( واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا : أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون ? ) . .
والتوحيد هو أساس دين الله الواحد منذ أقدم رسول . فعلام يرتكن هؤلاء الذين يجعلون من دون الرحمن آلهة يعبدون ?
والقرآن يقرر هذه الحقيقة هنا في هذه الصورة الفريدة . . صورة الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] يسأل الرسل قبله عن هذه القضية : ( أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون ? )وحول هذا السؤال ظلال الجواب القاطع من كل رسول . وهي صورة طريفة حقاً . وهو أسلوب موح شديد التأثير في القلوب .
وهناك أبعاد الزمان والمكان بين الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] والرسل قبله . وهناك أبعاد الموت والحياة وهي أكبر من أبعاد الزمان والمكان . . ولكن هذه الأبعاد كلها تتلاشى هنا أمام الحقيقة الثابتة المطردة . حقيقة وحدة الرسالة المرتكزة كلها على التوحيد . وهي كفيلة ان تبرز وتثبت حيث يتلاشى الزمان والمكان والموت والحياة وسائر الظواهر المتغيرة ؛ ويتلاقى عليها الأحياء والأموات على مدار الزمان متفاهمين متعارفين . . وهذه هي ظلال التعبير القرآني اللطيف العجيب . .
على أنه بالقياس إلى النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وإخوانه من الرسل مع ربهم لا يبقى شيء بعيد وآخر قريب . فهناك دائماً تلك اللحظة اللدنية التي تزال فيها الحواجز وترتفع فيها السدود ، وتتجلى الحقيقة الكلية عارية من كل ستار . حقيقة النفس وحقيقة الوجود كله وأهل هذا الوجود . تتجلى وحدة متصلة ، وقد سقط عنها حاجز الزمان وحاجز المكان وحاجز الشكل والصورة . وهنا يسأل الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] ويجاب ، بلا حاجز ولا حجاب . كما وقع في ليلة الإسراء والمعراج .
وإنه ليحسن في مثل هذه المواطن ألا نعتد كثيراً بالمألوف في حياتنا . فهذا المألوف ليس هو القانون الكلي . ونحن لا ندرك من هذا الوجود إلا بعض ظواهره وبعض آثاره ، حين نهتدي إلى طرف من قانونه . وهناك حجب من تكويننا ذاته ومن حواسنا وما نرتبه عليها من مألوفات . فأما اللحظة التي تتجرد فيها النفس من هذه العوائق والحجب فيكون لقاء الحقيقة المجردة للإنسان بالحقيقة المجردة لأي شيء آخر أمراً أيسر من لمس الأجسام للأجسام !
وفي سياق تسلية الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] عما يعترض به المعترضون من كبراء قومه على اختياره ؛ واعتزازهم بالقيم الباطلة لعرض هذه الحياة الدنيا . تجيء حلقة من قصة موسى - عليه السلام - مع فرعون وملئه ، يذكر فيها اعتزاز فرعون بمثل ما يعتز به من يقولون : ( لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ) ! وتباهيه بما له من ملك ومن سلطان ، وتساؤله في فخر وخيلاء : ( أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي ? أفلا تبصرون ? ) . . وانتفاخه على موسى - عبدالله ورسوله - وهو مجرد من الجاه الأرضي والعرض الدنيوي : ( أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين ? ) . . واقتراحه الذي يشبه ما يقترحون : ( فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين ) . .
وكأنما هي نسخة تكرر ، أو اسطوانة تعاد !
ثم يبين كيف استجابت لفرعون الجماهير المستخفة المخدوعة ؛ على الرغم من الخوارق التي عرضها عليهم موسى - عليه السلام - وعلى الرغم مما أصابهم من ابتلاءات ، واستغاثتهم بموسى ليدعو ربه فيكشف عنهم البلاء .
ثم كيف كانت العاقبة بعدما ألزمهم الله الحجة بالتبليغ : ( فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين ، فجعلناهم سلفاً ومثلاً للآخرين ) . .
وها هم أولاء الآخرون لا يعتبرون ولا يتذكرون !
