في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَقَالُواْ هَٰذِهِۦٓ أَنۡعَٰمٞ وَحَرۡثٌ حِجۡرٞ لَّا يَطۡعَمُهَآ إِلَّا مَن نَّشَآءُ بِزَعۡمِهِمۡ وَأَنۡعَٰمٌ حُرِّمَتۡ ظُهُورُهَا وَأَنۡعَٰمٞ لَّا يَذۡكُرُونَ ٱسۡمَ ٱللَّهِ عَلَيۡهَا ٱفۡتِرَآءً عَلَيۡهِۚ سَيَجۡزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفۡتَرُونَ} (138)

136

( وقالوا : هذه أنعام وحرث حجر ، لا يطعمها إلا من نشاء - بزعمهم - وأنعام حرمت ظهورها وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها - افتراء عليه - سيجزيهم بما كانوا يفترون )

قال أبو جعفر بن جرير الطبري : " وهذا خبر من الله - تعالى ذكره - عن هؤلاء الجهلة من المشركين . إنهم كانوا يحرمون ويحللون من قبل أنفسهم ، من غير أن يكون الله أذن لهم بشيء من ذلك " .

والحجر : الحرام . . فهؤلاء المعتدون على سلطان الله ، الذين يدعون - مع ذلك - أن ما يشرعونه هو شريعة الله ، قد عمدوا إلى بعض الزروع وبعض الأنعام ، فعزلوها لآلهتهم - كما تقدم - وقالوا : هذه الأنعام وهذه الثمار محرمة عليهم لا يطعمونها . لا يطعمها إلا من شاء الله ! - بزعمهم ! - والذي يقرر ما يقرر في هذا الشأن هم بطبيعة الحال الكهنة والسدنة والرؤساء ! وعمدوا إلى أنعام قيل : إنها هي الأنواع المسماة في آية المائدة : ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام فجعلوا ظهورها حراما على الركوب . كما عمدوا إلى أنعام فقالوا : هذه لا يذكر اسم الله عليها عند ركوبها ولا عند حلبها ، ولا عند ذبحها . . إنما تذكر أسماء الآلهة وتخلص لها ! كل ذلك ( افتراء على الله ) !

قال أبو جعفر بن جرير : " وأما قوله ( افتراء على الله ) فإنه يقول : فعل هؤلاء المشركون ما فعلوا من تحريمهم ما حرموا ، وقالوا ما قالوا من ذلك ، كذباً على الله ، وتخرصاً بالباطل عليه ، لأنهم أضافوا ما كانوا يحرمون من ذلك ، على ما وصفه عنهم جل ثناؤه في كتابه ، إلى أن الله هو الذي حرمه ، فنفى الله ذلك عن نفسه ، وأكذبهم . وأخبر نبيه والمؤمنين أنهم كذبة فيما يدعون " .

وهنا كذلك تبدو لنا أساليب الجاهلية ، التي تتكرر في معظم الجاهليات ، وذلك قبل أن يبلغ التبجح بناس من البشر أن يقولوا بمادية الوجود ! وقبل أن يبلغ التبجح ببعض من لا ينكرون الله البتة ، أن يجهروا بأن " الدين " مجرد " عقيدة " وليس نظاماً اجتماعيا أو اقتصاديا أو سياسيا ، يهيمن على الحياة !

