ثم يجيء الحديث عن حادث زواج النبي [ صلى الله عليه وسلم ] من زينب بنت جحش ، وما سبقه وما تلاه من أحكام وتوجيهات :
وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه : أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه ؛ وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه . فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا . وكان أمر الله مفعولا . ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له . سنة الله في الذين خلوا من قبل . وكان أمر الله قدرا مقدورا . الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله . وكفى بالله حسيبا . ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ، ولكن رسول الله وخاتم النبيين ، وكان الله بكل شيء عليما . .
مضى في أول السورة إبطال تقليد التبني ؛ ورد الأدعياء إلى آبائهم ، وإقامة العلاقات العائلية على أساسها الطبيعي : وما جعل أدعياءكم أبناءكم . ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل . ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله . فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم . وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم ، وكان الله غفورا رحيما . . . .
ولكن نظام التبني كانت له آثار واقعية في حياة الجماعة العربية ؛ ولم يكن إبطال هذه الآثار الواقعية في حياة المجتمع ليمضي بالسهولة التي يمضي بها إبطال تقليد التبني ذاته . فالتقاليد الاجتماعية أعمق أثرا في النفوس . ولا بد من سوابق عملية مضادة . ولا بد أن تستقبل هذه السوابق أول أمرها بالاستنكار ؛ وأن تكون شديدة الوقع على الكثيرين .
وقد مضى أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] زوج زيد بن حارثة - الذي كان متبناه ، وكان يدعى زيد ابن محمد ثم دعى إلى أبيه - من زينب بنت جحش ، ابنة عمة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ليحطم بهذا الزواج فوارق الطبقات الموروثة ، ويحقق معنى قوله تعالى : ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم )ويقرر هذه القيمة الإسلامية الجديدة بفعل عملي واقعي .
ثم شاء الله أن يحمل نبيه بعد ذلك - فيما يحمل من أعباء الرسالة - مؤنة إزالة آثار نظام التبني ؛ فيتزوج من مطلقة متبناه زيد بن حارثة . ويواجه المجتمع بهذا العمل ، الذي لا يستطيع أحد أن يواجه المجتمع به ، على الرغم من إبطال عادة التبني في ذاتها !
وألهم الله نبيه [ صلى الله عليه وسلم ] أن زيدا سيطلق زينب ؛ وأنه هو سيتزوجها ، للحكمة التي قضى الله بها . وكانت العلاقات بين زيد وزينب قد اضطربت ، وعادت توحي بأن حياتهما لن تستقيم طويلا .
وجاء زيد مرة بعد مرة يشكو إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] اضطراب حياته مع زينب ؛ وعدم استطاعته المضي معها . والرسول - صلوات الله وسلامه عليه - على شجاعته في مواجهة قومه في أمر العقيدة دون لجلجة ولا خشية - يحس ثقل التبعة فيما ألهمه الله من أمر زينب ؛ ويتردد في مواجهة القوم بتحطيم ذلك التقليد العميق ؛ فيقول لزيد [ الذي أنعم الله عليه بالإسلام وبالقرب من رسوله وبحب الرسول له ، ذلك الحب الذي يتقدم به في قلبه على كل أحد بلا استثناء . والذي أنعم عليه الرسول بالعتق والتربية والحب ] . . يقول له : ( أمسك عليك زوجك واتق الله ) . . ويؤخر بهذا مواجهة الأمر العظيم الذي يتردد في الخروج به على الناس . كما قال الله تعالى : ( وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه ! ) . . وهذا الذي أخفاه النبي [ صلى الله عليه وسلم ] في نفسه ، وهو يعلم أن الله مبديه ، هو ما ألهمه الله أن سيفعله . ولم يكن أمرا صريحا من الله . وإلا ما تردد فيه ولا أخره ولا حاول تأجيله . ولجهر به في حينه مهما كانت العواقب التي يتوقعها من إعلانه . ولكنه [ صلى الله عليه وسلم ] كان أمام إلهام يجده في نفسه ، ويتوجس في الوقت ذاته من مواجهته ، ومواجهة الناس به . حتى أذن الله بكونه . فطلق زيد زوجه في النهاية . وهو لا يفكر لا هو ولا زينب ، فيما سيكون بعد . لأن العرف السائد كان يعد زينب مطلقة ابن لمحمد لا تحل له . حتى بعد إبطال عادة التبني في ذاتها . ولم يكن قد نزل بعد إحلال مطلقات الأدعياء . إنما كان حادث زواج النبي بها فيما بعد هو الذي قرر هذه القاعدة . بعدما قوبل هذا القرار بالدهشة والمفاجأة والاستنكار .
