ومقام الصديقين مقام رفيع كما تصوره الأحاديث النبوية الشريفة . ومع علو هذا المقام فهو بفضل الله ميسور لمن أراد ، وليس وقفا على أفراد ولا على طائفة . فكل من يحقق إيمانه بالله ورسله يطمع في هذا المقام الرفيع ، ولا حجر على فضل الله :
( والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون ) . .
وتلك خاصية هذا الدين وميزته . إنه طريق مفتوح لجميع البشر ، وأفق يتطلع إليه الجميع ، ليس فيه احتكار للمقامات ، وليس فيه خصوصيات محجوزة لأناس بأعيانهم . وليس إلا العمل يصعد بصاحبه إلى أرقى الدرجات . إنه دين لا مجال فيه للطبقات المحفوظة المقام !
روى الإمام مالك في كتابه " الموطأ " عن صفوان بن سليم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد الخدري ، أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قال : " إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب ، لتفاضل ما بينهم " . . قالوا : يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم . قال : " بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين " . .
فهذه لمسة الإيمان . فأما لمسة الفداء فقوله بعد ذلك :
( والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم ) . .
والحديث عن مقام الشهداء ورد مرات في القرآن ، وتواترت به الأحاديث النبوية . فهذا الدين لا يقوم بغير حراسة ؛ ولا يتحقق في الأرض بغير جهاد . جهاد لتأمين العقيدة وتأمين الدعوة وحماية أهله من الفتنة وشريعته من الفساد . ومن ثم كان للشهداء في سبيل الله - وهم وحدهم الذين يسمون الشهداء - مقامهم ، وكان لهم قربهم من ربهم . القرب الذي يعبر عنه بأنهم ( عند ربهم ) . .
جاء في الصحيحين : " أن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت ، ثم تأوي إلى تلك القناديل . فاطلع عليهم ربهم اطلاعة ، فقال : ماذا تريدون ! فقالوا : نحب أن تردنا إلى الدار الدنيا فنقاتل فيك فنقتل كما قتلنا أول مرة . فقال : إني قد قضيت أنهم إليها لا يرجعون " .
وأخرج الشيخان وغيرهما عن أنس رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وله ما على الأرض من شيء - إلا الشهيد - يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات ، لما يرى من الكرامة " . .
وكذلك كانت تهون الحياة على من يسمع هذه الموحيات ، ويعرف مقام الشهادة عند الله . . روى الإمام مالك . . . عن يحيى بن سعيد " أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] رغب في الجهاد وذكر الجنة ، ورجل من الأنصار يأكل تمرات في يده . فقال : إني لحريص على الدنيا إن جلست حتى أفرغ منهن ! فرمى ما في يده وحمل بسيفه حتى قتل " . . وقد روي أن هذا كان هو عبير بن الحمام عليه رضوان الله .
وبينما الصديقون في ذلك المقام والشهداء في هذا المقام يقول النص القرآني عن الكافرين المكذبين :
( والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم ) . .
فمن ذا الذي يترك الكرامة والنعيم ، ويختار أن يكون من أصحاب الجحيم ? !
{ والذين ءامَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ } قد بين كيفية إيمانهم في خاتمة سورة البقرة ، والموصول مبتدأ أول ، وقوله تعالى : { أولاك } مبتدأ ثان ، وهو إشارة إلى الموصول وما فيه من معنى البعد لما مر مراراً ، وقوله سبحانه : { يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ } مبتدأ ثالث ، وقوله عز وجل : { الصديقون والشهداء } خبر الثالث ، والجملة خبر الثاني وهو مع خبره خبر الأول أو هم ضمير فصل وما بعده خبر الثاني ، وقوله تعالى : { عِندَ رَبّهِمْ } متعلق على ما قيل : بالثبوت الذي تقتضيه الجملة أي أولئك عند ربهم عز وجل وفي حكمه وعلمه سبحانه هم الصديقون والشهداء .
