( يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ) . .
وقد رأينا كيف حقق ذلك عيد الله بن عيد الله بن أبي ! وكيف لم يدخلها الأذل إلا بإذن الأعز !
( ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين . ولكن المنافقين لا يعلمون ) . .
ويضم الله - سبحانه - رسوله والمؤمنين إلى جانبه ، ويضفي عليهم من عزته ، وهو تكريم هائل لا يكرمه إلا الله ! وأي تكريم بعد أن يوقف الله - سبحانه - رسوله والمؤمنين معه إلى جواره . ويقول : ها نحن أولاء ! هذا لواء الأعزاء . وهذا هو الصف العزيز !
وصدق الله . فجعل العزة صنو الإيمان في القلب المؤمن . العزة المستمدة من عزته تعالى . العزة التي لا تهون ولا تهن ، ولا تنحني ولا تلين . ولا تزايل القلب المؤمن في أحرج اللحظات إلا أن يتضعضع فيه الإيمان . فإذا استقر الإيمان ورسخ فالعزة معه مستقرة راسخة . .
( ولكن المنافقين لا يعلمون ) . .
وكيف يعلمون وهم لا يتذوقون هذه العزة ولا يتصلون بمصدرها الأصيل ?
{ يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إلى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الاعز مِنْهَا الاذل } قائله كما سمعت ابن أبي ، وعنى بالأعز نفسه أو ومن يلوذ به ، وبالأذل من أعزه الله عز وجل وهو الرسول صلى الله عليه وسلم أو هو عليه الصلاة والسلام والمؤمنون ، وإسناد القول المذكور إلى جميعهم لرضاؤهم به كما في سابقه .
وقرأ الحسن . وابن أبي عبلة . والسبتي في اختياره لنخرجن بالنون ، ونصب { الاعز } على أن { لَيُخْرِجَنَّ الاعز } مفعول به ، و { الاذل } إما حال بناءاً على جواز تعريف الحال ، أو زيادة أل فيه نحو أرسلها العراك ، وأدخلوا الأول فالأول وهو المشهور في تخريج ذلك ، أو حال بتقدير مثل وهو لا يتعرف بالإضافة أي مثل الأذل ، أو مفعول به لحال محذوفة أي مشبهاً الأذل ، أو مفعول مطلق على أن الأصل إخراج الأذل فحذف المصدر المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فانتصب انتصابه .
وحكى الكسائي . والفراء أن قوماً قرأوا ليخرجن بالياء مفتوحة وضم الراء . ورفع { الاعز } على الفاعلية . ونصب { الاذل } على ما تقدم ، بيد أنك تقدر على تقدير النصب على المصدرية خروج ، وقرئ ليخرجن بالياء مبنياً للمفعول ، ورفع { الاعز } على النيابة عن الفاعل ، ونصب { الاذل } على ما مر .
وقرأ الحسن فيما ذكر أبو عمرو الداني لنخرجن بنون الجماعة مفتوحة وضم الراء ، ونصب { الاعز } ، وحكى هذه القراءة أبو حاتم ، وخرجت على أن نصب { لَيُخْرِجَنَّ الاعز } على الاختصاص كما في قولهم : نحن العرب أقرئ الناس للضيف ، ونصب { الاذل } على أحد الأوجه المارة فيما حكاه الكسائي . والفراء ، والمقصود إظهار التضجر من المؤمنين وأنهم لا يمكنهم أن يساكنوهم في دار كذا قيل : وهو كما ترى ، ولعل هذه القراءة غير ثابة عن الحسن ، وقوله تعالى : { وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } رد لما زعموه ضمناً من عزتهم وذل من نسبوا إليه الذل ، وحاشاه منه أي ولله تعالى الغلبة والقوة ولمن أعزه الله تعالى من رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين لا للغير ، ويعلم مما أشرنا إليه توجيه الحصر المستفاد من تقديم الخبر ، وقيل : إن العطف معتبر قبل نسبة الإسناد فلا ينافي ذلك ولا يضر إعادة الجار لأنها ليست لإفادة الاستقلال في النسبة بل لإفادة تفاوت ثبوت العزة فإن ثبوتها لله تعالى ذاتي وللرسول صلى الله عليه وسلم بواسطة الرسالة وللمؤمنين بواسطة الإيمان ، وجاء من عدة طرق أن عبد الله بن أبي وكان مخلصاً سل سيفه على أبيه عندما أشرفوا على المدينة فقال : والله على أن لا أغمده حتى تقول : محمد الأعز وأنا الأذل فلم يبرح حتى قال ذلك ، وفي رواية أنه رضي الله تعالى عنه وقف والناس يدخلون حتى جاء أبوه فقال : وراءك ، قال : ما لك ويلك ؟ا قال : والله لا تدخلها أبداً إلا أن يأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولتعلمن اليوم الأعز من الأذل فرجع حتى لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكا إليه ما صنع ابنه فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن خل عنه يدخل ففعل ؛ وصح من رواية الشيخين . والترمذي . وغيرهم عن جابر بن عبد الله أنه لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال ابن أبي قام عمر رضي الله تعالى عنه فقال : يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «دعه لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه » وفي رواية عن قتادة أنه قال له عليه الصلاة والسلام : يا نبي الله مر معاذاً أن يضرب عنق هذا المنافق ، فقال صلى الله عليه وسلم ، وفي الآية من الدلالة على شرف المؤمنين ما فيها ، ومن هنا قالت بعض الصالحات وكانت في هيئة رثة : ألست على الإسلام وهو العز الذي لا ذل معه والغني الذي لا فقر معه .