وإن كان ينبغي أن ندرك دائماً أن أسلوب الجاهلية التي تقيم نظاماً أرضياً ، الحاكمية فيه للبشر لا لله ، ثمتزعم أنها تحترم الدين وتستمد منه أوضاعها الجاهلية . . أن ندرك أن هذا الأسلوب هو أخبث الأساليب وأمهرها على الإطلاق ! ولقد عمدت الصليبية العالمية والصهيونية العالمية إلى هذا الأسلوب في المنطقة التي كانت يوما دار إسلام تحكم بشريعة الله . بعدما تبين لها فشل التجربة التركية التي قام بها البطل الذي صنعوه هناك ! . . لقد أدت لهم هذه التجربة دورا هاما في تحطيم الخلافة كآخر مظهر للتجمع الإسلامي في الأرض ، ولكنها بعلمانيتها السافرة قد عجزت عن أن تكون نموذجاً يؤثر في بقية المنطقة . لقد انخلعت من الدين ، فأصبحت أجنبية عن الجميع ، الذين ما يزال الدين عاطفة غامضة في قرارات نفوسهم . . ومن ثم عمدت الصليبية العالمية والصهيونية في التجارب التالية ، التي تستهدف نفس الهدف ، أن تتدارك غلطة التجربة الكمالية التركية . فتضع على هذه التجارب ستارا من الدين وتقيم له أجهزة دينية تضفي عليه هذه الصفة ، سواء بالدعاية المباشرة ؛ أو باستنكار جزئيات هزيلة يوهم استنكارها أن ما عداها سليم ! وكان هذا من أخبث الكيد الذي تكيده شياطين الإنس والجن لهذا الدين . .

على أن الأجهزة الصليبية والصهيونية التي تعمل بكل ثقلها في هذه الفترة ، وبكل تضامنها وتجمعها ، وبكل تجاربها وخبرتها ، تحاول أن تسترد الغلطة في التجربة التركية ذاتها ، بأن تزعم أن هذه التجربة ذاتها كانت حركة من حركات البعث الإسلامي ! وأننا يجب ألا نصدقها فيما أعلنته عن نفسها من أنها [ علمانية ] تنبذ الدين وتعزله عن الحياة عزلاً !

ويجهد المستشرقون [ وهم الأداة الفكرية للاستعمار الصليبي الصهيوني ] في تطهير التجربة الكمالية من تهمة الإلحاد جهداً كبيراً . . ذلك أن انكشاف إلحادها جعلها تؤدي دورا محدوداً . . وهو سحق آخر مظهر للتجمع الإسلامي في الأرض . . ولكنها عجزت بعد ذلك أن تؤدي الدور الآخر - الذي تحاول أن تؤديه التجارب التالية في المنطقة - من تفريغ المفهومات الدينية والحماسة الدينية في أوضاع وأشكال جاهلية ! ومن تبديل الدين باسم الدين ! ومن إفساد الخلق والمقومات الفطرية الأصيلة باسم الدين أيضا . ومن إلباس الجاهلية ثوب الإسلام لتؤدي به دورها في كل البقاع التي ما يزال فيها عاطفة دينية غامضة ؛ وقيادتها بهذا الخطام المزور الخادع إلى محاضن الصليبية والصهيونية . . الأمر الذي عجزت عنه الحملات الصليبية والصهيونية طوال ألف وثلاث مائة عام ، من الكيد للإسلام !

( سيجزيهم بما كانوا يفترون ) . .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَقَالُواْ هَٰذِهِۦٓ أَنۡعَٰمٞ وَحَرۡثٌ حِجۡرٞ لَّا يَطۡعَمُهَآ إِلَّا مَن نَّشَآءُ بِزَعۡمِهِمۡ وَأَنۡعَٰمٌ حُرِّمَتۡ ظُهُورُهَا وَأَنۡعَٰمٞ لَّا يَذۡكُرُونَ ٱسۡمَ ٱللَّهِ عَلَيۡهَا ٱفۡتِرَآءً عَلَيۡهِۚ سَيَجۡزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفۡتَرُونَ} (138)

