الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{يُدَبِّرُ ٱلۡأَمۡرَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ إِلَى ٱلۡأَرۡضِ ثُمَّ يَعۡرُجُ إِلَيۡهِ فِي يَوۡمٖ كَانَ مِقۡدَارُهُۥٓ أَلۡفَ سَنَةٖ مِّمَّا تَعُدُّونَ} (5)

قوله تعالى : " يدبر الأمر من السماء إلى الأرض " قال ابن عباس : ينزل القضاء والقدر . وقيل : ينزل الوحي مع جبريل . وروى عمرو بن مرة عن عبد الرحمن بن سابط قال : يدبر أمر الدنيا أربعة : جبريل ، وميكائيل ، وملك الموت ، وإسرافيل ، صلوات الله عليهم أجمعين . فأما جبريل فموكل بالرياح والجنود . وأما ميكائيل فموكل بالقطر والماء . وأما ملك الموت فموكل بقبض الأرواح . وأما إسرافيل فهو ينزل بالأمر عليهم . وقد قيل : إن العرش موضع التدبير ، كما أن ما دون العرش موضع التفصيل ، قال الله تعالى : " ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى يدبر الأمر يفصل الآيات " {[12638]} [ الرعد : 2 ] . وما دون السموات موضع التصريف . قال الله تعالى : " ولقد صرفناه بينهم ليذكروا " {[12639]} [ الفرقان : 50 ] .

قوله تعالى : " ثم يعرج إليه " قال يحيى بن سلام : هو جبريل يصعد إلى السماء بعد نزوله بالوحي . وقال النقاش : هو الملك الذي يدبر الأمر من السماء إلى الأرض . وقيل : إنها أخبار أهل الأرض تصعد إليه مع حملتها من الملائكة . قاله ابن شجرة . وقيل : " ثم يعرج إليه " أي يرجع ذلك الأمر والتدبير إليه بعد انقضاء الدنيا " في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون " " في يوم كان مقداره ألف سنة " وهو يوم القيامة . وعلى الأقوال المتقدمة فالكناية في " يعرج " كناية عن الملك ، ولم يجر له ذكر لأنه مفهوم من المعنى ، وقد جاء صريحا في " سأل سائل " قوله : " تعرج الملائكة والروح{[12640]} إليه " [ المعارج : 4 ] . والضمير في " إليه " يعود على السماء على لغة من يذكرها ، أو على مكان الملك الذي يرجع إليه ، أو على اسم الله تعالى ؛ والمراد إلى الموضع الذي أقره فيه ، وإذا رجعت إلى الله فقد رجعت إلى السماء ، أي إلى سدرة المنتهى ، فإنه إليها يرتفع ما يصعد به من الأرض ومنها ينزل ما يهبط به إليها ، ثبت معنى ذلك في صحيح مسلم . والهاء في " مقداره " راجعة إلى التدبير ، والمعنى : كان مقدار ذلك التدبير ألف سنة من سني الدنيا ، أي يقضي أمر كل شيء لألف سنة في يوم واحد ، ثم يلقيه إلى ملائكته ، فإذا مضت قضى لألف سنة أخرى ، ثم كذلك أبدا . قاله مجاهد . وقيل : الهاء للعروج . وقيل : المعنى أنه يدبر أمر الدنيا إلى أن تقوم الساعة ، ثم يعرج إليه ذلك الأمر فيحكم فيه في يوم كان مقداره ألف سنة . وقيل : المعنى يدبر أمر الشمس في طلوعها وغروبها ورجوعها إلى موضعها من الطلوع ، في يوم كان مقداره في المسافة ألف سنة . وقال ابن عباس : المعنى كان مقداره لو ساره غير الملك ألف سنة ؛ لأن النزول خمسمائة والصعود خمسمائة . وروي ذلك عن جماعة من المفسرين ، وهو اختيار الطبري . ذكره المهدوي . وهو معنى القول الأول . أي أن جبريل لسرعة سيره يقطع مسيرة ألف سنة في يوم من أيامكم . ذكره الزمخشري . وذكر الماوردي على ابن عباس والضحاك أن الملك يصعد في يوم مسيرة ألف سنة . وعن قتادة أن الملك ينزل ويصعد في يوم مقداره ألف سنة ، فيكون مقدار نزوله خمسمائة سنة ، ومقدار صعوده خمسمائة على قول قتادة والسدي . وعلى قول ابن عباس والضحاك : النزول ألف سنة ، والصعود ألف سنة . " مما تعدون " أي مما تحسبون من أيام الدنيا . وهذا اليوم عبارة عن زمان يتقدر بألف سنة من سني العالم ، وليس بيوم يستوعب نهارا بين ليلتين ؛ لأن ذلك ليس عند الله . والعرب قد تعّبر عن مدة العصر باليوم ، كما قال الشاعر :