والمراد أولئك في حكم الله تعالى بمنزلة الصديقين والشهداء المشهورين بعلو الرتبة ورفعة المحل وهم الذين سبقوا إلى التصديق ورسخوا فيه واستشهدوا في سبيل الله جل جلاله وسمي من قتل مجاهداً في سبيله تعالى شهيداً لأن الله سبحانه وملائكته عليهم السلام شهود له بالجنة ، وقيل : لأنه حي لم يمت كأنه شاهد أي حاضر ، وقيل : لأن ملائكة الرحمة تشهده ، وقيل : لأنه شهد ما أعد الله تعالى له من الكرامة ، وقيل : غير ذلك فهو إما فعيل بمعنى فاعل أو بمعنى مفعول على اختلاف التأويل ، وقوله تعالى : { لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ } خبر ثان للموصول على أنه جملة من مبتدأ وخبر ، أو { لَهُمْ } الخبر وما بعده مرتفع به على الفاعلية وضمير { لَهُمْ } للموصول ، والضميران الأخيران للصديقين والشهداء ، والغرض بيان ثمرات ما وصفوا به من نعوت الكمال أي أولئك لهم مثل أجر الصديقين والشهداء ونورهم المعروفين بغاية الكمال وعزة المنال ، وقد حذف أداة التشبيه تنبيهاً على قوة المماثلة وبلوغها حد الاتحاد كما فعل ذلك أولا حيث قيل : أولئك هم الصديقون والشهداء وليست المماثلة بين ما للفريق الأول من الأجر والنور . وبين تمام ما للفريقين الأخيرين بل بين تمام للأول من الأصل والإضعاف وبين ما للأخيرين من الأصل بدون الإضعاف ، فالإضعاف هو الذي امتاز به الفريقان الأخيران على الفريق الأول وقد لا يعتبر تشبيه بليغ في الكلام أصلا ويبقى على ظاهره والضمائر كلها للموصول أي أولئك هم المبالغون في الصدق حيث آمنوا وصدقوا جميع أخبار الله تعالى وأخبار رسله عليهم الصلاة والسلام والقائمون بالشهادة لله سبحانه بالوحدانية وسائر صفات الكمال ولهم بما يليق بهم من ذلك لهم الأجر والنور الموعودان لهم ، وقال بعضهم : وصفهم بالشهادة لكونهم شهداء على الناس كما نطق به قوله تعالى : { وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى الناس } [ البقرة : 143 ] فعند ربهم متعلق بالشهداء ، والمراد والشهداء على الناس يوم القيامة ، وجوز تعلقه بالشهداء أيضاً على الوجه الأول على معنى الذين شهدوا مزيد الكرامة بالقتل في سبيل الله تعالى يوم القيامة أو في حظيرة رحمته عز وجل أو نحو ذلك ، ويشهد لكون الشهداء معطوفاً على الصديقين آثار كثيرة .
أخرج ابن جرير عن البراء بن عازب قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «إن مؤمني أمتي شهداء » ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم : { والذين ءامَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصديقون والشهداء عِندَ رَبّهِمْ } ، وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة أنه قال يوماً لقوم عنده : كلكم صديق وشهيد قيل له : ما تقول يا أبا هريرة ؟ قال : اقرءوا { والذين ءامَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ } الآية ، وأخرج عبد الرزاق . وعبد بن حميد عن مجاهد قال : كل مؤمن صديق وشهيد ثم تلا الآية ، وأخرج عبد بن حميد نحوه عن عمرو بن ميمون ، وأخرج ابن حبان عن عمرو بن مرة الجهني قال : «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أرأيت إن شهدت أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله وصليت الصلوات الخمس وأديت الزكاة وصمت رمضان وقمته فممن أنا ؟ قال : من الصديقين والشهداء » وينبغي أن يحمل الذين آمنوا على من لهم كمال في ذلك يعتدّ به ولا يتحقق إلا بفعل طاعات يعتدّ بها وإلا فيبعد أن يكون المؤمن المنهمك في الشهوات الغافل عن الطاعات صديقاً شهيداً ، ويستأنس لذلك بما جاء من حديث عمر رضي الله تعالى عنه ما لكم إذا رأيتم الرجل يخرق أعراض الناس أن لا تعيبوا عليه ؟ قالوا : نخاف لسانه قال : ذلك أحرى أن لا تكونوا شهداء ، قال ابن الأثير : أي إذا لم تفعلوا ذلك لم تكونوا في جملة الشهداء الذين يستشهدون يوم القيامة على الأمم التي كذبت أنبياءها ، وكذا بقوله عليه الصلاة والسلام : اللعانون لا يكونون شهداء بناءاً على أحد قولين فيه .