هذه الآية تتضمن تعديد ما شرعوه لأنفهسم والتزموه على جهة القربة كذباً منهم على الله وافتراء عليه ، فوصف تعالى أنهم عمدوا إلى بعض أنعامهم وهي الإبل والبقر والغنم أو الإبل بانفرادها ، وما غيرها إذا انفرد فلا يقال له أنعام ، وإلى بعض زروعهم وثمارهم ، وسمي ذلك «حرثاً » إذ عن الحرث يكون ، وقالوا هذه حجر أي حرام ، وقرأ جمهور الناس «حِجْر » بكسر الحاء وسكون الجيم ، وقرأ قتادة والحسن والأعرج «حُجْر » بضم الحاء وسكون الجيم ، وقرأ ابن عباس وأبيّ وابن مسعود وابن الزبير والأعمش وعكرمة وعمرو بن دينار «حِرْج » بكسر الحاء وتقديم الراء على الجيم وسكونها ، فالأولى والثانية بمعنى التحجير وهو المنع والتحريم{[5113]} ، والأخيرة من الحرج وهو التضييق والتحريم{[5114]} ، وكانت هذه الأنعام على ما قال ابن زيد محللة للرجال محرمة على النساء ، وقيل كانت وقفاً لمطعم سدنة بيوت الأصنام وخدمتها ، حكاه المهدوي ، فذلك المراد بقوله { من نشاء } وقوله { بزعمهم } أي بتقولهم الذي هو أقرب إلى الباطل منه إلى الحق ، و «زعمهم » هنا هو في قولهم «حجر » وتحريمهم بذلك ما لم يحرم الله تعالى ، وقرأ ابن أبي عبلة «بزَعَمهم » بفتح الزاي والعين ، وكذلك في الذي تقدم ، { وأنعام حرمت ظهورها } كانت للعرب سنن ، إذا فعلت الناقة كذا من جودة النسل والمواصلة بين الإناث ونحوه حرم ظهورها فلم تركب وإذا فعل الفحل كذا وكذا حرم فعدد الله ذلك على جهة الرد عليهم إذ شرعوا بذلك برأيهم وكذبهم . { وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها } قيل كانت لهم سنة في أنعام ما أن لا يحج عليها فكانت تركب في كل وجه إلا في الحج ، فذلك قوله { وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها } هذا قول جماعة من المفسرين .

ويروى ذلك عن أبي وائل ، وقالت فرقة : بل ذلك في الذبائح يريد أنهم جعلوا لآلهتهم منها نصيباً لا يذكرون الله على ذبحها ، وقوله { افتراء } مصدر نصب على المفعول من أجله أو على إضمار فعل تقديره يفترون ذلك ، و { سيجزيهم } وعيد بمجازاة الآخرة ، والضمير في { عليه } عائد على اسم الله ، و { يفترون } أي يكذبون ويختلقون .


[5113]:- الحِجر لفظ مشترك، وهو هنا بمعنى الحرام، وأصله المنع، وسُمّي العقل حجرا لمنعه عن القبائح، ويقال: فلان في حجر القاضي، أي في منعه، وحجرت على الصبي حجرا، والحجر: العقل، قال الله تعالى: {هل في ذلك قسم لذي حجر}، والحجر: الفرس الأنثى، والحجر: القرابة، قال الشاعر: يريدون أن يقصوه عني وإنه لذو حسب دان إلي وذو حجر
[5114]:- هذا رأي فالحِرج بالكسر فالسكون لغة في الحرج بفتح الحاء والراء وهو الضيق والإثم، والرأي الثاني أن الحِجر مثل: جبذ وجذب، فهو من القلب المكاني قاله في "القرطبي"، وفي "البحر المحيط".
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَقَالُواْ هَٰذِهِۦٓ أَنۡعَٰمٞ وَحَرۡثٌ حِجۡرٞ لَّا يَطۡعَمُهَآ إِلَّا مَن نَّشَآءُ بِزَعۡمِهِمۡ وَأَنۡعَٰمٌ حُرِّمَتۡ ظُهُورُهَا وَأَنۡعَٰمٞ لَّا يَذۡكُرُونَ ٱسۡمَ ٱللَّهِ عَلَيۡهَا ٱفۡتِرَآءً عَلَيۡهِۚ سَيَجۡزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفۡتَرُونَ} (138)

عطف على جملة : { وكذلك زَيَّن لكثير من المشركين قتلَ أولادهم شركاؤُهم } [ الأنعام : 137 ] وهذا ضرب آخر من دينهم الباطل ، وهو راجع إلى تحجير التّصرّف على أنفسهم في بعض أموالهم ، وتعيين مصارفه ، وفي هذا العطف إيماء إلى أنّ ما قالوه هو من تلقين شركائهم وسدنة أصنامهم كما قلنا في مَعْنى زيّن لهم شركاؤُهم .