ومن خلال هذه الحلقة تتجلى وحدة الرسالة ، ووحدة المنهج ، ووحدة الطريق . كما تتبدى طبيعة الكبراء والطغاة في استقبال دعوة الحق ، واعتزازهم بالتافه الزهيد من عرض هذه الأرض ؛ وطبيعة الجماهير التي يستخفها الكبراء والطغاة على مدار القرون !
الأمر بالسؤال هنا تمثيل لشهرة الخبر وتحققه كما في قول السمؤال أو الحارثي :
سَلي إن جَهِلتِ الناسَ عنا وعنهم
سائِلْ فوارِسَ يَرْبوع بِشدَّتِنا
وقوله : { فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك } [ يونس : 94 ] إذ لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم في شكّ حتى يَسأل ، وإلا فإن سؤاله الرّسل الذين من قبله متعذر على الحقيقة . والمعنى استقْرِ شرائع الرّسل وكتبهم وأخبارهم هل تجد فيها عبادة آلهة . وفي الحديث « واستفتتِ قلبك » أي تثبت في معرفة الحلال والحرام .
وجملة { أجعلنا } بدل من جملة { واسأل } ، والهمزة للاستفهام وهو إنكاري وهو المقصود من الخبر ، وهو ردّ على المشركين في قولهم : { إنا وجدنا آباءنا على أمةٍ وإنا على آثارهم مهتدون } [ الزخرف : 22 ] أي ليس آباؤكم بأهدى من الرّسل الأولين إن كنتم تزعمون تكذيب رسولنا لأنه أمركم بإفراد الله بالعبادة . ويجوز أن يجعل السؤال عن شهرة الخبر . ومعنى الكلام : وإنا ما أمرنا بعبادة آلهة دوننا على لسان أحد من رسلنا . وهذا ردّ لقول المشركين { لو شاء الرحمان ما عبدناهم } [ الزخرف : 20 ] .
و { مِنْ } في قوله : { من قبلك } لتأكيد اتصال الظرف بعامله . و { مِن } في قوله : { من رسلنا } بيان ل { قبلك } .
فمعنى { أجعلنا } ما جعلنا ذلك ، أي جعل التشريع والأمر ، أي ما أمرنا بأن تعبد آلهة دوننا . فوصف آلهة ب { يعبدون } لنفي أن يكون الله يرضى بعبادة غيره فضلاً عن أن يكون غيره إلها مثله وذلك أن المشركين كانوا يعبدون الأصنام وكانوا في عقائدهم أشتاتاً فمنهم من يجعل الأصنام آلهة شركاء لله ، ومنهم من يزعم أنه يعبدهم ليقربوه من الله زُلْفى ، ومنهم من يزعمهم شفعاء لهم عند الله . فلما نفي بهذه الآية أن يكون جَعل آلهة يُعبدون أبطل جميع هذه التمَحُّلات .
وأجري { آلهة } مجرى العقلاء فوصفوا بصيغة جمع العقلاء بقوله : { يعبدون } . ومثله كثير في القرآن جرياً على ما غلب في لسان العرب إذ اعتقدوهم عقلاء عالمين . وقرأ ابن كثير والكسائي { وسَلْ } بتخفيف الهمزة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وسئل من أرسلنا} يعني الذين أرسلنا إليهم.
{من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون} سل يا محمد مؤمني أهل الكتاب هل جاءهم رسول يدعوهم إلى غير عبادة الله؟...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في معنى قوله:"واسأَلْ مَنْ أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا" ومن الذين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمسألتهم ذلك:
فقال بعضهم: الذين أُمر بمسألتهم ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، مؤمنو أهل الكتابين: التوراة، والإنجيل...
وقال آخرون: بل الذي أمر بمسألتهم ذلك الأنبياء الذين جُمعوا له ليلة أُسري به ببيت المقدس...
وأولى القولين بالصواب في تأويل ذلك، قول من قال: عنى به: سل مؤمني أهل الكتابين.
