في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{كُلُّ نَفۡسٖ ذَآئِقَةُ ٱلۡمَوۡتِۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوۡنَ أُجُورَكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۖ فَمَن زُحۡزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدۡخِلَ ٱلۡجَنَّةَ فَقَدۡ فَازَۗ وَمَا ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَآ إِلَّا مَتَٰعُ ٱلۡغُرُورِ} (185)

180

بعد ذلك يتجه السياق إلى الجماعة المسلمة ؛ يحدثها عن القيم التي ينبغي لها أن تحرص عليها ، وتضحي من أجلها ؛ ويحدثها عن أشواك الطريق ومتاعبها وآلامها ، ويهيب بها إلى الصبر والتقوى والعزم والاحتمال :

( كل نفس ذائقة الموت ، وإنما توفون أجوركم يوم القيامة ، فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز ، وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور . لتبلون في أموالكم وأنفسكم ، ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا ، وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور ) . .

إنه لا بد من استقرار هذه الحقيقة في النفس : حقيقة أن الحياة في هذه الأرض موقوتة ، محدودة بأجل ؛ ثم تأتي نهايتها حتما . . يموت الصالحون يموت الطالحون . يموت المجاهدون ويموت القاعدون . يموت المستعلون بالعقيدة ويموت المستذلون للعبيد . يموت الشجعان الذين يأبون الضيم ، ويموت الجبناء الحريصون على الحياة بأي ثمن . . يموت ذوو الاهتمامات الكبيرة والأهداف العالية ، ويموت التافهون الذين يعيشون فقط للمتاع الرخيص .

الكل يموت . . ( كل نفس ذائقة الموت ) . . كل نفس تذوق هذه الجرعة ، وتفارق هذه الحياة . . لا فارق بين نفس ونفس في تذوق هذه الجرعة من هذه الكأس الدائرة على الجميع . إنما الفارق في شيء آخر . الفارق في قيمة أخرى . الفارق في المصير الأخير :

( وإنما توفون أجوركم يوم القيامة . فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز ) . .

هذه هي القيمة التي يكون فيها الافتراق . وهذا هو المصير الذي يفترق فيه فلان عن فلان . القيمة الباقية التي تستحق السعي والكد . والمصير المخوف الذي يستحق أن يحسب له ألف حساب :

( فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز ) . .

ولفظ " زحزح " بذاته يصور معناه بجرسه ، ويرسم هيئته ، ويلقي ظله ! وكأنما للنار جاذبية تشد إليها من يقترب منها ، ويدخل في مجالها ! فهو في حاجة إلى من يزحزحه قليلا قليلا ليخلصه من جاذبيتها المنهومة ! فمن أمكن أن يزحزح عن مجالها ، ويستنقذ من جاذبيتها ، ويدخل الجنة . . فقد فاز . .

صورة قوية . بل مشهد حي . فيه حركة وشد وجذب ! وهو كذلك في حقيقته وفي طبيعته . فللنار جاذبية ! أليست للمعصية جاذبية ؟ أليست النفس في حاجة إلى من يزحزحها زحزحة عن جاذبية المعصية ؟ بلى ! وهذه هي زحزحتها عن النار ! أليس الإنسان - حتى مع المحاولة واليقظة الدائمة - يظل أبدا مقصرا في العمل . . إلا أن يدركه فضل الله ؟ بلى ! وهذه هي الزحزحة عن النار ؛ حين يدرك الإنسان فضل الله ، فيزحزحه عن النار ! ( وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ) . .

إنها متاع . ولكنه ليس متاع الحقيقة ، ولا متاع الصحو واليقظة . . إنها متاع الغرور . المتاع الذي يخدع الإنسان فيحسبه متاعا . أو المتاع الذي ينشىء الغرور والخداع ! فأما المتاع الحق . المتاع الذي يستحق الجهد في تحصيله . . فهو ذاك . . هو الفوز بالجنة بعد الزحزحة عن النار .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{كُلُّ نَفۡسٖ ذَآئِقَةُ ٱلۡمَوۡتِۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوۡنَ أُجُورَكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۖ فَمَن زُحۡزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدۡخِلَ ٱلۡجَنَّةَ فَقَدۡ فَازَۗ وَمَا ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَآ إِلَّا مَتَٰعُ ٱلۡغُرُورِ} (185)