وفي بعض الأخبار ما ظاهره إرادة طائفة من خواص المؤمنين ، أخرج ابن مردويه عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من فرّ بدينه من أرض إلى أرض مخافة الفتنة على نفسه ودينه كتب عند الله صديقاً فإذا مات قبضه الله شهيداً وتلا هذه الآية : { والذين ءامَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصديقون والشهداء } ثم قال : هذه فيهم ثم قال : والفرّارون بدينهم من أرض إلى أرض يوم القيامة مع عيسى ابن مريم في درجته في الجنة » ويجوز أن يراد من قوله : «هذه فيهم » أنها صادقة عليهم وهم داخلون فيها دخولاً أولياً ، ويقال : في قوله عليه الصلاة والسلام : «مع عيسى في درجته » المراد معه في مثل درجته وتوجه المماثلة بما مر والخبر إذا صح يؤيد الوجه الأول في الآية .
وروي عن الضحاك أنها نزلت في ثمانية نفر سبقوا أهل الأرض في زمانهم إلى الإسلام وهم أبو بكر . وعمر . وعثمان . وعلي . وحمزة . وطلحة . والزبير . وسعد . وزيد رضي الله تعالى عنهم أجمعين ، وهذا لا يضر في العموم كما لا يخفى ، وقيل : الشهداء مبتدأ و { عِندَ رَبّهِمْ } خبره ، وقيل : الخبر { لَهُمْ أَجْرُهُمْ } والكلام عليهما قد تم عند قوله تعالى : { الصديقون } ، وأخرج هذا ابن جرير عن ابن عباس . والضحاك قالا : { والذين ءامَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصديقون } هذه مفصولة سماهم صديقين ، ثم قال : والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم .
وروي جماعة عن مسروق ما يوافقه ، واختلفوا في المراد بالشهداء على هذا فقيل : الشهداء في سبيل الله تعالى .
وحكى ذلك عن مقاتل بن سليمان ، وقيل : الأنبياء عليهم السلام الذين يشهدون للأمم عليهم ، وحكى ذلك عن مسروق . ومقاتل بن حيان . واختاره الفراء . والزجاج ، وزعم أبو حيان أن الظاهر كون الشهداء مبتدأ وما بعده خبر ، ومن أنصف يعلم أنه ليس كما قفال ، وأن الذي تقتضيه جزالة النظم الكريم هو ما تقدم ، ثم النور على الجميع الأوجه على حقيقته ، وعن مجاهد . وغيره أنه عبارة عن الهدى والكرامة والبشرى .
{ والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بآياتنا } أي بجميعها على اختلاف أنواعها وهو إشارة إلى كفرهم بالرسل عليهم السلام جميعهم { أولئك } الموصوفون بتلك الصفة القبيحة { أصحاب الجحيم } بحيث لا يفارقونها أبداً .
{ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ } والإيمان عند أهل السنة : هو ما دل عليه الكتاب والسنة ، هو قول القلب واللسان ، وعمل القلب واللسان والجوارح ، فيشمل ذلك جميع شرائع الدين الظاهرة والباطنة ، فالذين جمعوا بين هذه الأمور هم الصديقون أي : الذين مرتبتهم فوق مرتبة عموم المؤمنين ، ودون مرتبة الأنبياء .
[ وقوله : ] { وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ } كما ورد في الحديث الصحيح : { إن في الجنة مائة درجة ، ما بين الدرجتين{[987]} كما بين السماء والأرض ، أعدها الله للمجاهدين في سبيله } وهذا يقتضي شدة علوهم ورفعتهم ، وقربهم الله تعالى .
{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } فهذه الآيات جمعت أصناف الخلق ، المتصدقين ، والصديقين ، والشهداء ، وأصحاب الجحيم ، فالمتصدقون الذين كان جل عملهم الإحسان إلى الخلق ، وبذل النفع إليهم بغاية ما يمكنهم ، خصوصا بالنفع بالمال في سبيل الله .
والصديقون هم الذين كملوا مراتب الإيمان والعمل الصالح ، والعلم النافع ، واليقين الصادق ، والشهداء هم الذين قاتلوا في سبيل الله [ لإعلاء كلمة الله ، وبذلوا أنفسهم وأموالهم ] فقتلوا ، وأصحاب الجحيم هم الكفار الذين كذبوا بآيات الله .
وبقي قسم ذكرهم الله في سورة فاطر ، وهم المقتصدون الذين أدوا الواجبات وتركوا المحرمات ، إلا أنهم حصل منهم تقصير ببعض حقوق الله وحقوق عباده ، فهؤلاء مآلهم الجنة ، وإن حصل لهم عقوبة ببعض ما فعلوا .
