الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ ٱلۡأَجۡدَاثِ إِلَىٰ رَبِّهِمۡ يَنسِلُونَ} (51)

قوله تعالى :{ ونفخ في الصور } هذه النفخة الثانية للنشأة . وقد بينا في سورة ( النمل ){[13226]} أنهما نفختان لا ثلاث . وهذه الآية دالة على ذلك . وروى المبارك بن فضالة عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( بين النفختين أربعون سنة : الأولى يميت الله بها كل حي ، والأخرى يحيي الله بها كل ميت ) . وقال قتادة : الصور جمع صورة ؛ أي نفخ في الصور والأرواح . وصورة وصور مثل سورة البناء وسور . قال العجاج :

ورُبَّ ذي سُرادق محجورِ *** سرتُ إليه في أعالي السُّورِ

وقد روي عن أبي هريرة أنه قرأ : " ونفخ في الصور " . النحاس : والصحيح أن " الصور " بإسكان الواو : القرن ؛ جاء بذلك التوقيف عن رسول الله ، وذلك معروف في كلام العرب . أنشد أهل اللغة :

نحن نطحناهم غداةَ الغُورَيْن *** بالضَّابحات في غبار النَّقْعَيْن

نطحا شديدا لا كنطح الصُّورَيْن

وقد مضى هذا في " الأنعام " {[13227]} مستوفى . " فإذا هم من الأجداث " أي القبور . وقرئ بالفاء " من الأجداف " ذكره الزمخشري . يقال : جدث وجدف . واللغة الفصيحة الجدث ( بالثاء ) والجمع أجدث وأجداث . قال المتنخل الهذلي :

عرفتُ بأجْدُثٍ فنِعافِ عِرْقٍ *** علاماتٍ كتحبيرِ النِّمَاطِ

واجتدث : أي اتخذ جدثا . " إلى ربهم ينسلون " أي يخرجون . قاله ابن عباس وقتادة . ومنه قول امرئ القيس :

فسُلِّي ثيابي من ثيابك تَنْسُلِي

ومنه قيل للولد نسل ؛ لأنه يخرج من بطن أمه . وقيل : يسرعون . والنسلان والعسلان : الإسراع في السير ، ومنه مشية الذئب ، قال{[13228]} :

عَسَلانَ الذئبِ أمسى قَارِبًا *** بَرَدَ الليلُ عليه فَنَسَلْ

يقال : عسل الذئب ونسل ، يعسل وينسل ، من باب ضرب يضرب . ويقال : ينسل بالضم أيضا . وهو الإسراع في المشي ، فالمعنى يخرجون مسرعين . وفي التنزيل : " ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة " [ لقمان : 28 ] ، وقال : " يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر " [ القمر :7 ] ، وفي " سأل سائل " [ المعارج : 1 ] " يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون " [ المعارج : 43 ] أي يسرعون . وفي الخبر : شكونا إلى النبي صلى الله عليه وسلم الضعف فقال : ( عليكم بالنسل ) أي بالإسراع في المشي فإنه ينشط .


[13226]:راجع ج 13 ص 239 طبعة أولى أو ثانية.
[13227]:راجع ج 7 ص 20 وما بعدها طبعة أولى أو ثانية.
[13228]:البيت للبيد، وقيل هو للنابغة الجعدي.