والإشارة بهذه وهذه إلى حاضر في ذهن المتكلّمين عند صدور ذلك القول : وذلك أن يقول أحدهم هذه الأصناف مصرفها كذا ، وهذه مصرفها كذا ، فالإشارة من مَحكِيّ قولهم حين يَشْرعون في بيان أحكام دينهم ، كما يقول القَاسم : هذا لفلان ، وهذا للآخر . وأجمل ذلك هنا إذ لا غرض في بيانه لأنّ الغرض التّعجيب من فساد شرعهم ، كما تقدّم في قوله تعالى : { فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا } [ الأنعام : 136 ] وقد صنّفوا ذلك ثلاثة أصناف :

صنف محجّر على مالكه انتفاعه به ، وإنَّما ينتفع به من يعّينه المالك . والّذي يؤخذ ممّا روي عن جابر بن زيد وغيره : أنَّهم كانوا يعيّنون مِن أنعامهم وزرعهم وثمارهم شيئاً يحجّرون على أنفسهم الانتفاع به ، ويعيّنونه لمن يشاءون من سدنة بيوت الأصنام ، وخدمتها ، فتنحر أو تذبح عندما يرى من عُيِّنَت له ذلك ، فتكون لحاجة النّاس والوافدين على بيوت الأصنام وإضافتهم ، وكذلك الزّرع والثّمار تدفع إلى من عُيّنت له ، يصرفها حيث يتعيّن . ومن هذا الصّنف أشياء معيَّنة بالاسم ، لها حكم منضبط مثل البَحِيرة : فإنَّها لا تُنحر ولا تُؤكل إلاّ إذا ماتَت حتف أنفها ، فيحلّ أكلها للرّجال دون النّساء ، وإذا كان لها دَرّ لا يشربه إلاّ سدنة الأصنام وضيوفهم ، وكذلك السائبة يَنتفع بدَرّها أبناءُ السَّبيل والسَدنة ، فإذا ماتت فأكْلُهَا كالبَحِيرة ، وكذلك الحامي ، كما تقدّم في سورة المائدة .

فمعنى { لا يطعمها } لا يأكل لحمها ، أي يَحرم أكل لحمها . ونون الجماعة في { نشاء } مراد بها القائلون ، أي يقولون لا يطعمها إلاّ من نشاء ، أي من نُعيِّن أن يطعمها ، قال في « الكشاف » : يعنون خدَم الأوثان والرّجال دون النّساء .

والحرث أصله شق الأرض بآلة حديديّة ليزرع فيها أو يغرس ، ويطلق هذا المصدر على المكان المحروث وعلى الأرض المزروعة والمغروسة وإن لم يكن بها حرث ومنه قوله تعالى : { أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين } [ القلم : 22 ] فسمّاه حرثاً في وقت جذاذ الثّمار .

والحِجْر : اسم للمحجّر الممنوع ، مثل ذبح للمذبوح ، فمنع الأنعام منع أكل لحومها ، ومنع الحرث منع أكل الحبّ والتّمر والثّمار ، ولذلك قال : { لا يطعمها إلا من نشاء } .

وقوله : { بزعمهم } معترض بين { لا يطعمها إلاّ من نشاء } وبين : { وأنعام حرمت ظهورها } . والباء في : { بزعمهم } بمعنى ( عن ) ، أو للملابسة ، أي يقولون ذلك باعتقادهم الباطل ، لأنَّهم لمّا قالوا : { لا يطعمها } لم يريدوا أنَّهم منعوا النّاس أكلها إلاّ من شاءوه ، لأنّ ذلك من فعلهم وليس من زعمهم .