يومان يومُ مقامات وأندية *** ويومُ سير إلى الأعداء تأويبُ{[12641]}

وليس يريد يومين مخصوصين ، وإنما أراد أن زمانهم ينقسم شطرين ، فعّبر عن كل واحد من الشطرين بيوم . وقرأ ابن أبي عبلة : " يعرج " على البناء للمفعول . وقرئ : " يعدون " بالياء . فأما قوله تعالى : " في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة " فمشكل مع هذه الآية . وقد سأل عبد الله بن فيروز الديلمي عبد الله بن عباس عن هذه الآية وعن قوله : " في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة " فقال : أيام سمّاها سبحانه ، وما أدري ما هي ؟ فأكره أن أقول فيها ما لا أعلم . ثم سئل عنها سعيد بن المسيب فقال : لا أدري . فأخبرته بقول ابن عباس فقال ابن المسيب للسائل : هذا ابن عباس اتقى أن يقول فيها وهو أعلم مني . ثم تكلم العلماء في ذلك فقيل : إن آية " سأل سائل " [ المعارج : 1 ] هو إشارة إلى يوم القيامة ، بخلاف هذه الآية . والمعنى : أن الله تعالى جعله في صعوبته على الكفار كخمسين ألف سنة . قاله ابن عباس . والعرب تصف أيام المكروه بالطول وأيام السرور بالقصر . قال :

ويوم كظل الرمح قصَّر طولَه *** دَمُ الزّق عنا واصطفاقُ المزاهر

وقيل : إن يوم القيامة فيه أيام ، فمنه ما مقداره ألف سنة ومنه ما مقداره خمسون ألف سنة . وقيل : أوقات القيامة مختلفة ، فيعذب الكافر بجنس من العذاب ألف سنة ، ثم ينتقل إلى جنس آخر مدته خمسون ألف سنة . وقيل : مواقف القيامة خمسون موقفا ، كل موقف ألف سنة . فمعنى : " يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة " أي مقدار وقت ، أو موقف من يوم القيامة . وقال النحاس : اليوم في اللغة بمعنى الوقت ، فالمعنى : تعرج الملائكة والروح إليه في وقت كان مقداره ألف سنة ، وفي وقت آخر كان مقداره خمسين ألف سنة . وعن وهب بن منبه : " في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة " قال : ما بين أسفل الأرض إلى العرش . وذكر الثعلبي عن مجاهد وقتادة والضحاك في قوله تعالى : " تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة " {[12642]} [ المعارج : 4 ] أراد من الأرض إلى سدرة المنتهى التي فيها جبريل . يقول تعالى : يسير جبريل والملائكة الذين معه من أهل مقامه مسيرة خمسين ألف سنة في يوم واحد من أيام الدنيا . وقوله : " إليه " يعني إلى المكان الذي أمرهم الله تعالى أن يعرجوا إليه . وهذا كقول إبراهيم عليه الصلاة والسلام : " إني ذاهب إلى ربي سيهدين " {[12643]} [ الصافات : 99 ] أراد أرض الشام . وقال تعالى : " ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله " {[12644]} [ النساء : 100 ] أي إلى المدينة . وقال أبو هريرة قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أتاني من ربي عز وجل برسالة ثم رفع رجله فوضعها فوق السماء والأخرى على الأرض لم يرفعها بعد ) .


[12638]:راجع ج 9 ص 279 فما بعد.
[12639]:راجع ج 13 ص 57.
[12640]:راجع ج 18 ص 278.
[12641]:البيت لسلامة بن جندل. والتأويب في كلام العرب: سير النهار كله إلى الليل. يقال: أوّب القوم تأويبا أي ساروا بالنهار.
[12642]:راجع ص 87 و 88 من هذا الجزء.
[12643]:راجع ج 15 ص 98.
[12644]:راجع ج 15 ص 347 فما بعد.