سورة الزمر مكية وآياتها خمس وسبعون
هذه السورة تكاد تكون مقصورة على علاج قضية التوحيد . وهي تطوف بالقلب البشري في جولات متعاقبة ؛ وتوقع على أوتاره إيقاعات متلاحقة ؛ وتهزه هزاً عميقاً متواصلاً لتطبع فيه حقيقة التوحيد وتمكنها ، وتنفي عنه كل شبهة وكل ظل يشوب هذه الحقيقة . ومن ثم فهي ذات موضوع واحد متصل من بدئها إلى ختامها ؛ يعرض في صور شتى .
ومنذ افتتاح السورة تبرز هذه القضية الواحدة التي تكاد السورة تقتصر على علاجها : تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم . إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصاً له الدين . ألا لله الدين الخالص . . . الخ . . . وتتردد في مقاطعها على فترات متقاربة فيها إما نصاً . وإما مفهوماً . .
نصاً كقوله : قل : إني أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين . وأمرت لأن أكون أول المسلمين . قل : إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم . قل : الله أعبد مخلصاً له ديني فاعبدوا ما شئتم من دونه . . . الخ . . أو قوله : ( قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون ? ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين بل الله فاعبد وكن من الشاكرين ) .
ومفهوماً كقوله : ( ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ، ورجلا سلما لرجل . هل يستويان مثلاً : الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون ) . . أو قوله : ( أليس الله بكاف عبده ? ويخوفونك بالذين من دونه ، ومن يضلل الله فما له من هاد ، ومن يهد الله فما له من مضل . أليس الله بعزيز ذي انتقام ? ) . .
وإلى جانب حقيقة التوحيد التي تعالج السورة أن تطبعها في القلب وتمكنها نجد في السورة توجيهات وإيحاءات لإيقاظ هذا القلب واستجاشته وإثارة حساسيته ، وإرهافه للتلقي والتأثر والاستجابة . ذلك كقوله : والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى . فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، أولئك الذين هداهم الله ، وأولئك هم أولوا الألباب . . ( الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ، ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله : ذلك هدى الله يهدي به من يشاء . ومن يضلل الله فما له من هاد ) . . ( وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيباً إليه ، ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل . وجعل لله أنداداً ليضل عن سبيله . قل : تمتع بكفرك قليلاً إنك من أصحاب النار ) . .
وهناك ظاهرة ملحوظة في جو السورة . . إن ظل الآخرة يجللها من أولها إلى آخرها . وسياقها يطوّف بالقلب البشري هناك في كل شوط من أشواطها القصيرة ؛ ويعيش به في ظلال العالم الآخر معظم الوقت ! وهذا هو مجال العرض الأول فيها والمؤثر البارز المتكرر في ثناياها . ومن ثم تتلاحق فيها مشاهد القيامة أو الإشارة إليها في كل مقطع من مقاطعها الكثيرة . مثل هذه الإشارات : ( أم من هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه ? ) . . ( قل : إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم ) . . ( أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار ? ) . . ( أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة ? ) . . ( ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون ) . . ( أليس في جهنم مثوى للكافرين ? ) . . ( ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعاً ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة ؛ وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون ) . . ( وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون . واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغته وأنتم لا تشعرون . أن تقول نفس : يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين . أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين . أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين . . ) . . وهذا غير المشاهد الكاملة التي تشغل حيزاً من السورة كبيراً ، وتظلل جوها بظلال الآخرة .
أما المشاهد الكونية التي لاحظنا كثرتها وتنوعها في السور المكية في ثنايا عرضها لحقائق العقيدة فهي قليلة في هذه السورة . .
هنالك مشهد كوني يرد في مطلعها : ( خلق السماوات والأرض بالحق يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل ، وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى . ألا هو العزيز الغفار ) . .
ومشهد آخر في وسطها : ( ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ؛ ثم يخرج به زرعاً مختلفاً ألوانه ؛ ثم يهيج فتراه مصفراً ؛ ثم يجعله حطاماً ? إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب ) . .
وهناك إشارات سريعة إلى خلق السماوات والأرض غير هذين المشهدين البارزين .
كذلك تتضمن السورة لمسات من واقع حياة البشر ، وفي أغوار نفوسهم ، تتوزع في ثناياها .
يرد في مطالعها عن نشأة البشرية : ( خلقكم من نفس واحدة ؛ ثم جعل منها زوجها . وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج . يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلق في ظلمات ثلاث . ذلكم الله ربكم له الملك . لا إله إلا هو ، فأنى تصرفون ? ) .
