لطائف الإشارات للقشيري - القشيري  
{فَلَمَّآ أَتَىٰهَا نُودِيَ مِن شَٰطِيِٕ ٱلۡوَادِ ٱلۡأَيۡمَنِ فِي ٱلۡبُقۡعَةِ ٱلۡمُبَٰرَكَةِ مِنَ ٱلشَّجَرَةِ أَن يَٰمُوسَىٰٓ إِنِّيٓ أَنَا ٱللَّهُ رَبُّ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (30)

أخفى تعيين قَدَم موسى على الظنون بهذا الخطاب حيث قال : " من شاطئ الواد الأيمن " ، ثم قال : " في البقعة المباركة " ثم قال " من الشجرة " .

وأخْلِقْ بأن تكون تلك البقعة مباركة ، فعندها سَمِعَ خطابَ مولاه بلا واسطة ؛ وأعِزُّ الأماكنِ في العالمِ مَشْهَدُ الأحباب :

وإني لأهوى الدارَ ما يستعزني *** لها الود إلا أنها من دياركا

ويقال كم قَدَمٍ وَطَئَتْ لك البقعة ، ولكن لم يسمع أصحابُها بها شيئاً ! . . وكم ليلةٍ جَنَّت تلك البقعة ولم يظهر من تلك النار فيها شعلة ! .

ويقال : شتَّان بين شجرة وشجرة ؛ شجرة آدم عندها ظهور محنتِه وفتنتِه ، وشجرة موسى وعندها افتتاح نُبُوَّتِه ورسالتِه ! .

ويقال : لم يأتِ بالتفصيل نوعُ تلك الشجرة ، ولا يُدْرَى ما الذي كانت تثمره ، بل هي شجرة الوصلة ؛ وثمرتها القربة ، وأصلُها في أرض المحبة وفَرْعُها باسِقٌ في سماء الصفوة ، وأوراقها الزلفة ، وأزهارها تَنْفَتِقُ عن نسيم الرَّوْح والبهجة :

فلمَّا سمع موسى تغيَّر عليه الحال ؛ ففي القصة : أنه غُشِي عليه ، وأرسل اللَّهُ إليه الملائكة لِيُرِّوحوه بمراوح الأُنْس ، وهذا كان في ابتداء الأمر ، والمبتدئ مرفوقٌ به . وفي المرة الأخرى خرَّ موسى صَعِقاً ، وكان يفيق والملائكة تقوله له : يا ابن الحيض . أمثلك مَنْ يسأل الرؤية ؟ ! .

وكذا الحديث والقصة ؛ في البداية لُطْفٌ وفي النهاية عُنْفٌ ، في الأولِ خَتْل وفي الآخرِ قَتْل ، كما قيل :

فلمَّا دارت الصهباءُ *** دعا بالنَّطع والسيفِ

كذا مَنْ يشرب الراح *** مع التِّنِّين في الصيفِ