وإنَّما أرادوا بالنَّفي نفي الإباحة ، أي لا يحلّ أن يطعمها إلاّ من نشاء ، فالمعنى : اعتقدوها حراماً لغير من عيّنوه ، حتّى أنفسهم ، وما هي بحرام ، فهذا موقع قوله : { بزعمهم } . وتقدّم القول على الباء من قوله : { بزعمهم } آنفاً عند قوله تعالى : { فقالوا هذا لله بزعمهم } [ الأنعام : 136 ] .

والصّنف الثّاني : أنعام حُرّمت ظهورها ، أي حُرّم ركوبها ، منها الحامي : لا يَركبه أحد ، وله ضابط متّبع كما تقدّم في سورة المائدة ، ومنها أنعام يحرّمون ظهورها ، بالنّذر ، يقول أحدهم : إذا فعلتْ النّاقةُ كذا من نسللٍ أو مواصلة بين عِدة من إناث ، وإذا فعل الفحل كذا وكذا ، حَرم ظهره . وهذا أشار إليه أبو نواس في قوله مادحاً الأمين :

وإذا المَطيُّ بنا بلغّن محمداً *** فظهورهن على الرجال حرام

فقوله : { وأنعام حرمت ظهورها } معطوف على : { أنعام وحرث حجر } فهو كخبر عن اسم الإشارة . وعُلم أنَّه عطف صنف لوروده بعد استيفاء الأوصاف الّتي أجريت على خبر اسم الإشارة والمعطوف عليه عقبه . والتّقدير : وقالوا هذه أنعام وحرث حجر وهذه أنعام حرّمت ظهورها وبُني فعل : { حرمت } للمجهول : لظهور الفاعل ، أي حرّم الله ظهورها بقرينة قوله : { افتراء عليه } .

والصّنف الثّالث : أنعام لا يذكرون اسم الله عليها ، أي لا يذكرون اسم الله عند نحرها أو ذبحها ، يزعمون أنّ ما أهدي للجنّ أو للأصنام يُذكر عليه اسم مَا قُرّب له ، ويزعمون أنّ الله أمر بذلك لتكون خالصَة القربان لما عُيّنت له ، فلأجل هذا الزعم قال تعالى : { افتراء عليه } إذ لا يعقل أن ينسب إلى الله تحريمُ ذِكر اسمه على ما يقرّب لغيره لولا أنَّهم يزعمون أنّ ذلك من القربان الّذي يُرضي الله تعالى ، لأنَّه لشركائه ، كما كانوا يقولون : « لَبَّيْك لا شريكْ لك ، إلاّ شريكاً هُوَ لكْ ، تَمْلِكُه ومَا مَلكْ » .

وعن جماعة من المفسّرين ، منهم أبو وائل{[234]} ، الأنعام التي لا يذكرون اسم الله عليها كانت لهم سنّة في بعض الأنعام أن لا يُحجّ عليها ، فكانت تُركب في كلّ وجه إلاّ الحجّ ، وأنَّها المراد بقوله : { وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها } لأنّ الحجّ لا يخلو من ذكر الله حين الكون على الرّاحلة من تلبية وتكبير ، فيكون : { لا يذكرون اسم الله عليها } كناية عن منع الحجّ عليها ، والظاهر أنّ هذه هي الحامي والبحيرة والسّائبة ، لأنَّهم لمّا جعلوا نفعها للأصنام لم يجيزوا أن تستعمل في غير خدمة الأصنام .

وقوله : { وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها } معطوف على قوله : { وأنعام حرمت ظهورها } وهو عطف صنف على صنف ، بقرينة استيفاء أوصاف المعطوف عليه ، كما تقدّم في نظيره .

وانتصب : { افتراء عليه } على المفعولية المطلقة ل { قالوا } ، أي قالوا ذلك قولَ افتراء ، لأنّ الافتراء بعض أنواع القول ، فصحّ أن ينتصب على المفعول المطلق المبين لنوع القول ، والافتراء الكذب الّذي لا شبهة لقائله فيه وتقدّم عند قوله تعالى : { فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون } في سورة آل عمران ( 94 ) ، وعند قوله : ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب في سورة العقود ( 103 ) . وإنَّما كان قولهم افتراء : لأنَّهم استندوا فيه لشيء ليس وارداً لهم من جانب الله ، بل هو من ضلال كبرائهم .