فإن قال قائل: وكيف يجوز أن يقال: سل الرسل، فيكون معناه: سل المؤمنين بهم وبكتابهم؟
قيل: جاز ذلك من أجل أن المؤمنين بهم وبكتبهم أهل بلاغ عنهم ما أتوهم به عن ربهم، فالخبر عنهم وعما جاؤوا به من ربهم إذا صحّ بمعنى خبرهم، والمسألة عما جاؤوا به بمعنى مسألتهم إذا كان المسؤول من أهل العلم بهم والصدق عليهم، وذلك نظير أمر الله جلّ ثناؤه إيانا بردّ ما تنازعنا فيه إلى الله وإلى الرسول، يقول: "فإنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدّوهُ إلى اللّهِ وَالرّسُولِ"، ومعلوم أن معنى ذلك: فردّوه إلى كتاب الله وسنة رسوله؛ لأن الردّ إلى ذلك ردّ إلى الله والرسول. وكذلك قوله: "وَاسْئَلْ مَنْ أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا "إنما معناه: فاسأل كتب الذين أرسلنا من قبلك من الرسل، فإنك تعلم صحة ذلك من قِبَلِنا، فاستغني بذكر الرسل من ذكر الكتب، إذ كان معلوما ما معناه.
"أجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ": أمرناهم بعبادة الآلهة من دون الله فيما جاؤوهم به، أو أتوهم بالأمر بذلك من عندنا.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... يحتمل أن يكون قوله تعالى: {واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا} الآية أي لو سألتهم عن ذلك لقالوا جميعا: لم يرسل بأمر بعبادة غير الله تعالى.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
قيل: الخطاب وإن توجه إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فالمراد به الأمة كأنه قال: واسألوا من أرسلنا كما قال:"يا أيها النبي إذا طلقتم النساء".
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
ليس المراد بسؤال الرسل حقيقة السؤال لإحالته، ولكنه مجاز عن النظر في أديانهم والفحص عن مللهم، هل جاءت عبادة الأوثان قط في ملة من ملل الأنبياء؟
وكفاه نظراً وفحصاً: نظره في كتاب الله المعجز المصدّق لما بين يديه، وإخبار الله فيه بأنهم يعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطاناً.
وهذه الآية في نفسها كافية لا حاجة إلى غيرها، والسؤال الواقع مجازاً عن النظر، حيث لا يصح السؤال على الحقيقة...
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
المراد به الاستشهاد بإجماع الأنبياء على التوحيد، والدلالة على أنه ليس بدع ابتدعه فيكذب ويعادى له، فإنه كان أقوى ما حملهم على التكذيب والمخالفة...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{واسأل من أرسلنا} أي على ما لنا من العظمة.
ولما كان الممكن تعرفه من آثار الرسل إنما هو لموسى وعيسى ومن بينهما من أنبياء بني إسرائيل عليهم الصلاة والسلام الحافظ لسنتهم من التوراة والإنجيل والزبور وسفر الأنبياء، قال مثبتاً للجار المفهم لبعض الزمان: {من قبلك}.
ولما كان أتباعهم قد غيروا وبدلوا فلم تكن بهم ثقة، عبر بالرسل فقال:
{من رسلنا} أي بقراءة أتباعهم لكتبهم التي حرفوا بعضها، وجعلت كتابك مهيمنا عليها فإنهم إذا قرأوها بين يديك وعرضوها عليك علمت معانيها وفضحت تحريفهم وبينت اتفاق الكتب كلها برد ما ألبس عليهم من متشابهها إلى محكمها، فالمراد من هذا نحو المراد من آية يونس {فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك} [رقم: 94] مع زيادة الإشارة إلى تحريفهم، فالمسؤول في الحقيقة القرآن المعجز على لسان الرسول الذي شهدت له جميع الرسل الذين أخذ عليهم العهد بالإيمان به والمتابعة له، وبهذا التقرير ظهر ضعف قول من قال: إن المراد سؤال الرسل حقيقة لما جمعوا له صلى الله عليه وسلم في بيت المقدس ليلة الإسراء، فإنه ليس المراد من هذا إلا تبكيت الكفار من العرب وممن عزهم من أهل الكتاب بقولهم: دينكم خير من دينه وأنتم أهدى سبيلاً منه، فإنهم إذا أحضروا كتبهم علمت دلالتها القطعية على اختصاصه سبحانه بالعبادة كما بينته في كتابي هذا يرد المتشابه منها إلى المحكم، وجعلها ابن جرير مثل قوله تعالى {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر} [النساء: 59] وقال: ومعلوم أن معنى ذلك: فردوه إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، قال: فاستغنى بذكر الرسل عن ذكر الكتب. وهو عين ما قلته، ولو كان المراد حقيقة السؤال وسؤال جميع الرسل لقال "قبلك "بإسقاط "من" ليستغرق الكل -والله أعلم.
