قوله تعالى : " فلما جاءها " أي فلما جاء موسى الذي ظن أنه نار وهي نور . قال وهب بن منبه . فلما رأى موسى النار وقف قريبا منها ، فرآها تخرج من فرع شجرة خضراء شديدة الخضرة يقال لها العليق ، لا تزداد النار إلا عظما وتضرما ، ولا تزداد الشجرة إلا خضرة وحسنا ، فعجب منها وأهوى إليها بضغث في يده ليقتبس منها ، فمالت إليه ، فخافها فتأخر عنها ، ثم لم تزل تطمعه ويطمع فيها إلى أن وضح أمرها على أنها مأمورة لا يدري من أمرها ، إلى أن " نودي أن بورك من في النار ومن حولها " . وقد مضى هذا المعنى في " طه " . " نودي " أي ناداه الله ، كما قال : " وناديناه من جانب الطور الأيمن " [ مريم : 52 ] . " أن بورك " قال الزجاج : " أن " في موضع نصب ، أي بأنه . قال : ويجوز أن تكون في موضع رفع جعلها اسم ما لم يسم فاعله . وحكى أبو حاتم أن في قراءة أبي وابن عباس ومجاهد " أن بوركت النار ومن حولها " . قال النحاس : ومثل هذا لا يوجد بإسناد صحيح ، ولو صح لكان على التفسير ، فتكون البركة راجعة إلى النار ومن حولها الملائكة وموسى . وحكى الكسائي عن العرب : باركك الله ، وبارك فيك . الثعلبي : العرب تقول باركك الله ، وبارك فيك ، وبارك عليك ، وبارك لك ، أربع لغات . قال الشاعر :
فبوركتَ مولودا وبوركت ناشئا *** وبوركتَ عند الشيب إذ أنت أشْيَبُ
الطبري : قال " بورك من في النار " ولم يقل بورك في من في{[12257]} النار على لغة من يقول باركك الله . ويقال باركه الله ، وبارك له ، وبارك عليه ، وبارك فيه بمعنى : أي بورك على من في النار وهو موسى ، أو على من في قرب النار ، لا أنه كان في وسطها . وقال السدي : كان في النار ملائكة ، فالتبريك عائد إلى موسى والملائكة ، أي بورك فيك يا موسى وفي الملائكة الذين هم حولها . وهذا تحية من الله تعالى لموسى وتكرمة له ، كما حيا إبراهيم على ألسنة الملائكة حين دخلوا عليه ، قال : " رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت " [ هود : 73 ] . وقول ثالث قاله ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير : قدس من في النار وهو الله سبحانه وتعالى ، عنى به نفسه تقدس وتعالى . قال ابن عباس ومحمد بن كعب : النار نور الله عز وجل ، نادى الله موسى وهو في النور ؛ وتأويل هذا أن موسى عليه السلام رأى نورا عظيما فظنه نارا ، وهذا لأن الله تعالى ظهر لموسى بآياته وكلامه من النار لا أنه يتحيز في جهة " وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله " [ الزخرف : 84 ] لا أنه يتحيز فيهما ، ولكن يظهر في كل فعل فيعلم به وجود الفاعل . وقيل على هذا : أي بورك من في النار سلطانه وقدرته . وقيل : أي بورك ما في النار من أمر الله تعالى الذي جعله علامة .
قلت : ومما يدل على صحة قول ابن عباس ما خرجه مسلم في صحيحه ، وابن ماجه في سننه واللفظ له عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض{[12258]} القسط ويرفعه حجابه النور لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره ) ثم قرأ أبو عبيدة : " أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين " أخرجه البيهقي أيضا . ولفظ مسلم عن أبي موسى قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات ، فقال : ( إن الله عز وجل لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل حجابه النور - وفي رواية أبي بكر النار - لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه ) قال أبو عبيد : يقال السبحات إنها جلال وجهه ، ومنها قيل : سبحان الله إنما هو تعظيم له وتنزيه . وقوله : " لو كشفها " يعني لو رفع الحجاب عن أعينهم ولم يثبتهم لرؤيته لاحترقوا وما استطاعوا لها . قال ابن جريج : النار حجاب من الحجب وهي سبعة حجب ، حجاب العزة ، وحجاب الملك ، وحجاب السلطان ، وحجاب النار ، وحجاب النور ، وحجاب الغمام ، وحجاب الماء . وبالحقيقة فالمخلوق المحجوب والله لا يحجبه شيء ، فكانت النار نورا وإنما ذكره بلفظ النار ؛ لأن موسى حسبه نارا ، والعرب تضع أحدهما موضع الآخر . وقال سعيد بن جبير : كانت النار بعينها فأسمعه تعالى كلامه من ناحيتها ، وأظهر له ربوبيته من جهتها . وهو كما روي أنه مكتوب في التوراة : " جاء الله من سيناء وأشرف من ساعير واستعلى من جبال فاران " . فمجيئه من سيناء بعثه موسى منها ، وإشرافه من ساعير بعثه المسيح منها ، واستعلاؤه من فاران بعثه محمدا صلى الله عليه وسلم ، وفاران مكة . وسيأتي في " القصص " بإسماعه سبحانه كلامه من الشجرة زيادة بيان إن شاء الله تعالى .
قوله تعالى : " وسبحان الله رب العالمين " تنزيها وتقديسا لله رب العالمين . وقد تقدم في غير موضع ، والمعنى : أي يقول من حولها : " وسبحان الله " فحذف . وقيل : إن موسى عليه السلام قاله حين فرغ من سماع النداء ؛ استعانة بالله تعالى وتنزيها له ؛ قاله السدي . وقيل : هو من قول الله تعالى . ومعناه : وبورك فيمن سبح الله تعالى رب العالمين ؛ حكاه ابن شجرة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.