد قالوا : أبوبة للازدواج قال الشاعر{[786]} :

هتَّاكُ أخْبِيَةٍ ولاَّج أبوبةٍ *** يخلط بالبر منه الجِدَّ واللِّينا

ولو أفرده لم يجز . ومثله قول عليه السلام : ( مرحبا بالقوم - أو بالوفد - غير خزايا ولا ندامى ) وتبوبت بوابا اتخذته . وأبواب مبوبة كما قالوا : أصناف مصنفة . وهذا شيء من بابتك أي يصلح لك . وقد تقدم معنى السجود{[787]} فلا معنى لإعادته والحمد لله .

والباب الذي أمروا بدخول هو باب في بيت المقدس يعرف اليوم ب " باب حطه " عن مجاهد وغيره . وقيل : باب القبة التي كان يصلي إليها موسى وبنو إسرائيل و " سجدا " قال ابن عباس : منحنين ركوعا . وقيل : متواضعين خشوعا لا على هيئة متعينة .

الخامسة : قوله تعالى : " وقولوا " عطف على أدخلوا .

قوله تعالى : " حطة " بالرفع قراءة الجمهور على إضمار مبتدأ أي مسألتنا حطة أو يكون حكاية . قال الأخفش : وقرئت " حطة " بالنصب على معنى احطط عنا ذنوبنا حطة . قال النحاس : الحديث{[788]} عن ابن عباس أنه قيل لهم : قولوا لا إله إلا الله وفي حديث آخر عنه قيل لهم قولوا مغفرة - تفسير للنصب ، أي قولوا شيئا يحط ذنوبكم كما يقال : قل خيرا ، والأئمة من القراء على الرفع . وهو أولى في اللغة لما حكي عن العرب في معنى بدل . قال أحمد بن يحيى : يقال بدلته ، أي غيرته ولم أزل عينه . وأبدلته أزلت عينه وشخصه كما قال :{[789]}

عزل الأمير للأمير المُبْدَلِ

وقال الله عز وجل : " قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله " [ يونس : 15 ] وحديث{[790]} ابن مسعود قالوا " حطة " تفسير على الرفع ، هذا كله قول النحاس وقال الحسن وعكرمة : " حطه " بمعنى حط ذنوبنا ، أمروا أن يقولوا لا إله إلا الله ليحط بها ذنوبهم . وقال ابن جبير : معناه الاستغفار أبان بن تغلب : التوبة قال الشاعر :

فاز بالحطة التي جعل الل *** ه بها ذنب عبده مغفورا

وقال ابن فارس في المجمل : " حطة " كلمة أمر بها بنو إسرائيل لو قالوها لحطت أوزارهم ، وقاله الجوهري أيضا في الصحاح .

قلت : يحتمل أن يكونوا تعبدوا بهذا اللفظ بعينه ، وهو الظاهر من الحديث . روى مسلم عن أبي هريرة : قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( قيل لبني إسرائيل أدخلوا الباب سجدا وقولوا حطة يغفر لكم خطاياكم فبدلوا فدخلوا الباب يزحفون على أستاههم وقالوا حبة في شعرة ) وأخرجه البخاري وقال : ( فبدلوا{[791]} وقالوا حطة حبة في شعرة ) في غير الصحيحين : " حنطة في شعر " وقيل : قالوا : هطا سمهاثا وهي لفظة عبرانية ، تفسيرها : حنطة حمراء ، حكاها ابن قتيبة ، وحكاه الهروي عن السدي ومجاهد ، وكان قصدهم خلاف ما أمرهم الله به فعصوا وتمردوا واستهزؤوا فعاقبهم الله بالرجز وهو العذاب . وقال ابن زيد : كان طاعونا أهلك منهم سبعين ألفا . وروي أن الباب جعل قصيرا ليدخلوه ركعا فدخلوه متوركين على أستاههم والله أعلم .

السادسة : استدل بعض العلماء بهذه الآية على أن تبديل الأقوال المنصوص عليها في الشريعة لا يخلو أن يقع التعبد بلفظها أو بمعناها ، فإن كان التعبد وقع بلفظها ، فلا يجوز تبديلها لذم الله تعالى من بدل ما أمره بقوله وإن وقع بمعناها جاز تبديلها بما يؤدي إلى ذلك المعنى ولا يجوز تبديلها بما يخرج عنه .

