الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{أَمۡ يَحۡسُدُونَ ٱلنَّاسَ عَلَىٰ مَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦۖ فَقَدۡ ءَاتَيۡنَآ ءَالَ إِبۡرَٰهِيمَ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَءَاتَيۡنَٰهُم مُّلۡكًا عَظِيمٗا} (54)

فيه أربع مسائل :

الأولى : قوله تعالى : " أم يحسدون " يعني اليهود . " الناس " يعني النبي صلى الله عليه وسلم خاصة ، عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما . حسدوه على النبوة وأصحابه على الإيمان به . وقال قتادة : " الناس " العرب ، حسدتهم اليهود على النبوة . الضحاك : حسدت اليهود قريشا ؛ لأن النبوة فيهم . والحسد مذموم وصاحبه مغموم وهو يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب ، رواه أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم . وقال الحسن : ما رأيت ظالما أشبه بمظلوم من حاسد ، نفس دائم ، وحزن لازم ، وعبرة لا تنفد . وقال عبدالله بن مسعود : لا تعادوا نعم الله . قيل له : ومن يعادي نعم الله ؟ قال : الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله ، يقول الله تعالى في بعض الكتب : الحسود عدو نعمتي متسخط لقضائي غير راض بقسمتي . ولمنصور الفقيه :

ألا قل لمن ظل لي حاسدا *** أتدري على من أسأت الأدب

أسأت على الله في حكمه *** إذا أنت لم ترض لي ما وهب

ويقال : الحسد أول ذنب عصي الله به في السماء ، وأول ذنب عصي به في الأرض ؛ فأما في السماء فحسد إبليس لآدم ، وأما في الأرض فحسد قابيل لهابيل . ولأبي العتاهية في الناس :

فيا رب إن الناس لا ينصفونني *** فكيف ولو أنصفتهم ظلموني

وإن كان لي شيء تصدَّوْا لأخذه *** وإن شئت أبغي شيئهم منعوني

وإن نالهم بذلي فلا شكر عندهم *** وإن أنا لم أبذل لهم شتموني

وإن طرقتني نكبةٌ فكهوا بها *** وإن صحبتني نعمة حسدوني

سأمنع قلبي أن يحن إليهمو *** وأحجب عنهم ناظري وجفوني

وقيل : إذا سرك أن تسلم من الحاسد فغم عليه أمرك . ولرجل من قريش :

حسدوا النعمة لما ظهرت *** فرموها بأباطيل الكلم

وإذا ما الله أسدى نعمة *** لم يضرها قول أعداء النعم

ولقد أحسن من قال :

اصبر على حسد الحسو *** د فإن صبرك قاتله

فالنار تأكل بعضها *** إن لم تجد ما تأكله

وقال بعض أهل التفسير في قول الله تعالى : " ربنا أرنا الذين أضلانا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين{[4563]} " [ فصلت : 29 ] . إنه إنما أراد بالذي{[4564]} من الجن إبليس والذي من الإنس قابيل ، وذلك أن إبليس كان أول من سن الكفر ، وقابيل كان أول من سن القتل ، وإنما كان أصل ذلك كله الحسد . وقال الشاعر :

إن الغراب وكان يمشي مشية *** فيما مضى من سالف الأحوال

حسد القطاة فرام يمشي مشيها *** فأصابه ضرب من التَّعْقَالِ

الثانية : قوله تعالى : " فقد آتينا " ثم أخبر تعالى أنه آتى آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتاهم ملكا عظيما . قال همام بن الحارث : أيدوا بالملائكة . وقيل : يعني ملك سليمان ، عن ابن عباس . وعنه أيضا : المعنى أم يحسدون محمدا على ما أحل الله له من النساء فيكون الملك العظيم على هذا أنه أحل لداود تسعا وتسعين امرأة ولسليمان أكثر من ذلك . واختار الطبري أن يكون المراد ما أوتيه سليمان من الملك وتحليل النساء . والمراد تكذيب اليهود والرد عليهم في قولهم : لو كان نبيا ما رغب في كثرة النساء ولشغلته النبوة عن ذلك ، فأخبر الله تعالى بما كان لداود وسليمان يوبخهم ، فأقرت اليهود أنه اجتمع عند سليمان ألف امرأة ، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : ألف امرأة ؟ قالوا : نعم ثلاثمائة مهرية ، وسبعمائة سرية ، وعند داود مائة امرأة . فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : ( ألف عند رجل ومائة عند رجل أكثر أو تسع نسوة ) ؟ فسكتوا . وكان له يومئذ تسع نسوة .

الثالثة : يقال : إن سليمان عليه السلام كان أكثر الأنبياء نساء . والفائدة في كثرة تزوجه أنه كان له قوة أربعين نبيا ، وكل من كان أقوى فهو أكثر نكاحا . ويقال : إنه أراد بالنكاح كثرة العشيرة ؛ لأن لكل امرأة قبيلتين قبيلة من جهة الأب وقبيلة من جهة الأم ، فكلما تزوج امرأة صرف وجوه القبيلتين إلى نفسه فتكون عونا له على أعدائه . ويقال : إن كل من كان أتقى فشهوته أشد ؛ لأن الذي لا يكون تقيا فإنما يتفرج بالنظر والمس ، ألا ترى ما روى في الخبر : ( العينان تزنيان واليدان تزنيان ) . فإذا كان في النظر والمس نوع من قضاء الشهوة قل الجماع ، والمتقي لا ينظر ولا يمس فتكون الشهوة مجتمعة في نفسه فيكون أكثر جماعا . وقال أبو بكر الوراق : كل شهوة تقسي القلب إلا الجماع فإنه يصفي القلب ؛ ولهذا كان الأنبياء يفعلون ذلك .


[4563]:راجع ج 15 ص 357.
[4564]:في ج: اللذين.