ويرد عن طبيعة النفس البشرية في الضراء والسراء : وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيباً إليه ؛ ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل . . . الخ . . ( فإذا مس الإنسان ضر دعانا ؛ ثم إذا خولناه نعمة منا قال : إنما أوتيته على علم بل هي فتنة . . ) . .
ويرد في تصوير أنفس البشر في قبضة الله في كل حالة : ( الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها ؛ فيمسك التي قضى عليها الموت ، ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى . إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ) . .
ولكن ظل الآخرة وجوها يظل مسيطراً على السورة كلها كما أسلفنا . حتى تختم بمشهد خاشع يرسم ظل ذلك اليوم وجوه : ( وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم ، وقضي بينهم بالحق ، وقيل : الحمد لله رب العالمين ) .
هذا الظل يتناسق مع جو السورة ، ولون اللمسات التي تأخذ القلب البشري بها . فهي أقرب إلى جو الخشية والخوف والفزع والارتعاش . ومن ثم نجد الحالات التي ترسمها للقلب البشري هي حالات ارتعاشه وانتفاضه وخشيته . نجد هذا في صورة القانت( آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه ) . وفي صورة الذين يخشون ربهم تقشعر جلودهم لهذا القرآن ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله . كما نجده في التوجيه إلى التقوى والخوف من العذاب ، والتخويف منه : ( قل : يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم ) . ( قل : إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم ) . . ( لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل . ذلك يخوف الله به عباده . يا عباد فاتقون ) . . ثم نجده في مشاهد القيامة وما فيها من فزع ومن خشية ، وما فيها كذلك من إنابة وخشوع .
والسورة تعالج الموضوع الواحد الرئيسي فيها في جولات قصيرة متتابعة ؛ تكاد كل جولة منها تختم بمشهد من مشاهد القيامة ، أو ظل من ظلالها . وسنحاول أن نستعرض هذه الجولات المتتابعة كما وردت في السياق . إذ أنه يصعب تقسيم السورة إلى دروس كبيرة . وكل مجموعة قليلة من آياتها تصلح حلقة تعرض في موضعها . ومجموع هذه الحلقات يتناول حقيقة واحدة . حقيقة التوحيد الكبيرة . .
( تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم . إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق ، فاعبد الله مخلصاً له الدين . ألا لله الدين الخالص ، والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى . إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون . إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار ) .
تبدأ السورة بهذا التقرير الحاسم .
( تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم ) . .
الحكيم الذي يعلم فيم أنزله ولماذا أنزله ؛ ويفعل ذلك بحكمة وتقدير وتدبير .
ولا يتلبث السياق عند هذه الحقيقة طويلاً ؛ فهي مقدمة للقضية الأصيلة التي تكاد السورة تكون وقفاً عليها ؛ والتي نزل الكتاب لتقريرها وتوكيدها . قضية توحيد الله ، وإفراده بالعبادة ، وإخلاص الدين له ، وتنزيهه عن الشرك في كل صورة من صوره ؛ والاتجاه إليه مباشرة بلا وسيط ولا شفيع :
وتسمى الغرف كما في الإتقان والكشاف لقوله تعالى { لهم غرف منها فوقها غرف } أخرج ابن الضريس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس أنها أنزلت بمكة ولم يستثن وأخرج النحاس عنه أنه قال : نزلت سورة الزمر بمكة سوى ثلاث آيات نزلت بالمدينة وحشى قاتل حمزة { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم } إلى ثلاث آيات وزاد بعضهم { قل يا عبادي الذين آمنوا اتقوا ربكم } الآية ذكره السخاوي في جمال القراءة وحكاه أبو حيان عن مقاتل وزاد بعض { الله نزل أحسن الحديث } حكاه ابن الجوزي والمذكور في البحر عن ابن عباس استثناء { الله نزل أحسن الحديث } وقوله تعالى { قل يا عبادي الذين أسرفوا } الخ وعن بعضهم