الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{فَلَمَّا وَضَعَتۡهَا قَالَتۡ رَبِّ إِنِّي وَضَعۡتُهَآ أُنثَىٰ وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا وَضَعَتۡ وَلَيۡسَ ٱلذَّكَرُ كَٱلۡأُنثَىٰۖ وَإِنِّي سَمَّيۡتُهَا مَرۡيَمَ وَإِنِّيٓ أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ ٱلشَّيۡطَٰنِ ٱلرَّجِيمِ} (36)

الخامسة : قوله تعالى : " فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى " قال ابن عباس : إنما قالت هذا لأنه لم يكن يقبل في النذر إلا الذكور ، فقبل الله مريم . " وأنثى " حال ، وإن شئت بدل . فقيل : إنها ربتها حتى ترعرعت وحينئذ أرسلتها ، رواه أشهب عن مالك : وقيل : لفتها في خرقتها وأرسلت بها إلى المسجد ، فوفت بنذرها وتبرأت منها . ولعل الحجاب لم يكن عندهم كما كان في صدر الإسلام ، ففي البخاري ومسلم أن امرأة سوداء كانت تقم المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فماتت . الحديث .

السادسة : قوله تعالى : " والله أعلم بما وضعت " هو على قراءة من قرأ " وضعتُ " بضم التاء من جملة كلامها ، فالكلام متصل . وهي قراءة أبي بكر وابن عامر ، وفيها معنى التسليم لله والخضوع والتنزيه له أن يخفى{[3028]} عليه شيء ، ولم تقله على طريق الإخبار ؛ لأن علم الله في كل شيء قد تقرر في نفس المؤمن ، وإنما قالته على طريق التعظيم والتنزيه لله تعالى . وعلى قراءة الجمهور هو من كلام الله عز وجل قدم ، وتقديره أن يكون مؤخرا بعد " وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم " [ آل عمران : 36 ] والله أعلم بما وضعت ، قاله المهدوي . وقال مكي : هو إعلام من الله تعالى لنا على طريق التثبيت فقال : والله أعلم بما وضعتْ أم مريم قالته أو لم تقله . ويقوي ذلك أنه لو كان من كلام أم مريم لكان وجه الكلام : وأنت أعلم بما وضعت ؛ لأنها نادته في أول الكلام في قولها : رب إني وضعتها أنثى . وروي عن ابن عباس " بما وضعتِ " بكسر التاء ، أي قيل لها هذا .

السابعة : قوله تعالى : " وليس الذكر كالأنثى " استدل به بعض الشافعية على أن المطاوعة في نهار رمضان لزوجها على الوطء لا تساويه في وجوب الكفارة عليها . ابن العربي : وهذه منه غفلة ، فإن هذا خبر عن شرع من قبلنا وهم لا يقولون به ، وهذه الصالحة إنما قصدت بكلامها ما تشهد له به بينة حالها ومقطع كلامها ، فإنها نذرت خدمة المسجد في ولدها ، فلما رأته أنثى لا تصلح وأنها عورة اعتذرت إلى ربها من وجودها لها{[3029]} على خلاف ما قصدته فيها . ولم ينصرف " مريم " لأنه مؤنث معرفة ، وهو أيضا أعجمي . قاله النحاس . والله تعالى أعلم .

الثامنة : قوله تعالى : " وإني سميتها مريم " يعني خادم الرب في لغتهم . " وإني أعيذها بك " يعني مريم . " وذريتها " يعني عيسى . وهذا يدل على أن الذرية قد تقع على الولد خاصة . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما من مولود يولد إلا نخسه الشيطان فيستهل صارخا من نخسة الشيطان{[3030]} إلا ابن مريم وأمه ) ثم قال أبو هريرة : اقرؤوا إن شئتم : " وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم " . قال علماؤنا : فأفاد هذا الحديث أن الله تعالى استجاب دعاء أم مريم ، فإن الشيطان ينخس جميع ولد آدم حتى الأنبياء والأولياء إلا مريم وابنها . قال قتادة : كل مولود يطعن الشيطان في جنبه حين يولد غير عيسى وأمه جعل بينهما حجاب فأصابت الطعنة الحجاب ولم ينفذ لها منه شيء ، قال علماؤنا : وإن لم يكن كذلك بطلت الخصوصية بهما ، ولا يلزم من هذا أن نخس الشيطان يلزم منه إضلال الممسوس وإغواؤه فإن ذلك ظن فاسد ، فكم تعرض الشيطان للأنبياء والأولياء بأنواع الإفساد والإغواء ومع ذلك فعصمهم{[3031]} الله مما يرومه الشيطان ، كما قال تعالى : " إن عبادي ليس لك عليهم سلطان " {[3032]} [ الحجر : 42 ] . هذا مع أن كل واحد من بني آدم قد وكل به قرينه من الشياطين ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فمريم وابنها وإن عصما من نخسه فلم يعصما من ملازمته لها ومقارنته . والله أعلم .


[3028]:- الزيادة من ب ود.
[3029]:- في ب: له، وفي ز: من وجود مالها.
[3030]:- زيادة من صحيح مسلم.
[3031]:- كذا في ب ود بالفاء.
[3032]:- راجع جـ10 ص 28.