قوله تعالى : { والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون } والصديق : الكثير الصدق ، قال مجاهد : كل من آمن بالله ورسوله فهو صديق وتلا هذه الآية . قال الضحاك : ثمانية نفر من هذه الأمة ، سبقوا أهل الأرض في زمانهم إلى الإسلام : أبو بكر ، وعلي ، وزيد ، وعثمان ، وطلحة ، والزبير ، وسعد ، وحمزة ، وتاسعهم عمر بن الخطاب رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، ألحقه الله بهم لما عرف من صدق نيته . { والشهداء عند ربهم } اختلفوا في نظم هذه الآية ، منهم من قال : هي متصلة بما قبلها ، والواو واو النسق ، وأراد بالشهداء المؤمنين المخلصين . قال الضحاك : هم الذين سميناهم . قال مجاهد : كل مؤمن صديق شهيد ، وتلا هذه الآية . وقال قوم : تم الكلام عند قوله : { هم الصديقون } ثم ابتدأ فقال : { والشهداء عند ربهم } والواو واو الاستئناف ، وهو قول ابن عباس ومسروق وجماعة . ثم اختلفوا فيهم فقال قوم : هم الأنبياء الذين يشهدون على أمم يوم القيامة ، يروى ذلك عن ابن عباس هو قول مقاتل ابن حيان . وقال مقاتل بن سليمان : هم الذين استشهدوا في سبيل الله . { لهم أجرهم } بما عملوا من العمل الصالح ، { ونورهم } على الصراط ، { والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم } .
قوله : { والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصّدّيقون والشهداء عند ربهم } يعني أولئك المؤمنون بالله ورسوله إيمانا صادقا فهم عند الله بمنزلة الصديقين والشهداء . والمراد بالصديقين ، المبالغون في صدق القلوب وإخلاص النوايا . والشهداء هم القائمون بالشهادة لله ، أو هم الذين استشهدوا في سبيل الله . وقيل : هذه الجملة { والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصّدّيقون } جملة مفصولة . ثم استأنف الكلام في قوله : { والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم } فالشهداء مبتدأ وخبره { لهم أجرهم ونورهم } . قوله : { والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم } ذلك وعيد شديد من الله للجاحدين المكذبين بآياته ، المعرضين عن دينه ، بأنهم صائرون إلى الجحيم حيث النار المتسعّرة والعذاب المهين{[4462]} .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: والذين أقرّوا بوحدانية الله وإرساله رسله، فصدّقوا الرسل وآمنوا بما جاؤوهم به من عند ربهم، أولئك هم الصّدّيقون.
وقوله:"والشّهَدَاءُ عِنْدَ رَبّهِمْ "اختلف أهل التأويل في ذلك؛ فقال بعضهم: والشهداء عند ربهم منفصل من الذي قبله، والخبر عن الذين آمنوا بالله ورسله، متناه عند قوله: "الصّدّيقُونَ"... ثم ابتدئ الخبر عن الشهداء فقيل: والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم...
وقال آخرون: بل قوله: والشهداء من صفة الذين آمنوا بالله ورسله قالوا: إنما تناهى الخبر عن الذين آمنوا عند قوله: "والشُهَدَاءُ عِنْدَ رَبّهِمْ" ثم ابتدئ الخبر عما لهم، فقيل: لهم أجرهم ونورهم...
وقال آخرون: الشهداء عند ربهم في هذا الموضع: النبيون الذين يشهدون على أممهم من قول الله عزّ وجلّ "فَكَيْفَ إذَا جِئْنا مِنْ كُلّ أُمّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ على هَؤُلاءِ شَهِيدا".
والذي هو أولى الأقوال عندي في ذلك بالصواب قول من قال: الكلام والخبر عن الذين آمنوا، متناه عند قوله: "أُولَئِكَ هُمُ الصّدّيقُونَ"، وإن قوله: "والشّهَدَاءُ عِنْدَ رَبّهِمْ" خبر مبتدأ عن الشهداء.
وإنما قلنا: إن ذلك أولى الأقوال في ذلك بالصواب، لأن ذلك هو الأغلب من معانيه في الظاهر، وأنّ الإيمان غير موجب في المتعارف للمؤمن اسم شهيد لا بمعنى غيره، إلا أن يُراد به شهيد على ما آمن به وصدّقه، فيكون ذلك وجها، وإن كان فيه بعض البعد، لأن ذلك ليس بالمعروف من معانيه، إذا أطلق بغير وصل، فتأويل قوله: "والشُهَدَاءُ عِنْدَ رَبّهِمْ لَهُمْ أجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ" إذن: والشهداء الذين قُتلوا في سبيل الله، أو هلكوا في سبيله عند ربهم، لهم ثواب الله إياهم في الآخرة ونورهم.