وفي هذا ما يهدم كل الروايات التي رويت عن هذا الحادث ؛ والتي تشبث بها أعداء الإسلام قديما وحديثا ، وصاغوا حولها الأساطير والمفتريات !
إنما كان الأمر كما قال الله تعالى : ( فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها ، لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا ) . . وكانت هذه إحدى ضرائب الرسالة الباهظة حملها رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فيما حمل ؛ وواجه بها المجتمع الكاره لها كل الكراهية . حتى ليتردد في مواجهته بها وهو الذي لم يتردد في مواجهته بعقيدة التوحيد ، وذم الآلهة والشركاء ؛ وتخطئة الآباء والأجداد !
( وكان أمر الله مفعولا ) . . لا مرد له ، ولا مفر منه . واقعا محققا لا سبيل إلى تخلفه ولا إلى الحيدة عنه . وكان زواجه [ صلى الله عليه وسلم ] من زينب - رضي الله عنها - بعد انقضاء عدتها . أرسل إليها زيدا زوجها السابق . وأحب خلق الله إليه . أرسله إليها ليخطبها عليه .
عن أنس - رضي الله عنه - قال : لما انقضت عدة زينب - رضي الله عنها - قال رسول الله[ صلى الله عليه وسلم ] لزيد بن حارثة . " اذهب فاذكرها علي " فانطلق حتى أتاها وهي تخمر عجينها . قال : فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها ، وأقول : إن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ذكرها ! فوليتها ظهري ، ونكصت على عقبي ، وقلت : يا زينب . أبشري . أرسلني رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بذكرك . قالت : ما أنا بصانعة شيئا حتى أؤامر ربي عز وجل . فقامت إلى مسجدها . ونزل القرآن . وجاء رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فدخل عليها بغير إذن . . .
وقد روى البخاري - رحمه الله - عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : إن زينب بنت جحش - رضي الله عنها - كانت تفخر على أزواج النبي [ صلى الله عليه وسلم ] فتقول : زوجكن أهاليكن ، وزوجني الله - تعالى - من فوق سبع سماوات .
ولم تمر المسألة سهلة ، فلقد فوجئ بها المجتمع الإسلامي كله ؛ كما انطلقت ألسنة المنافقين تقول : تزوج حليلة ابنه !
قوله تعالى : { وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً } .
ذلك إخبار من الله عما قاله رسوله صلى الله عليه وسلم لمولاه زيد بن حارثة ( رضي الله عنه ) ، الذي أنعم الله عليه أن هداه للإسلام وأنعم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أعتقه من الرق فصار سيدا عظيم الشأن ، جليل القدر ، حبيبا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . وكان يقال له ، الحبُّ . ويقال لابنه أسامة الحبُّ ابن الحبِّ . وقد روى الإمام أحمد عن عائشة ( رضي الله عنها ) قالت : ما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية إلا أمَّره عليهم . ولو عاش بعده لاستخلفه .
قوله : { أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ } كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد زوَّج مولاه زيدا بابنة عمته زينب بنت جحش الأسدية ( رضي الله عنها ) وقد أصدقها عشرة دنانير وستين درهما وخمارا وملحفة ودرعا وخمسين مدّا من طعام وعشرة أمداد من تمر . فمكثت عنده قريبا من سنة أو أكثر ثم وقع بينهما شقاق ونفور فجاء زيد يشكوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له : { أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ } أي أمسك عليك زوجك زينب واتق الله في أمرها ولا تعجل بطلاقها .
قوله : { وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ } ذُكر في تأويل هذه الآية جملة أقوال وآثار عن بعض السلف ينبغي أن يُضرَبَ عنها صفحا لكونها مريبة ، بعيدة عن اليقين فهي منافية للعصمة التي تتجلى في شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي طبيعته المثلى وجبلَّته الناصعة العليا . والأمر يسير وفي غاية اليسر على من يسَّرهُ الله عليه . وجملة ذلك ما ذكره الحسن بن علي ( رضي الله عنهما ) في قوله تعالى : { وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ } إذ قال : إن الله تعالى قد أعلم نبيه أن زينب بنت جحش ستكون من أزوجه قبل أن يتزوجها فلما أتاه زيد ( رضي الله عنه ) يشكوها إليه قال له : " اتق الله وأمسك عليك زوجك " أي أخبرتك أني مزوجك إياها وتخفي في نفسك ما الله مظهره .