وجملة : { سيجزيهم بما كانوا يفترون } استئناف بياني ، لأنّ الافتراء على الخالق أمر شنيع عند جميع الخلق ، فالإخبار به يثير سؤال من يسأل عمّا سيلقونه من جزاء افترائهم ، فأجيب بأنّ الله سيجزيهم بما كانوا يفترون . وقد أبهم الجزاء للتهويل لتذهب النّفوس كلّ مذهب ممكن في أنواع الجزاء على الإثم ، والباء بمعنى ( عن ) ، أو للبدلية والعوض .


[234]:الأظهر أنه شقيق بن سلمة الأسدي الكوفي من أصحاب اين مسعود توفي في خلافة عمر بن عبد العزيز، ويحتمل أنه عبد الله بن بحير – بموحدة مفتوحة فحاء مهملة مكسورة- المرادي الصنعاني القاص، وثقه بن معين.
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَقَالُواْ هَٰذِهِۦٓ أَنۡعَٰمٞ وَحَرۡثٌ حِجۡرٞ لَّا يَطۡعَمُهَآ إِلَّا مَن نَّشَآءُ بِزَعۡمِهِمۡ وَأَنۡعَٰمٌ حُرِّمَتۡ ظُهُورُهَا وَأَنۡعَٰمٞ لَّا يَذۡكُرُونَ ٱسۡمَ ٱللَّهِ عَلَيۡهَا ٱفۡتِرَآءً عَلَيۡهِۚ سَيَجۡزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفۡتَرُونَ} (138)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{وقالوا هذه أنعام وحرث حجر}، يعني حرام، {لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم}، يعني الرجال دون النساء، وكانت مشيئتهم أنهم جعلوا اللحوم والألبان للرجال دون النساء، {وأنعام حرمت ظهورها}، يعني الحام، {وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها}، يعني البحيرة إن نتجوها أو نحروها لم يذكروا اسم الله عليها، {افتراء عليه}، على الله، يعني كذبا على الله، {سيجزيهم بما كانوا يفترون} حين زعموا أن الله أمرهم بتحريمه، حين قالوا في الأعراف: {والله أمرنا بها} (الأعراف: 28)...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

هذا خبر من الله تعالى ذكره عن هؤلاء الجهلة من المشركين أنهم كانوا يحرّمون ويحلّلون من قِبَل أنفسهم من غير أن يكون الله أذن لهم بشيء من ذلك. يقول تعالى ذكره: وقال هؤلاء العادلون بربهم من المشركين جهلاً منهم، لأنعام لهم وحرث: هذه أنعام، وهذا حرث حجر، يعني بالأنعام والحرث ما كانوا جعلوه لله ولآلهتهم التي قد مضى ذكرها في الآية قبل هذه. وقيل: إن الأنعام: السائبة والوَصيلة والبحيرة التي سَمّوْا...

والحِجْر في كلام العرب: الحرام، يقال: حجرت على فلان كذا: أي حرّمت عليه... وذلك أنهم كانوا يصنعون في الجاهلية أشياء لم يأمر الله بها، كانوا يحرّمون من أنعامهم أشياء لا يأكلونها، ويعزلون من حرثهم شيئا معلوما لآلهتهم، ويقولون: لا يحلّ لنا ما سمينا لآلهتنا...

"وأنْعامٌ حُرّمَتْ ظُهُورُها وأنْعامٌ لاَ يَذْكُرُونَ اسَمَ اللّهِ عَلَيْها افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كانُوا يَفْتَرُونَ" يقول تعالى ذكره: وحرّم هؤلاء الجهلة من المشركين، ظهور بعض أنعامهم، فلا يركبون ظهورها، وهم ينتفعون برَسْلها ونِتاجها، وسائر الأشياء منها غير ظهورها للركوب، وحرّموا من أنعامهم أنعاما أخر فلا يحجون عليها ولا يذكرون اسم الله عليها إن ركبوها بحال ولا إن حلبوها ولا إن حملوا عليها...

