اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ ٱلۡأَجۡدَاثِ إِلَىٰ رَبِّهِمۡ يَنسِلُونَ} (51)

ثم بين ما بعد الصيحة الأولى فقال : { وَنُفِخَ فِي الصور } أي نفخ فيه أخرى كقوله تعالى : { ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ } [ الزمر : 68 ] وقرأ الأعرج ونفخ في الصور بفتح الواو{[46355]} . وهي القبور واحدها جَدَث ، وقرئ من الأجدافِ{[46356]} بالفاء ، وهو لغة في الأجداث يقال : جَدَث ، وجَدَف كثمَّ وفُمَّ ، وثُوم ، وفُوم{[46357]} .

فإن قيل : أين{[46358]} يكون ذلك الوقت أجداث وقد زلزت الصيحة الجبال ؟ .

فالجواب : أن الله يجمع أجزاء كل ميت في الموضع الذي أقْبِرَ فيه من ذلك الموضع وهو جدثه .

قوله : { إلى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ } أي يخرجون من القبور أحياء . وقرأ ابنُ أبي إسحاق وأبو عمرو في رواية : يَنْسُلُونَ{[46359]} بضم السين ، يقال : نَسَلَ الثعلبُ يَنْسِلُ وَينْسُلُ إذا أسرع في عَدْوِهِ ، ومنه قيل للولد : نَسَل لخروجه من ظهر أبيه وبطن أمه{[46360]} .

فإن قيل : المسيء{[46361]} إذا توجه إلى من أحسن إليه يقدم رِجْلاً ويؤخر أخرى والنَّسلاَن سرعة الشيء فكيف يوجد بينهم ذلك ؟

فالجواب : ينسلون من غير اختيارهم والمعنى أنه أراد أن يبين كمال قدرته ونفوذ إرادته حيث ينفخ في الصور فيكون في وقته جمع وإحياء وقيام وعدو في زمان واحد ، فقوله : «إذَا هُمْ يَنْسِلُونَ » أي في زمان واحد ينتهون إلى هذه الدرجة وهي النسلان الذي لا يكون إلا بعد مراتب .

فإن قيل : قال في آية { فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ } [ الزمر : 68 ] وقال ههنا : { فَإِذَا هُم مِّنَ الأجداث إلى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ } والقيام غير النسلان فقوله في الموضعين : «إذا هم » يقتضي أن يكونا معاً .

فالجواب من وجهين :

الأول : أن القيام لا ينافي المشي السريع لأن الماشي قائم ولا ينافي النظر .

الثاني : أن لسرعة{[46362]} الأمور كأن الكل في زمان واحد كقول القائل :

4183- مِكَرِّ مِفَرِّ مُقْبِل مُدْبِرٍ مَعاً . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[46363]}

واعلم أن النفختين تورثان تزلزلاً وانقلاباً للأجرام فعند اجتماع{[46364]} الأجرامِ يُفَرِّقها . وهو المراد بالنفخة الأولى وعند تفرق الأجرام يجمعها وهو النفخة الثانية .


[46355]:ذكرها أبو الفتح في المحتسب 2/212 وهي من الشواذ وانظر كذلك الزمخشري في كشافه 3/325. وقد أنكر الزجاج هذه إن قرئت فلم يعترف بأن قارئا قرأها بالفعل فقال: "وما قرأ أحد أحسن صوركم ولا قرأ أحد ونفخ في الصور من وجه يثبت" 4/290.
[46356]:ذكرها الزمخشري في الكشاف 3/325 وأبو حيان في البحر 7/341.
[46357]:انظر: الإبدال لابن السكيت 125: 127 وأمالي القالي 2/34.
[46358]:الرازي 26/88.
[46359]:لم أجدها عنه في المتواتر انظر: مختصر ابن خالويه 125 والكشاف 3/326.
[46360]:انظر: اللسان: "4413" والمصدر النسلان.
[46361]:الرازي 26/87 و 88.
[46362]:في ب سرعة والرازي موافق ل "أ".
[46363]:صدر بيت من الطويل عجزه:.................................... كجلمود صخر حطه السيل من عل وهو يصف فرسه النشيط بصفات كثيرة الكرور والفرار والإقبال والإدبار. وهذه مبالغة في سرعته الخارقة وعدم بلادته. ومحل الشاهد: أن لسرعة هذا الحصان كأنه يفعل هذه الأشياء في زمن ومكان واحد. وانظر: شذور الذهب 147، والمحتسب 2/342 وابن يعيش 4/89 والتصريح 2/54 والهمع 1/210 وحاشية الدمنهوري 81 والفخر الرازي 26/88 والكتاب 4/228، والمغني 154.
[46364]:في ب إجماع.