وروي كذلك عن علي بن الحسين ( رضي الله عنهما ) أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد أوحى الله تعالى إليه أن زيدا يطلّقُ زينب وأنه يتزوجها بتزويج الله إياها . فلما اشتكى زيد للنبي صلى الله عليه وسلم خُلُقَ زينب وأنها لا تطيعه ، وأعلمه أنه يريد طلاقها قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم على سبيل الوصية والنُّصْح : " اتق الله في قولك وأمسك عليك زوجك " وهو يعلم أنه سيفارقها ويتزوجها وهذا هو الذي أخفاه في نفسه ولم يرد أن يأمره بالطلاق لِما علم أنه سيتزوجها . وقد خشي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلحقه قول من الناس في أن يتزوج زينب بعد زيد وهو مولاه وقد أمره بطلاقها . فعاتبه الله تعالى على أن خشي في شيء قد أباحه الله له وهو قوله لزيد { أمسك } مع علمه بأنه يطلِّق . وأخبره الله أيضا أنه أحق بالخشية في كل الأحوال .
وعلى هذا فالمراد بقوله : { وتخشى الناس } إرجاف{[3746]} المنافقين والذين في قلوبهم مرض ، بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن تزويج نساء الأبناء وتزوج هو بزوجة ابنه - أي زيد - .
أما ما روي في ذلك من أقوال تشير إلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وقع في نفسه استحسان لزينب بنت جحش وهي في عصمة زيد مولاه وكان حريصا على أن يطلقها زيد ليتزوجها هو فإن ذلك مما لا يركن إليه العقل ولا تطمئن به النفس لمنافاته ما يتصف به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عصمة كاملة تحول بينه وبين تمنيه ما لا يملكه أو تدرأ عنه خصلة التشهي لما هو عند الآخرين . لا جرم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أوتيه من فطرة فُضلى ، وطبع نوراني ساطع لهو أسمى من أن يقع من نفسه استحباب لحظ من حظوظ الدنيا . ومثل هذه المقالة برغبته صلى الله عليه وسلم ما عند الآخرين تفضي إلى ما يبتغيه الدساسون والمتربصون في كل زمان من اصطناع ما يجدونه مطعنا في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي شخصه ودينه . ونسمع أو نقرأ في زماننا الراهن حول هذه المسألة كثيرا من تلفيقات المرْجِفين أولي الهوى والنفاق أو الذين يجيدون الثرثرة والَّغَط ويرومون الإساءة إلى شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو المتبرَّأ بعصمته من كل الخطايا والذنوب ظاهرة وباطنة ، بل من مجرد التشهي لما لدى الناس من حظوظ الدنيا وزينتها .
قال الترمذي مسندا إلى علي بن الحسين قوله : فعلي بن الحسين جاء بهذا من خزانة العلم جوهرا من الجواهر ودُرّا من الدرر أنه إنما عتب عليه في أنه قد أعلمه أن ستكون هذه من أزواجك فكيف قال بعد ذلك لزيد : " أمسك عليك زوجك " وأخذتك خشية الناس أن يقولوا : تزوج امرأة ابنه ، والله أحق أن تخشاه .
قوله : { فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا } الوطر معناه الحاجة ، جمعه أوطار{[3747]} أي لما قضى زيد إربه من زينب ففرغ منها وفارقها { زَوَّجْنَاكَهَا } فكان لذي تولى نكاحها هو الله جل وعلا . إذ أوحى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يدخل عليها بلا ولي ولا عقد ولا مهر ولا شهود من الناس . وهذا من خصوصياته صلى الله عليه وسلم التي لا يشاركه فيها أحد ولهذا كانت زينب تفاخر نساء النبي صلى الله عليه وسلم . فقد روى النسائي عن أنس بن مالك قال : كانت زينب تفخر على نساء النبي صلى الله عليه وسلم تقول : إن الله عز وجل أنكحني من السماء . وفيها نزلت أية الحجاب ، وكذلك أخرج الإمام أحمد عن أنس ( رضي الله عنه ) قال : فلما انقضت عدة زينب ( رضي الله عنها ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة : " اذهب فاذكرها علي " أي اخطبها لي . فانطلق حتى أتاها وهي تخمِّر عجينها . فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها وأقول : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرها فوليتها ظهري ونكصت على عقبي وقلت : يا زينب أبشري أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك . قالت ما أنا بصانعة بشيء حتى أوامَرَ{[3748]} ربي عز وجل فقامت إلى مسجدها ونزل القرآن وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليها بغير إذن .
قوله : { لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا } أي أبحنا لك الزواج من زينب كيلا يجد المسلمون ضيقا أو مشقة في الزواج من أزواج أدعيائهم الذين كانوا يجعلونهم أبناءهم كما كانت تفعل العرب ؛ إذ كانوا يتبنون الأولاد الأدعياء حتى نزل النهي عن ذلك .
قوله : { وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً } أي كان قضاء الله في زينب أن يتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتما مقضيّا . أو هو كائن لا محالة .