وعن الحسن بن علي على رسول الله وعليهما الصلاة والسلام أن رجلاً قال له : إن الناس يزعمون أن فيك تيهاً قال : ليس بتيه ولكنه عزة وتلا هذه الآية ، وأريد بالتيه الكبر ، وأشار العز إلى أن العزة غير الكبر ، وقد نص على ذلك أبو حفص السهر وردي قدس سره فقال : العزة غير الكبر لأن العزة معرفة الإنسان بحقيقة نفسه وإكرامها أن لا يضعها لأقسام عاجلة كما أن الكبر جهل الإنسان بنفسه وإنزالها فوق منزلتها ، فالعزة ضد الذلة كما أن الكبر ضد التواضع ، وفسر الراغب العزة بحالة مانعة للإنسان من أن يغلب من قولهم : أرض عزاز أي صلبة وتعزز اللحم اشتد كأنه حصل في عزاز يصعب الوصول إليه ، وقد تستعار للحمية والأنفة المذمومة وهي بهذا المعنى تثبت للكفرة ، وتفسيرها بالقوة والغلبة كما سمعت شائع ولك أن تريد بها هنا الحالة المانعة من المغلوبية فأنها أيضاً ثابتة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين على الوجه اللائق بكل .
{ ولكن المنافقين لاَ يَعْلَمُونَ } من فرط جهلهم وغرورهم فيهذون ما يهذون والفعل هنا منزل منزلة اللازم فلذا لم يقدر له مفعول ولا كذلك الفعل فيما تقدم ، وهو ما اختاره غير واحد من الأجلة ، وقيل في وجهه : إن كون العزة لله عز وجل مستلزم لكون الأرزاق بيده دون العكس فناسب أن يعتبر الأخلاق في الجملة المذيلة لما يفيد كون العزة له سبحانه قصداً للمبالغة والتقييد للجملة المذيلة لما يفيد كون الأرزاق بيده تعالى ، ثم قيل : خص الجملة الأولى ب { لاَّ يَفْقَهُونَ } [ المنافقون : 7 ] والثانية ب { لاَّ يَعْلَمُونَ } لأن إثبات الفقه للإنسان أبلغ من إثبات العلم له فيكون نفي العلم أبلغ من نفي الفقه فأوثر ما هو أبلغ لما هو ادعى له .
وعن الراغب معنى قوله تعالى : { هُمُ الذين يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ } [ المنافقون : 7 ] الخ أنهم يأمرون بالإضرار بالمؤمنين وحبس النفقات عنهم ولا يفطنون أنهم إذا فعلوا ذلك أضروا بأنفسهم فهم لا يفقهون ذلك ولا يفطنون له ، ومعنى الثاني إيعادهم بإخراج الأعز للأذل ، وعندهم أن الأعز من له القوة والغلبة على ما كانوا عليه في الجاهلية فهم لا يعلمون أن هذه القدرة التي يفضل بها الإنسان غيره إنما هي من الله تعالى فهي له سبحانه ولمن يخصه بها من عباده ، ولا يعلمون أن الذل لمن يقدرون فيه العزة وأن الله تعالى معز أوليائه بطاعتهم له ومذل أعدائه بمخالفتهم أمره عز وجل ، فقد اختص كل آية بما اقتضاه معناها فتدبر ، والإظهار في مقام الإضمار لزيادة الذم مع الإشارة إلى علة الحكم في الموضعين .
{ يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ } وذلك في غزوة المريسيع ، حين صار بين بعض المهاجرين والأنصار ، بعض كلام كدر الخواطر ، ظهر حينئذ نفاق المنافقين ، وأظهروا ما في نفوسهم{[1106]} .
وقال كبيرهم ، عبد الله بن أبي بن سلول : ما مثلنا ومثل هؤلاء -يعني المهاجرين- إلا كما قال القائل : " غذ كلبك يأكلك " {[1107]}
وقال : لئن رجعنا إلى المدينة { لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ } بزعمه أنه هو وإخوانه من المنافقين الأعزون ، وأن رسول الله ومن معه{[1108]} هم الأذلون ، والأمر بعكس ما قال هذا المنافق ، فلهذا قال [ تعالى : ] { وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } فهم الأعزاء ، والمنافقون وإخوانهم من الكفار [ هم ] الأذلاء . { وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ } ذلك زعموا أنهم الأعزاء ، اغترارًا بما هم عليه من الباطل ، ثم قال تعالى : } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ }
قوله : { يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل } يريد المنافقون بذلك أنهم هم الأعزاء أي الأشداء والأقوياء . وأن نبي الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أذلاء . وقائل ذلك عبد الله بن أبيّ وهو رأس المنافقين في المدينة وهم راضون عن مقالته هذه وهي : لئن رجعنا من هذه الغزوة إلى المدينة { ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين } ذلك إعلان من الله كبير ، يبينه للناس ، وهو أن القوة والمنعة والغلبة لله وحده ولمن يكتبها له من عباده المرسلين والمؤمنين . فلا ريب أن الله لهو القوي القادر القاهر الغالب وأن أولياءه من النبيين والصالحين أقوياء في يقينهم وعزائمهم وهممهم وإرادتهم . فليست العزة بكثرة المال أو الجاه وإنما العزة بقوة العقيدة الراسخة والإيمان الوطيد ، وما ينشأ عن ذلك من طمأنينة ويقين يجدهما المؤمن في قلبه فيستشعر بذلك . يرد السكينة والرضى . وبغير ذلك لا يكون الناس إلا واهمين واهنين مهزومين .
قوله : { ولكن المنافقين لا يعلمون } المنافقون بسبب ضلالهم وفساد قلوبهم ، الجاحدة لا يوقنون أن العزة لله وحده ولرسوله والمؤمنين . فهم إنما يظنون أن العزة إنما سببها متاع الحياة الدنيا وزينتها من المال والأولاد والجاه{[4548]} .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: يقول هؤلاء المنافقون الذين وصف صفتهم قبل" لَئِنْ رَجَعْنا إلى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنّ الأعَزّ مِنْها الأذَلّ "فيها، ويعني بالأعزّ: الأشدّ والأقوى، قال الله جلّ ثناؤه: "ولِلّهِ العِزّةُ" يعني: الشدّة والقوّة "وَلِرَسُولِهِ ولِلْمُؤمِنِينَ بالله وَلَكِنّ المُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ" ذلك...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أحدها: الأغلب الأقهر على مثال قوله تعالى: {وعزني في الخطاب} [ص: 23] أي غلبني في الخصومة.
والثاني: الأقوى والأشد على مثال قوله تعالى: {أعزة على الكافرين} (المائدة: 54). والثالث: الأعلى والأجل، وكذلك قوله تعالى: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين}. فإن كان على الأعلى والأجل فذلك أن المؤمنين أعلى وأجل لأنهم اتبعوا الحكمة بالحجج، والكفار اتبعوا أهواءهم. وإن كان على الأغلب والأقهر فذلك للمؤمنين بالغلبة والنصرة على أعدائهم. وإن كان على القوة والشدة فقد كان ذلك للمؤمنين، لأنه لو لم يوجد ذلك للمؤمنين لم يكن أهل النفاق يظهرون الوفاق للمؤمنين. ولكنهم لما رأوا القوة والشدة للمؤمنين مرة وللكفار أخرى أظهروا الموافقة للفريقين جميعا.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} فعزّة اللّه سبحانه قهر مَن دونه، وعزّة رسوله إظهار دينه على الأديان كلّها، وعزّة المؤمنين نصره إيّاهم على أعدائهم فهم ظاهرون...
{وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ}...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
ثم أخبر عنهم فقال: (يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز) يعنون نفوسهم (منها الأذل) يعنون رسول الله والمؤمنين...
