الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{فَلَمَّا جَآءَهَا نُودِيَ أَنۢ بُورِكَ مَن فِي ٱلنَّارِ وَمَنۡ حَوۡلَهَا وَسُبۡحَٰنَ ٱللَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (8)

قوله تعالى : " فلما جاءها " أي فلما جاء موسى الذي ظن أنه نار وهي نور . قال وهب بن منبه . فلما رأى موسى النار وقف قريبا منها ، فرآها تخرج من فرع شجرة خضراء شديدة الخضرة يقال لها العليق ، لا تزداد النار إلا عظما وتضرما ، ولا تزداد الشجرة إلا خضرة وحسنا ، فعجب منها وأهوى إليها بضغث في يده ليقتبس منها ، فمالت إليه ، فخافها فتأخر عنها ، ثم لم تزل تطمعه ويطمع فيها إلى أن وضح أمرها على أنها مأمورة لا يدري من أمرها ، إلى أن " نودي أن بورك من في النار ومن حولها " . وقد مضى هذا المعنى في " طه " . " نودي " أي ناداه الله ، كما قال : " وناديناه من جانب الطور الأيمن " [ مريم : 52 ] . " أن بورك " قال الزجاج : " أن " في موضع نصب ، أي بأنه . قال : ويجوز أن تكون في موضع رفع جعلها اسم ما لم يسم فاعله . وحكى أبو حاتم أن في قراءة أبي وابن عباس ومجاهد " أن بوركت النار ومن حولها " . قال النحاس : ومثل هذا لا يوجد بإسناد صحيح ، ولو صح لكان على التفسير ، فتكون البركة راجعة إلى النار ومن حولها الملائكة وموسى . وحكى الكسائي عن العرب : باركك الله ، وبارك فيك . الثعلبي : العرب تقول باركك الله ، وبارك فيك ، وبارك عليك ، وبارك لك ، أربع لغات . قال الشاعر :

فبوركتَ مولودا وبوركت ناشئا *** وبوركتَ عند الشيب إذ أنت أشْيَبُ

الطبري : قال " بورك من في النار " ولم يقل بورك في من في{[12257]} النار على لغة من يقول باركك الله . ويقال باركه الله ، وبارك له ، وبارك عليه ، وبارك فيه بمعنى : أي بورك على من في النار وهو موسى ، أو على من في قرب النار ، لا أنه كان في وسطها . وقال السدي : كان في النار ملائكة ، فالتبريك عائد إلى موسى والملائكة ، أي بورك فيك يا موسى وفي الملائكة الذين هم حولها . وهذا تحية من الله تعالى لموسى وتكرمة له ، كما حيا إبراهيم على ألسنة الملائكة حين دخلوا عليه ، قال : " رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت " [ هود : 73 ] . وقول ثالث قاله ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير : قدس من في النار وهو الله سبحانه وتعالى ، عنى به نفسه تقدس وتعالى . قال ابن عباس ومحمد بن كعب : النار نور الله عز وجل ، نادى الله موسى وهو في النور ؛ وتأويل هذا أن موسى عليه السلام رأى نورا عظيما فظنه نارا ، وهذا لأن الله تعالى ظهر لموسى بآياته وكلامه من النار لا أنه يتحيز في جهة " وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله " [ الزخرف : 84 ] لا أنه يتحيز فيهما ، ولكن يظهر في كل فعل فيعلم به وجود الفاعل . وقيل على هذا : أي بورك من في النار سلطانه وقدرته . وقيل : أي بورك ما في النار من أمر الله تعالى الذي جعله علامة .

قلت : ومما يدل على صحة قول ابن عباس ما خرجه مسلم في صحيحه ، وابن ماجه في سننه واللفظ له عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض{[12258]} القسط ويرفعه حجابه النور لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره ) ثم قرأ أبو عبيدة : " أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين " أخرجه البيهقي أيضا . ولفظ مسلم عن أبي موسى قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات ، فقال : ( إن الله عز وجل لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل حجابه النور - وفي رواية أبي بكر النار - لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه ) قال أبو عبيد : يقال السبحات إنها جلال وجهه ، ومنها قيل : سبحان الله إنما هو تعظيم له وتنزيه . وقوله : " لو كشفها " يعني لو رفع الحجاب عن أعينهم ولم يثبتهم لرؤيته لاحترقوا وما استطاعوا لها . قال ابن جريج : النار حجاب من الحجب وهي سبعة حجب ، حجاب العزة ، وحجاب الملك ، وحجاب السلطان ، وحجاب النار ، وحجاب النور ، وحجاب الغمام ، وحجاب الماء . وبالحقيقة فالمخلوق المحجوب والله لا يحجبه شيء ، فكانت النار نورا وإنما ذكره بلفظ النار ؛ لأن موسى حسبه نارا ، والعرب تضع أحدهما موضع الآخر . وقال سعيد بن جبير : كانت النار بعينها فأسمعه تعالى كلامه من ناحيتها ، وأظهر له ربوبيته من جهتها . وهو كما روي أنه مكتوب في التوراة : " جاء الله من سيناء وأشرف من ساعير واستعلى من جبال فاران " . فمجيئه من سيناء بعثه موسى منها ، وإشرافه من ساعير بعثه المسيح منها ، واستعلاؤه من فاران بعثه محمدا صلى الله عليه وسلم ، وفاران مكة . وسيأتي في " القصص " بإسماعه سبحانه كلامه من الشجرة زيادة بيان إن شاء الله تعالى .

قوله تعالى : " وسبحان الله رب العالمين " تنزيها وتقديسا لله رب العالمين . وقد تقدم في غير موضع ، والمعنى : أي يقول من حولها : " وسبحان الله " فحذف . وقيل : إن موسى عليه السلام قاله حين فرغ من سماع النداء ؛ استعانة بالله تعالى وتنزيها له ؛ قاله السدي . وقيل : هو من قول الله تعالى . ومعناه : وبورك فيمن سبح الله تعالى رب العالمين ؛ حكاه ابن شجرة .


[12257]:الزيادة من تفسير الطبري.
[12258]:لعل تأنيث الضمير بتأويل النور بالأنوار. (هامش ابن ماجه).