ولما ذكر المسؤول مفخماً له بما اقتضته العبارة من الإرسال والإضافة إليه، ذكر المسؤول عنه بقوله تعالى: {أجعلنا} أي أبحنا وأمرنا ورضينا على ما لنا من العظمة والقدرة التامة، مما ينافي ذلك، وقرر حقارة ما سواه بقوله: {من دون} وزاد بقوله: {الرحمن} أي الذي رحمته عمت جميع الموجودات.
{آلهة} ولما كان قد جعل لكل قوم وجهة يتوجهون في عبادتهم إلهاً، وشيئاً محسوساً بغلبة الأوهام على الأفهام يشهدونه وكان ربما تعنت به متعنت، قال محترزاً: {يعبدون} أي من عابد ما بوجه ما.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
دل هذا أن المشركين ليس لهم مستند في شركهم، لا من عقل صحيح، ولا نقل عن الرسل...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
التوحيد هو أساس دين الله الواحد منذ أقدم رسول. فعلام يرتكن هؤلاء الذين يجعلون من دون الرحمن آلهة يعبدون؟ والقرآن يقرر هذه الحقيقة هنا في هذه الصورة الفريدة.. صورة الرسول [صلى الله عليه وسلم] يسأل الرسل قبله عن هذه القضية: (أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون؟) وحول هذا السؤال ظلال الجواب القاطع من كل رسول. وهي صورة طريفة حقاً.
وهو أسلوب موح شديد التأثير في القلوب. وهناك أبعاد الزمان والمكان بين الرسول [صلى الله عليه وسلم] والرسل قبله. وهناك أبعاد الموت والحياة وهي أكبر من أبعاد الزمان والمكان.. ولكن هذه الأبعاد كلها تتلاشى هنا أمام الحقيقة الثابتة المطردة. حقيقة وحدة الرسالة المرتكزة كلها على التوحيد. وهي كفيلة ان تبرز وتثبت حيث يتلاشى الزمان والمكان والموت والحياة وسائر الظواهر المتغيرة؛ ويتلاقى عليها الأحياء والأموات على مدار الزمان متفاهمين متعارفين.. وهذه هي ظلال التعبير القرآني اللطيف العجيب.. على أنه بالقياس إلى النبي [صلى الله عليه وسلم] وإخوانه من الرسل مع ربهم لا يبقى شيء بعيد وآخر قريب. فهناك دائماً تلك اللحظة اللدنية التي تزال فيها الحواجز وترتفع فيها السدود، وتتجلى الحقيقة الكلية عارية من كل ستار. حقيقة النفس وحقيقة الوجود كله وأهل هذا الوجود. تتجلى وحدة متصلة، وقد سقط عنها حاجز الزمان وحاجز المكان وحاجز الشكل والصورة. وهنا يسأل الرسول [صلى الله عليه وسلم] ويجاب، بلا حاجز ولا حجاب. كما وقع في ليلة الإسراء والمعراج. وإنه ليحسن في مثل هذه المواطن ألا نعتد كثيراً بالمألوف في حياتنا. فهذا المألوف ليس هو القانون الكلي. ونحن لا ندرك من هذا الوجود إلا بعض ظواهره وبعض آثاره، حين نهتدي إلى طرف من قانونه. وهناك حجب من تكويننا ذاته ومن حواسنا وما نرتبه عليها من مألوفات. فأما اللحظة التي تتجرد فيها النفس من هذه العوائق والحجب فيكون لقاء الحقيقة المجردة للإنسان بالحقيقة المجردة لأي شيء آخر،أمراً أيسر من لمس الأجسام للأجسام! وفي سياق تسلية الرسول [صلى الله عليه وسلم] عما يعترض به المعترضون من كبراء قومه على اختياره؛ واعتزازهم بالقيم الباطلة لعرض هذه الحياة الدنيا. تجيء حلقة من قصة موسى -عليه السلام- مع فرعون وملئه، يذكر فيها اعتزاز فرعون بمثل ما يعتز به من يقولون: (لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم)! وتباهيه بما له من ملك ومن سلطان، وتساؤله في فخر وخيلاء: (أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي؟ أفلا تبصرون؟).. وانتفاخه على موسى -عبدالله ورسوله- وهو مجرد من الجاه الأرضي والعرض الدنيوي: (أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين؟).. واقتراحه الذي يشبه ما يقترحون (فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين).. وكأنما هي نسخة تكرر، أو اسطوانة تعاد! ثم يبين كيف استجابت لفرعون الجماهير المستخفة المخدوعة؛ على الرغم من الخوارق التي عرضها عليهم موسى -عليه السلام- وعلى الرغم مما أصابهم من ابتلاءات، واستغاثتهم بموسى ليدعو ربه فيكشف عنهم البلاء. ثم كيف كانت العاقبة بعدما ألزمهم الله الحجة بالتبليغ: (فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين، فجعلناهم سلفاً ومثلاً للآخرين).. وها هم أولاء الآخرون لا يعتبرون ولا يتذكرون! ومن خلال هذه الحلقة تتجلى وحدة الرسالة، ووحدة المنهج، ووحدة الطريق. كما تتبدى طبيعة الكبراء والطغاة في استقبال دعوة الحق، واعتزازهم بالتافه الزهيد من عرض هذه الأرض؛ وطبيعة الجماهير التي يستخفها الكبراء والطغاة على مدار القرون!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وصف آلهة ب {يعبدون} لنفي أن يكون الله يرضى بعبادة غيره، فضلاً عن أن يكون غيره إلها مثله، وذلك أن المشركين كانوا يعبدون الأصنام، وكانوا في عقائدهم أشتاتاً: فمنهم من يجعل الأصنام آلهة شركاء لله، ومنهم من يزعم أنه يعبدهم ليقربوه من الله زُلْفى، ومنهم من يزعمهم شفعاء لهم عند الله.
فلما نفى بهذه الآية أن يكون جَعل آلهة يُعبدون أبطل جميع هذه التمَحُّلات. وأجري {آلهة} مجرى العقلاء فوصفوا بصيغة جمع العقلاء بقوله: {يعبدون}...
هنا وقفة تأمل لنفهم الآية {وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ} كيف يسألهم رسول الله وهم أموات، لماذا يأمره ربه عزَّ وجل هذا الأمر؟ وإذا أمر الحق سبحانه رسوله أمراً وجب عليه أن يطيع.
وقد هيَّأ الحق سبحانه هذه الفرصة لنبيه صلى الله عليه وسلم في رحلة الإسراء والمعراج حيث التقى فعلاً بإخوانه الأنبياء السابقين، واجتمع بهم وصلى بهم إماماً في بيت المقدس وهم أموات بقانون الموت وهو حَيٌّ بقانون الأحياء.
وثبت أنه خاطب بعضهم، وتحدث معه كما تحدث مع سيدنا موسى عليه السلام، وأنه راجعه في أمر الصلوات الخمسين، إلى أنْ جعلها الله خمساً.
فإنْ قلتَ: كيف يجتمع الضِّدان (ميت) و (حي) ويكون بينهما كلامٌ وتفاهم؟ نقول: يجوز ذلك لأنه فعل القدرة وطلاقة القدرة لله تعالى، فطلاقة القدرة لا ترتبط بقوانين الحيِّ والميت.