هذه الآية مرتبطة بأصل الغرض المسوق له الكلام ، وهو تسلية المؤمنين على ما أصابهم يوم أُحُد ، وتفنيد المنافقين في مزَاعمهم أنّ الناس لو استشاروهم في القتال لأشاروا بما فيه سلامتهم فلا يهلكوا ، فبعد أنّ بيّن لهم ما يدفع توهّمهم أنّ الانهزام كان خذلاناً من الله وتعجّبهم منه كيف يلحق قوماً خرجوا لنصر الدين وأن لا سبب للهزيمة بقوله : { إنما استزلهم الشيطان } [ آل عمران : 155 ] ثم بيّن لهم أنّ في تلك الرزّية فوائد بقول الله تعالى : { لكيلا تحزنوا على ما فاتكم } [ آل عمران : 153 ] وقوله : { وليعلم المؤمنين } [ آل عمران : 166 ] ، ثم أمرهم بالتسليم لله في كلّ حال فقال : { وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله } [ آل عمران : 166 ] وقال : { يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم } [ آل عمران : 156 ] الآية . وبيّن لهم أنّ قتلى المؤمنين الذين حزِنوا لهم إنّما هم أحياء ، وأنّ المؤمنين الذين لم يلحقوا بهم لا يضيع الله أجرهم ولا فَضْلَ ثباتهم ، وبيّن لهم أنّ سلامة الكفّار لا ينبغي أن تُحزن المؤمنين ولا أن تسرّ الكافرين ، وأبطل في خلال ذلك مقال المنافقين بقوله : { قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم } [ آل عمران : 154 ] وبقوله : { الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا } [ آل عمران : 168 ] إلى قوله : { قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين } [ آل عمران : 168 ] ختم ذلك كلّه بما هو جامع للغرضين في قوله تعالى : { كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة } لأنّ المصيبة والحزن إنّما نشآ على موت من استشهد من خيرة المؤمنين ، يعني أنّ الموت لمّا كان غاية كلّ حيّ فلو لم يموتوا اليوم لماتوا بعدَ ذلك فلا تأسفوا على موت قتلاكم في سبيل الله ، ولا يفتنكم المنافقون بذلك ، ويكون قوله بعده : { وإنما توفون أجوركم يوم القيامة } قصر قلب لتنزيل المؤمنين فيما أصابهم من الحزن على قتلاهم وعلى هزيمتهم ، منزلة من لا يترقّب من عمله إلاّ منافع الدنيا وهو النصر والغنيمة ، مع أنّ نهاية الأجر في نعيم الآخرة ، ولذلك قال : { توفون أجوركم } أي تكمل لكم ، وفيه تعريض ، بأنّهم قد حصلت لهم أجور عظيمة في الدنيا على تأييدهم للدين : منها النصر يوم بدر ، ومنها كفّ أيدي المشركين عنهم في أيام مقامهم بمكّة إلى أن تمكّنوا من الهجرة .

والذوق هنا أطلق على وِجدانِ الموت ، تقدّم بيان استعماله عند قوله آنفاً : { ونقول ذوقوا عذاب الحريق } [ آل عمران : 181 ] وشاع إطلاقه على حصول الموت ، قال تعالى : { لا يذوقون فيها الموت } [ الدخان : 56 ] ويقال ذاق طعم الموت .

والتوفية : إعطاء الشيء وافياً . ويطلقها الفقهاء على مطلق الإعطاء والتسليم ، والأجور جمع الأجر بمعنى الثواب ، ووجه جمعه مراعاة أنواع الأعمال . ويوم القيامة يومُ الحشر سمّي بذلك لأنّه يقوم فيه الناس من خمود الموت إلى نهوض الحياة .

والفاء في قوله : { فمن زحزح } للتفريع على { توفون أجوركم } ، ومعنى : { زحزح } أبعد . وحقيقةُ فعل زحزح أنها جذبٌ بسرعة ، وهو مضاعف زَحَّه عن المكان إذا جذبه بعجلة .

وإنّما جُمع بين { زُحزح عن النار وأدخل الجنة } ، مع أنّ في الثاني غنية عن الأوّل ، للدلالة على أنّ دخول الجنة يشتمل على نعمتين عظيمتين : النجاة من النار ، ونعيم الجنّة .

ومعنى { فقد فاز } نال مبتغاه من الخير لأنّ ترتّب الفوز على دخول الجنّة والزحزحة عن النار معلوم فلا فائدة في ذكر الشرط إلاّ لهذا . والعرب تعتمد في هذا على القرائن ، فقد يكون الجواب عين الشرط لبيان التحقّق ، نحو قول القائل : من عرفني فقد عرفني ، وقد يكون عينه بزيادة قيد نحو قوله تعالى : { وإذا مروا باللغو مروا كراما } وقد يكون على معنى بلوغ أقصى غايات نوع الجواب والشرط كما في هذه الآية وقوله : { ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته } على أحد وجهين ، وقول العرب : « مَنْ أدرك مَرْعَى الصَّمَّان فقَدْ أدرك » وجميع ما قرّر في الجواب يأتي مثله في الصفة ونحوها كقوله : { ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا } [ القصص : 63 ] .