إلا سبع آيات من قوله سبحانه { قل يا عبادي الذين أسرفوا } إلى آخر السبع وأيها خمس وسبعون في الكوفي وثلاث في الشامي واثنتان في الباقي وتفصيل الاختلاف في مجمع البيان وغيره ووجه اتصال أولها بآخر صاد أنه قال سبحانه هناك : { إن هو إلا ذكر للعالمين } وقال جل شأنه هنا { تنزيل الكتاب من الله } وفي ذلك كمال الالتئام بحيث لو أسقطت البسملة لم يتنافر الكلام ثم إنه تعالى ذكر آخر صلى الله عليه وسلم قصة خلق آدم وذكر في صدر هذه القصة خلق زوجه منه وخلق الناس كلهم منه وذكر خلقهم في بطون أمهاتهم خلقا من بعد خلق ثم ذكر أنهم ميتون ثم ذكر سبحانه القيامة والحساب والجنة والنار وختم بقوله سبحانه : { وقضى بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين } فذكر جل شأنه أحوال الخلق من المبدأ إلى آخر المعاد متصلا بخلق آدم عليه السلام المذكور في السورة قبلها وبين السورتين أوجه أخر من الربط تظهر بالتأمل فتأمل
{ تَنزِيلُ الكتاب } قال الفراء . والزجاج : هو مبتدأ وقوله تعالى :
{ مِنَ الله العزيز الحكيم } خبره أو خبر مبتدأ محذوف أي هذا المذكور تنزيل ، و { مِنَ الله } متعلق بتنزيل والوجه الأول لوجه كما في «الكشف » ، والكتاب القرآن كله وكأن الجملة عليه تعليل لكونه ذكراً للعالمين أو لقوله تعالى : { وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينِ } [ ص : 88 ] والظاهر أن المراد بالكتاب على الوجه الثاني السورة لكونها على شرف الذكر فهي أقرب لاعتبار الحضور الذي يقتضيه اسم الإشارة فيها ، و { تَنزِيلَ } بمعنى منزل أو قصد به المبالغة ، وقدر أبو حيان المبتدأ هو عائداً على الذكر في { إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ } [ ص : 87 ] وجعل الجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً كأنه قيل هذا الذكر ما هو فقيل هو تنزيل الكتاب والكتاب عليه القرآن عليه القرآن وفي { تَنزِيلَ } الاحتمالان ، وجوز على احتمال كونه خبر مبتدأ محذوف كون { مِنَ الله } خبراً ثانياً وكونه خبر مبتدأ محذوف أيضاً أي هذا أو هو تنزيل الكتاب هذا أو هو من الله وكونه حالاً من { الكتاب } وجاز الحال من المضاف إليه لأن المضاف مما يعمل عمل الفعل وكونه حالاً من الضمير المستتر في { تَنزِيلَ } على تقدير كونه بمعنى منزل وكونه حالاً من { تَنزِيلَ } نفسه والعامل فيه معنى الإشارة . وتعقب بأن معاني الأفعال لا تعمل إذا كان ما هي فيه محذوفاً ولذلك ردوا على المبرد قوله في بيت الفرزدق : وإذ ما مثلهم بشر أن مثلهم منصوب على الحالية وعامله الظرف المقدر أي ما في الوجود بشر مماثلاً لهم بأن الظرف عامل معنوي لا يعمل محذوفاً ، وقرأ ابن أبي عبلة . وزيد بن علي . وعيسى { تَنزِيلَ } بالنصب على إضمار فعل نحو اقرأ والزم . والتعرض لوصفي العزة والحكمة للإيذان بظهور أثريهما في الكتاب بجريان أحكامه ونفاذ أوامره ونواهيه من غير مدافع ولا ممانع وبابتناء جمع ما فيه على أساس الحكم الباهرة
{ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } : يخبر تعالى عن عظمة القرآن ، وجلالة من تكلم به ونزل منه ، وأنه نزل من اللّه العزيز الحكيم ، أي : الذي وصفه الألوهية للخلق ، وذلك لعظمته وكماله ، والعزة التي قهر بها كل مخلوق ، وذل له كل شيء ، والحكمة في خلقه وأمره .
فالقرآن نازل ممن هذا وصفه ، والكلام وصف للمتكلم ، والوصف يتبع الموصوف ، فكما أن اللّه تعالى هو الكامل من كل وجه ، الذي لا مثيل له ، فكذلك كلامه كامل من كل وجه لا مثيل له ، فهذا وحده كاف في وصف القرآن ، دال على مرتبته .
ولكنه - مع هذا - زاد بيانا لكماله بمن نزل عليه ، وهو محمد صلى اللّه عليه وسلم ، الذي هو أشرف الخلق فعلم أنه أشرف الكتب ، وبما نزل به ، وهو الحق ، فنزل بالحق الذي لا مرية فيه ، لإخراج الخلق من الظلمات إلى النور ، ونزل مشتملا على الحق في أخباره الصادقة ، وأحكامه العادلة ، فكل ما دل عليه فهو أعظم أنواع الحق ، من جميع المطالب العلمية ، وما بعد الحق إلا الضلال .