وسبق أنْ قلنا: إنه ينبغي أنْ ننسب الفعل للفاعل لنستريح، فهذه المسألة غَيْبٌ نؤمن به وننسب كلَّ عجيب فيها إلى مُنشئ هذا العجب.
تذكرون قصة سيدنا إبراهيم لما ألقوْهُ في النار، ماذا حدث؟ القانون أن النار تحرق، لكن ماذا إنْ أرادها الله بَرْداً وسلاماً وهي ما زالت ناراً مشتعلة؟ لما أرادها الله كانت بَرْداً وسلاماً على إبراهيم، وتعطَّل فيها قانون الإحراق.
ولو شاء سبحانه لسخَّر لهذه النار سحابة تمطر عليها حتى تنطفئ، ولو شاء ما تمكَّنوا من إبراهيم ولا أمسكوا به، لكن لتتم المعجزة مكَّنهم الله من إبراهيم وألقوه بالفعل في النار وهي تشتعل، ومع ذلك لم تحرقه، فهذه هي طلاقة القدرة.
كذلك رأينا طلاقة القدرة في قصة عصا سيدنا موسى لما ضرب بها البحرَ فانفلقَ، وتجمَّد فيه الماءُ حتى صار كل فِرْق كالطوْد العظيم، وهي نفس العصا ضرب بها الحجر فانفجرتْ منه اثنتا عشرة عيناً، فالحق يعطينا لقطاتٍ لطلاقة القدرة وخَرْق العادة والقوانين لنقيسَ عليها.
بعض المفسِّرين يستبعدون هذه المسألة. أي: اللقاء بين الحي والميت -ويُؤوِّلون المعنى بما يوافق ميولهم، فيقولون: المراد واسأل أتباع الرسل قبلك لأنهم أخذوا الدين عنهم. وأصحاب هذا الرأي يريدون أنْ يُفلتوا من مسألة التقاء الحيِّ بالميت، ومن إثبات هذه المعجزة الخارقة للعادة، لكن لا غرابةَ في ذلك ولا عجبَ لأن الفاعل مَنْ؟ الله.
أو: أن المراد بالسؤال في {وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ} ليس السؤال في ذاته ولا الجواب في ذاته، إنما المراد العِظَة والاعتبار على حَدِّ قول الخطيب مثلاً في خطبة الجمعة: سَل الأرض مَنْ أجرى فيها الأنهار، ومَنْ أنبت فيها الأشجار، سَل الروض مُزداناً، سَل الماء جارياً.. إلخ. إذن: ليس المراد أنْ نسأل الأرض، إنما نسأل أنفسنا ونتفكر ونتأمل.
كذلك في قوله سبحانه: {وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ}..
لكن اسألَ رسولُ الله مَنْ قبله من الرسل عن هذه المسألة {أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَـٰنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ}؟ الواقع أنه لم يسأل، لماذا؟ لأن عنده من اليقين ما يجعله في غِنًى عن هذا السؤال، فرسولُ الله ليس في حاجة لمَنْ يؤكد له أنه ليس مع الله آلهةٌ تُعبد.
لذلك ورد عن الإمام علي كرَّم الله وجهه أنه قال: لو كُشِفَ عني الحجاب ما ازددتُ يقيناً. يعني: أنا مؤمن بالغيبيات إيماناً راسخاً مستقراً، وكأني أطلع عليه وأراه، ولو كُشف لي ما زاد في يقيني شيء، لأن إخبار الله لرسوله بالشيء أصدقُ من رؤيتنا له...
والاستفهام في {أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَـٰنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} يُراد منه النفي والإنكار، فعبادةُ غير الله أمر غير وارد من الرسل، إذن: هو من صُنْع البشر، استحدثوه لإرضاء أهوائهم في أنْ يكونَ لهم معبود، لكن معبودٌ على هواهم، معبود لا يُقيد شهواتهم ورغباتهم بمنهج (افعل كذا) و (لا تفعل كذا).
ومن هنا عبدوا الأصنام وعبدوا الشمس والقمر والكواكب وغيرها، وكلها معبوداتٌ بزعمهم هم- ما أنزل الله بها من سلطان، ولا شرَّعها في أيِّ شريعة من الشرائع.