وأما قوله: "افْتِرَاءً على الله"، فإنه يقول: فعل هؤلاء المشركون ما فعلوا من تحريمهم ما حرّموا، وقالوا ما قالوا من ذلك، كذبا على الله، وتخرّصا الباطلَ عليه، لأنهم أضافوا ما كانوا يحرّمون من ذلك على ما وصفه عنهم جلّ ثناؤه في كتابه إلى أن الله هو الذي حرّمه، فنفى الله ذلك عن نفسه، وأكذبهم، وأخبر نبيه والمؤمنين أنهم كذبة فيما يزعمون. ثم قال عزّ ذكره: "سَيَجْزيهِمْ" يقول: سيثيبهم ربهم، بِمَا كانُوا يَفْتَرُونَ على الله الكذب ثوابهم، ويجزيهم بذلك جزاءهم.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

والإشارة فيه أن من نحا نحوهم في زيادة شيء في الدين، أو نقصان شيءٍ من شرع المسلمين فمضاهٍ لهم في البطلان، ينخرط في سلكهم في الطغيان...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{حِجْرٌ}... وهو من التضييق، وكانوا إذا عينوا أشياء من حرثهم وأنعامهم لآلهتهم قالوا: {لاَّ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَن نَّشَاء} يعنون خدم الأوثان، والرجال دون النساء {وأنعام حُرّمَتْ ظُهُورُهَا} وهي البحائر والسوائب والحوامي {وأنعام لاَّ يَذْكُرُونَ اسم الله عَلَيْهَا} في الذبح، وإنما يذكرون عليها أسماء الأصنام. وقيل: لا يحجون عليها ولا يلبون على ظهورها. والمعنى: أنهم قسموا أنعامهم فقالوا: هذه أنعام حجر، وأنعام محرّمة الظهور، وهذه أنعام لا يذكر عليها اسم الله. فجعلوها أجناساً بهواهم، ونسبوا ذلك التجنيس إلى الله {افتراء عَلَيْهِ} أي فعلوا ذلك كله على جهة الافتراء -تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

اعلم أن هذا نوع ثالث من أحكامهم الفاسدة، وهي أنهم قسموا أنعامهم أقساما: فأولها: إن قالوا: {هذه أنعام وحرث حجر}... وأصل الحجر: المنع، وسمي العقل حجرا لمنعه عن القبائح، وفلان في حجر القاضي: أي في منعه...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

هذه ثلاثة أنواع أخرى من أحكامهم المخترعة المبنية على غواية شركهم؛ فالأول: أنهم كانوا يقتطعون بعض أنعامهم وأقواتهم من الحبوب وغيرها ويمنعون التصرف فيها إلا فيما يخصونها له تعبدا ويقولون "هي حجر "وهو بالكسر بمعنى المحجور الممنوع أن يتصرف فيه... وأصله ما أحيط بالحجارة ومنه حجر الكعبة...

وجملة القول أنهم قسموا أنعامهم هذا التقسيم الذي جعلوه من أحكام الدين فنسبوه إلى الله تعالى حكما وديانة {افْتِرَاء عَلَيْهِ} أي قالوه أو فعلوه مفترين إياه أو افتروه افتراء واختلقوه اختلاقا والله بريء منه لم يشرعه لهم، وما كان لغير الله أن يحلل أو يحرم على العباد ما لم يأذن به كما قال في آية أخرى: {قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا، قل الله أذن لكم أم على الله تفترون} (يونس 59) أي بل أنتم تفترون عليه... {سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} أي سيجزون الجزاء الشديد الأليم بسبب هذا الافتراء القبيح.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

...وهذا ضرب آخر من دينهم الباطل، وهو راجع إلى تحجير التّصرّف على أنفسهم في بعض أموالهم، وتعيين مصارفه، وفي هذا العطف إيماء إلى أنّ ما قالوه هو من تلقين شركائهم وسدنة أصنامهم كما قلنا في مَعْنى زيّن لهم شركاؤُهم.