وقد اختلف العلماء في هذا المعنى ، فحكي عن مالك والشافعي وأبي حنيفة وأصحابهم أنه يجوز للعالم بمواقع الخطاب البصير بآحاد كلماته نقل الحديث بالمعنى ، لكن بشرط المطابقة للمعنى بكماله ، وهو قول الجمهور . ومنع ذلك جمع كثير من العلماء منهم ابن سيرين والقاسم بن محمد ورجاء بن حيوة . وقال مجاهد : انقص من الحديث إن شئت ولا تزد فيه . وكان مالك بن أنس يشدد في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم التاء والياء ونحو هذا ، وعلى هذا جماعة من أئمة الحديث لا يرون إبدال اللفظ ولا تغييره حتى إنهم يسمعون ملحونا ويعلمون ذلك ولا يغيرونه . وروى أبو مجلز عن قيس بن عباد قال : قال عمر بن الخطاب من سمع حديثا فحدث به كما سمع فقد سلم . وروى نحوه عن عبد الله بن عمرو وزيد بن أرقم . وكذا الخلاف في التقديم والتأخير والزيادة والنقصان ، فإن منهم من يعتد بالمعنى ولا يعتد باللفظ ومنهم من يشدد في ذلك ولا يفارق اللفظ .

وذلك هو الأحوط في الدين والأتقى والأولى ، ولكن أكثر العلماء على خلافه . والقول بالجواز هو الصحيح إن شاء الله تعالى ، وذلك أن المعلوم من سيرة الصحابة رضي الله عنهم هو أنهم كانوا يروون الوقائع المتحدة بألفاظ مختلفة ، وما ذاك إلا أنهم كانوا يصرفون عنايتهم للمعاني ولم يلتزموا التكرار على الأحاديث ولا كتبها . وروي عن واثلة بن الأسقع أنه قال : ليس كل ما أخبرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم نقلناه إليكم حسبكم المعنى . وقال قتادة عن زرارة بن أوفى : لقيت عدة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، فاختلفوا علي في اللفظ واجتمعوا في المعنى ، وكان النخعي والحسن والشعبي رحمهم الله يأتون بالحديث على المعاني . وقال الحسن : إذا أصبت المعنى أجزأك . وقال سفيان الثوري رحمه الله : إذا قلت لكم إني أحدثكم كما سمعت فلا تصدقوني إنما هو المعنى . وقال وكيع رحمه الله : إن لم يكن المعنى واسعا فقد هلك الناس . واتفق العلماء على جواز نقل الشرع للعجم بلسانهم وترجمته لهم ، وذلك هو النقل بالمعنى . وقد فعل الله ذلك في كتابه فيما قص من أنباء ما قد سلف فقص قصصا ذكر بعضها في مواضع بألفاظ مختلقة والمعنى واحد ونقلها من ألسنتهم إلى اللسان العربي ، وهو مخالف لها في التقديم والتأخير والحذف والإلغاء والزيادة والنقصان . وإذا جاز إبدال العربية بالعجمية فلأن يجوز بالعربية أولى . احتج بهذا المعنى الحسن والشافعي وهو الصحيح في الباب .

فإن قيل : فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( نضر الله امرأ سمع مقالتي فبلغها كما سمعها ) وذكر الحديث . وما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه أمر رجلا أن يقول عند مضجعه في دعاء علمه : ( آمنت بكتابك الذي أنزلت ونبيك الذي أرسلت ) فقال الرجل : ورسولك الذي أرسلت فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( ونبيك الذي أرسلت ) قالوا : أفلا ترى أنه لم يسوغ لمن علمه الدعاء مخالفة اللفظ وقال : ( فأداها كما سمعها ) قيل لهم : أما قوله ( فأداها كما سمعها ) فالمراد حكمها لا لفظها لأن اللفظ غير معتد به . ويدلك على أن المراد من الخطاب حكمه قوله : ( فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ) ثم إن هذا الحديث بعينه قد نقل بألفاظ مختلفة والمعنى واحد وإن أمكن أن يكون جميع الألفاظ قول النبي صلى الله عليه وسلم في أوقات مختلفة ، لكن الأغلب أنه حديث واحد نقل بألفاظ مختلفة وذلك أدل على الجواز وأما رده عليه السلام الرجل من قوله : ( ورسولك - إلى قوله - ونبيك ) لأن لفظ النبي صلى الله عليه وسلم أمدح ولكل نعت من هذين النعتين موضع . ألا ترى أن اسم الرسول يقع على الكافة واسم النبي صلى الله عليه وسلم يستحقه إلا الأنبياء عليهم السلام ، وإنما فضل المرسلون من الأنبياء لأنهم جمعوا النبوة والرسالة . فلما قال : ( ونبيك ) جاء بالنعت الأمدح ثم قيده بالرسالة بقوله : ( الذي أرسلت ) وأيضا فإن نقله من قوله : ( ورسولك - إلى قوله - ونبيك ) ليجمع بين النبوة والرسالة . ومستقبح في الكلام أن تقول : هذا رسول فلان الذي أرسله وهذا قتيل زيد الذي قتله لأنك تجتزئ بقولك : رسول فلان وقتيل فلان عن إعادة المرسل والقاتل إذ كنت لا تفيد به إلا المعنى الأول . وإنما يحسن أن تقول : هذا رسول عبد الله الذي أرسله إلى عمرو وهذا قتيل زيد الذي قتله بالأمس أوفي وقعة كذا والله ولي التوفيق .