(ولكن المنافقين لا يعلمون) ذلك فيظنون أن العزة لهم، وذلك بجهلهم بصفات الله وما يستحقه أولياؤه وما يعمل بهم. والأعز: الأقدر على منع غيره، وأصل الصفة المنع، فلذلك لم يكن أحد أعز من الله ولا أذل من المنافق...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
إنما وقع لهم الغَلَطُ في تعيين الأعزِّ والأذَلِّ؛ فتوَهَّموا أنَّ الأعزَّ هم المنافقون، والأذلَّ هم المسلمون، ولكن الأمر بالعكس، فلا جَرَمَ غَلَبَ الرسولُ صلى الله عليه وسلم والمسلمون، وأُذِلَّ المنافقون بقوله: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}: لله عِزُّ الإلهية، وللرسول عِزُّ النبوَّة، وللمؤمنين عِزُّ الولاية. وجميعُ ذلك لله؛ فعِزُّه القديم صِفَتُه، وعِزُّ الرسولِ وعِزُّ المؤمنين له فِعْلاً ومِنَّةً وفَضْلاً، فإذاً لله العِزَّةُ جميعاً.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَلِلَّهِ العزة} الغلبة والقوّة، ولمن أعزه الله وأيده من رسوله ومن المؤمنين، وهم الأخصاء بذلك، كما أنّ المذلة والهوان للشيطان وذويه من الكافرين والمنافقين...
قال بعض العارفين في تحقيق هذا المعنى: العزة غير الكبر، ولا يحل للمؤمن أن يذل نفسه، فالعزة معرفة الإنسان بحقيقة نفسه وإكرامها عن أن يضعها لأقسام عاجلة دنيوية. كما أن الكبر جهل الإنسان بنفسه وإنزالها فوق منزلها، فالعزة تشبه الكبر من حيث الصورة، وتختلف من حيث الحقيقة كاشتباه التواضع بالضعة والتواضع محمود، والضعة مذمومة، والكبر مذموم، والعزة محمودة، ولما كانت غير مذمومة وفيها مشاكلة للكبر، قال تعالى: {ذلكم بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق} وفيه إشارة خفية لإثبات العزة بالحق، والوقوف على حد التواضع من غير انحراف إلى الضعة وقوف على صراط العزة المنصوب على متن نار الكبر، فإن قيل: قال في الآية الأولى: {لا يفقهون} وفي الأخرى {لا يعلمون} فما الحكمة فيه؟ فنقول: ليعلم بالأول قلة كياستهم وفهمهم، وبالثاني كثرة حماقتهم وجهلهم، ولا يفقهون من فقه يفقه، كعلم يعلم، ومن فقه يفقه: كعظم يعظم، والأول لحصول الفقه بالتكلف والثاني لا بالتكلف، فالأول علاجي، والثاني مزاجي.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ودل على عدم فقههم بقوله تعالى: {يقولون} أي يوجدون هذا القول ويجددونه مؤكدين له لاستشعارهم بأن أكثر قومه ينكره: {لئن رجعنا} أي نحن أيتها العصابة المنافقة من غزاتنا هذه -التي قد رأوا فيها من نصرة النبي صلى الله عليه وسلم ما يعجز الوصف وهي غزوة بني المصطلق حي من هذيل بالمريسيع وهو ماء من مياههم من ناحية قديد إلى الساحل وفيها تكلم ابن أبي بالإفك وأشاعه- {إلى المدينة} و دلوا على تصميمهم على عدم المساكنة بقولهم: {ليخرجن الأعز} يعنون أنفسهم {منها الأذل} وهم كاذبون في هذا، لكنهم تصوروا لشدة غباوتهم أن العزة لهم وأنهم يقدرون على إخراج المؤمنين {ولله} أي والحال أن كل من له نوع بصيرة يعلم أن للملك الأعلى الذي له وحده عز الإلهية {العزة} كلها، فهو قهار لمن دونه وكل ما عداه دونه. ولما حصر العزة بما دل على ذلك من تقديم المعمول، أخبر أنه يعطي منها من أراد وأحقهم بذلك من أطاعه فترجم ذلك بقوله: {ولرسوله} لأن عزته من عزته بعز النبوة والرسالة وإظهار الله دينه على الدين كله، وكذلك أيضاً أن العزة لمن أطاع الرسول بقوله: {وللمؤمنين} أي الذين صار الإيمان لهم وصفاً راسخاً لأن عزتهم بعزة الولاية، ونصر الله إياهم عزة لرسولهم صلى الله عليه وسلم، ومن تعزز بالله لم يلحقه ذل... {ولكن المنافقين} أي الذين استحكم فيهم مرض القلوب. ولما كانت الدلائل على عزة الله لا تخفى على أحد لما تحقق من قهره للملوك وغيرهم بالموت الذي لم يقدر أحد على الخلاص منه ولا المنازعة فيه، ومن المنع من أكثر المرادات، ومن نصر الرسول وأتباعهم بإهلاك أعدائهم بأنواع الهلاك، وبأنه سبحانه ما قال شيئاً إلا تم ولا قالت الرسل شيئاً إلا صدقهم فيه، ختم الآية بالعلم الأعم من الفقه فقال: {لا يعلمون} أي لا لأحد لهم علم الآن، ولا يتجدد في حين من الأحيان، فلذلك هم يقولون مثل هذا الخراف...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل)..