وقوله: "وَالّذِينَ كَفَرُوا وكَذّبُوا بآياتِنا أُولَئِكَ أصحَابُ الجَحِيمِ" يقول تعالى ذكره: والذين كفروا بالله وكذّبوا بأدلته وحججه، أولئك أصحاب الجحيم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصدّيقون} سمى المؤمنين صديقين، والصديق لا يقال إلا لمن يكثر منه التصديق، وقد يكثر منه التصديق، وقد يكثر من كل مؤمن التصديق، وإن كان ما يأتي به، إنما هو شيء واحد، نحو أنه إذا صدق الله صدق رسله في ما أخبروا عن الله تعالى وفي ما دعوا إلى ما دعوا، وبلغوا عن الله إلى الناس، وصدق الخلائق جميعا في ما شهدوا على وحدانية الله تعالى وأوهيته من حيث شهادة الخلقة وشهادة الأخبار في حق المؤمنين. فتصديقه يكثر، وإن كان الكلام في نفسه يقل...
وقوله تعالى: {والشهداء عند ربهم} من الناس من جعل قوله:
{والشهداء عند ربهم} على الابتداء مقطوعا من قوله: {أولئك هم الصديقون} ومنهم من وصله به...ومن قال: إنه موصول بالأول ذهب إلى أن المؤمنين شهداء على الناس كقوله تعالى: {لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا} الآية [البقرة: 143] سماهم شهداء على غيرهم من الأمم، والله أعلم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
يريد أنّ المؤمنين بالله ورسله هم عند الله بمنزلة الصدّيقين والشهداء؛ وهم الذين سبقوا إلى التصديق واستشهدوا في سبيل الله {لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} أي: مثل أجر الصدّيقين والشهداء ومثل نورهم.
فإن قلت: كيف يسوّي بينهم في الأجر ولا بدّ من التفاوت؟ قلت: المعنى أنّ الله يعطي المؤمنين أجرهم ويضاعفه لهم بفضله، حتى يساوى أجرهم مع إضعافه أجر أولئك.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالشُّهَدَاءُ}:...أَمَّا الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ فَهُمْ شُهَدَاءُ عَلَى الْأُمَمِ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَهُمْ شُهَدَاءُ عَلَى النَّاسِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:"لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ". وَأَمَّا مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَهُوَ شَهِيدٌ عَلَى الْكُلِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَكُونُ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{والذين آمنوا} اي أوجدوا هذه الحقيقة العظيمة في أنفسهم {بالله} أي الملك الأعلى الذي له الجلال والإكرام {ورسله} اي كلهم لما لهم من النسبة إليه، فمن كذب بشيء على أحد منهم أو عمل عمل المكذب له لم يكن مؤمناً به {أولئك} أي الذين لهم الرتب العالية والمقامات السامية {هم} أي خاصة لا غيرهم {الصديقون} أي الذين هم في غاية الصدق والتصديق لما يحق له أن يصدقه من سمعه، ولما كان الصديق لا يكون عريقاً في الصديقية إلا بالتأهيل لرتبة الشهادة قال تعالى: {والشهداء} معبراً بما مفرده شهيد عاطفاً بالواو إشارة إلى قوة التمكن في كل من الوصفين...
{والذين كفروا} أي ستروا ما دلت عليه أنوار عقولهم ومرائي فكرهم {وكذبوا بآياتنا} على ما لها من العظمة بنسبتها إلينا سواء كانوا في ذلك مساترين أو مجاهرين أو عمل العالم بها عمل المكذب {أولئك} أي المبعدون من الخير خاصة {أصحاب الجحيم}...وأولئك هم الكاذبون الذين لا تقبل لهم شهادة عند ربهم، لهم عقابهم وعليهم ظلامهم، والآية من الاحتباك: ذكر الصديقية وما معها أولاً دليلاً على أضدادها ثانياً، و الجحيم ثانياً دليلاً على النعيم أولاً، وسره أن الأول أعظم في الكرامة، والثاني أعظم في الإهانة.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون).. وتلك خاصية هذا الدين وميزته. إنه طريق مفتوح لجميع البشر، وأفق يتطلع إليه الجميع، ليس فيه احتكار للمقامات، وليس فيه خصوصيات محجوزة لأناس بأعيانهم. وليس إلا العمل يصعد بصاحبه إلى أرقى الدرجات. إنه دين لا مجال فيه للطبقات المحفوظة المقام!...