فإن قيل : إذا جاز للراوي الأول تغيير ألفاظ الرسول عليه السلام جاز للثاني تغيير ألفاظ الأول ويؤدي ذلك إلى طمس الحديث بالكلية لدقة الفروق وخفائها . قيل له : الجواز مشروط بالمطابقة والمساواة كما ذكرنا فإن عدمت لم يجز . قال ابن العربي : الخلاف في هذه المسألة إنما يتصور بالنظر إلى عصر الصحابة والتابعين لتساويهم في معرفة اللغة الجبلية الذوقية ، وأما من بعدهم فلا نشك في أن ذلك لا يجوز إذ الطباع قد تغيرت والفهوم قد تباينت والعوائد قد اختلفت وهذا هو الحق والله أعلم .

قال بعض علمائنا : لقد تعاجم ابن العربي رحمه الله فإن الجواز إذا كان مشروطا بالمطابقة فلا فرق بين زمن الصحابة والتابعين وزمن غيرهم ؛ ولهذا لم يفصل أحد من الأصوليين ولا أهل الحديث هذا التفصيل . نعم ، لو قال : المطابقة في زمنه أبعد كان أقرب والله أعلم .

السابعة : قوله تعالى : " نغفر لكم خطاياكم " قراءة نافع بالياء مع ضمها وابن عامر بالتاء مع ضمها وهي قراءة مجاهد وقرأها الباقون بالنون مع نصبها وهي أبينها لأن قبلها " وإذ قلنا ادخلوا " فجرى " نغفر " على الأخبار عن الله تعالى ، والتقدير وقلنا ادخلوا الباب سجدا نغفر ، ولأن بعده " وسنزيد " بالنون . و " خطاياكم " اتباعا للسواد وأنه على بابه . ووجه من قرأ بالتاء أنه أثبت لتأنيث لفظ الخطايا لأنها جمع خطيئة على التكسير . ووجه القراءة بالياء أنه ذكر لما حال بين المؤنث وبين فعله على ما تقدم في قوله : " فتلقى آدم من ربه كلمات " [ البقرة : 37 ] وحسن الياء والتاء وإن كان قبله إخبار عن الله تعالى في قوله " وإذ قلنا " لأنه قد علم أن ذنوب الخاطئين لا يغفرها إلا الله تعالى فاستغنى عن النون ورد الفعل إلى الخطايا المغفورة .

الثامنة : واختلف في أصل خطايا جمع خطية بالهمزة فقال الخليل : الأصل في خطايا أن يقول : خطايئ ثم وجب بهذه أن تهمز الياء كما همزتها في مدائن فتقول : خطائىء ولا تجتمع همزتان في كلمة ، فأبدلت من الثانية ياء فقلت : خطائي ثم عملت كما عملت في الأول . وقال الفراء : خطايا جمع خطية بلا همزة كما تقول : هدية وهدايا . قال الفراء : ولو جمعت خطيئة مهموزة لقلت خطاءا وقال الكسائي : لو جمعتها مهموزة أدغمت الهمزة في الهمزة كما قلت : دواب .

التاسعة : قوله تعالى : " وسنزيد المحسنين " أي في إحسان من لم يعبد العجل . ويقال : يغفر خطايا من رفع المن والسلوى للغد وسنزيد في إحسان من لم يرفع للغد . ويقال : يغفر خطايا من هو عاص وسيزيد في إحسان من هو محسن أي نزيدهم إحسانا على الإحسان المتقدم عندهم . وهو اسم فاعل من أحسن . والمحسن من صحح عقد توحيده وأحسن سياسة نفسه وأقبل على أداء فرائضه وكفى المسلمين شره . وفي حديث جبريل عليه السلام : ( ما الإحسان ؟ قال : أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك قال صدقت . . . ) وذكر الحديث . خرجه مسلم .


[785]:هو حميد الأرقط. وصف فرسا بضمور البطن ثم نفى أن يكون ضمره من هزال، فقال: "بقرا سمين". واللاحق الضامر. (عن شرح الشواهد).
[786]:وهو القلاح بن جناب. وقيل: هو ابن مقبل. (عن اللسان)
[787]:راجع ص 345
[788]:في الأصول: 'قال النحاس: جاء الحديث..." والتصويب عن إعراب القرآن للنحاس. و"الحديث" مبتدأ وخبره "تفسير".
[789]:هو أبو النجم. (عن إعراب القرآن للنحاس).
[790]:في الأصل: "والحديث ابن مسعود" والتصويب عن النحاس.
[791]:الزيادة عن صحيح مسلم.