وقد رأينا كيف حقق ذلك عيد الله بن عيد الله بن أبي! وكيف لم يدخلها الأذل إلا بإذن الأعز!
(ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين. ولكن المنافقين لا يعلمون)..
ويضم الله -سبحانه- رسوله والمؤمنين إلى جانبه، ويضفي عليهم من عزته، وهو تكريم هائل لا يكرمه إلا الله! وأي تكريم بعد أن يوقف الله -سبحانه- رسوله والمؤمنين معه إلى جواره. ويقول: ها نحن أولاء! هذا لواء الأعزاء. وهذا هو الصف العزيز!
وصدق الله. فجعل العزة صنو الإيمان في القلب المؤمن. العزة المستمدة من عزته تعالى. العزة التي لا تهون ولا تهن، ولا تنحني ولا تلين. ولا تزايل القلب المؤمن في أحرج اللحظات إلا أن يتضعضع فيه الإيمان. فإذا استقر الإيمان ورسخ فالعزة معه مستقرة راسخة..
وكيف يعلمون وهم لا يتذوقون هذه العزة ولا يتصلون بمصدرها الأصيل؟
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وأراد ب {الأعز} فريق الأنصار فإنهم أهل المدينة وأهل الأموال وهم أكثر عدداً من المهاجرين فأراد لَيُخْرجن الأنصار من مدينتهم مَن جاءها من المهاجرين. وقد أبطل الله كلامهم بقوله: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} وهو جواب بالطريقة التي تسمي القول بالموجَب في علم الجدل وهي مما يسمّى بالتسليم الجَدلي في علم آداب البحث. والمعنى: إن كان الأعزّ يخرج الأذلّ فإن المؤمنين هم الفريق الأعزّ. وعزتهم بكون الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم وبتأييد الله رسولَه صلى الله عليه وسلم وأولياءه لأن عزّة الله هي العزّة الحق المطلقة، وعزّة غيره ناقصة، فلا جرم أن أولياء الله هم الذين لا يُقهرون إذا أراد الله نصرهم ووعدهم به. فإن كان إخراجٌ من المدينة فإنما يُخرج منها أنتم يا أهل النفاق. وتقديم المسند على المسند إليه في {ولله العزة} لقصد القصر وهو قصر قلب، أي العزّة لله ولرسوله وللمؤمنين لا لكم كما تحسبون. وإعادة اللام في قوله: {ولرسوله} مع أن حرف العطف مُغن عنها لتأكيد عزّة الرسول صلى الله عليه وسلم وأنها بسبب عزّة الله ووعده إياه، وإعادة اللام أيضاً في قوله: {وللمؤمنين} للتأكيد أيضاً إذ قد تخفى عزتهم وأكثرهم في حال قلة وحاجة. والقول في الاستدراك بقوله: {ولكن المنافقين لا يعلمون} نظير القول آنفاً في قوله: {ولكن المنافقين لا يفقهون} [المنافقون: 7]. وعدل عن الإِضمار في قوله: {ولكن المنافقين لا يعلمون}. وقد سبق اسمهم في نظيرها قبلها لتكون الجملة مستقلة الدلالة بذاتها فتسير سير المثل. وإنما نفي عنهم هنا العلم تجهيلاً بسوء التأمل في أمارات الظهور والانحطاط فلم يفطنوا للإِقبال الذي في أحوال المسلمين وازدياد سلطانهم يوماً فيوماً وتناقص من أعدائهم فإن ذلك أمر مشاهد فكيف يظن المنافقون أن عزتهم أقوى من عزّة قبائل العرب الذين يَسقطون بأيدي المسلمين كلما غزوهم من يوم بدر فما بعده...