والإشارة بهذه وهذه إلى حاضر في ذهن المتكلّمين عند صدور ذلك القول: وذلك أن يقول أحدهم هذه الأصناف مصرفها كذا، وهذه مصرفها كذا، فالإشارة من مَحكِيّ قولهم حين يَشْرعون في بيان أحكام دينهم، كما يقول القَاسم: هذا لفلان، وهذا للآخر. وأجمل ذلك هنا إذ لا غرض في بيانه لأنّ الغرض التّعجيب من فساد شرعهم، كما تقدّم في قوله تعالى: {فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا} [الأنعام: 136] وقد صنّفوا ذلك ثلاثة أصناف:

صنف محجّر على مالكه انتفاعه به، وإنَّما ينتفع به من يعّينه المالك. والّذي يؤخذ ممّا روي عن جابر بن زيد وغيره: أنَّهم كانوا يعيّنون مِن أنعامهم وزرعهم وثمارهم شيئاً يحجّرون على أنفسهم الانتفاع به، ويعيّنونه لمن يشاءون من سدنة بيوت الأصنام، وخدمتها، فتنحر أو تذبح عندما يرى من عُيِّنَت له ذلك، فتكون لحاجة النّاس والوافدين على بيوت الأصنام وإضافتهم، وكذلك الزّرع والثّمار تدفع إلى من عُيّنت له، يصرفها حيث يتعيّن. ومن هذا الصّنف أشياء معيَّنة بالاسم، لها حكم منضبط مثل البَحِيرة: فإنَّها لا تُنحر ولا تُؤكل إلاّ إذا ماتَت حتف أنفها، فيحلّ أكلها للرّجال دون النّساء، وإذا كان لها دَرّ لا يشربه إلاّ سدنة الأصنام وضيوفهم، وكذلك السائبة يَنتفع بدَرّها أبناءُ السَّبيل والسَدنة، فإذا ماتت فأكْلُهَا كالبَحِيرة، وكذلك الحامي، كما تقدّم في سورة المائدة.

فمعنى {لا يطعمها} لا يأكل لحمها، أي يَحرم أكل لحمها. ونون الجماعة في {نشاء} مراد بها القائلون، أي يقولون لا يطعمها إلاّ من نشاء، أي من نُعيِّن أن يطعمها... والحرث أصله شق الأرض بآلة حديديّة ليزرع فيها أو يغرس، ويطلق هذا المصدر على المكان المحروث وعلى الأرض المزروعة والمغروسة وإن لم يكن بها حرث ومنه قوله تعالى: {أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين} [القلم: 22] فسمّاه حرثاً في وقت جذاذ الثّمار.

والحِجْر: اسم للمحجّر الممنوع، مثل ذبح للمذبوح، فمنع الأنعام منع أكل لحومها، ومنع الحرث منع أكل الحبّ والتّمر والثّمار، ولذلك قال: {لا يطعمها إلا من نشاء}.

وقوله: {بزعمهم} معترض بين {لا يطعمها إلاّ من نشاء} وبين: {وأنعام حرمت ظهورها}. والباء في: {بزعمهم} بمعنى (عن)، أو للملابسة، أي يقولون ذلك باعتقادهم الباطل، لأنَّهم لمّا قالوا: {لا يطعمها} لم يريدوا أنَّهم منعوا النّاس أكلها إلاّ من شاءوه، لأنّ ذلك من فعلهم وليس من زعمهم.

وإنَّما أرادوا بالنَّفي نفي الإباحة، أي لا يحلّ أن يطعمها إلاّ من نشاء، فالمعنى: اعتقدوها حراماً لغير من عيّنوه، حتّى أنفسهم، وما هي بحرام، فهذا موقع قوله: {بزعمهم}. وتقدّم القول على الباء من قوله: {بزعمهم} آنفاً عند قوله تعالى: {فقالوا هذا لله بزعمهم} [الأنعام: 136].

والصّنف الثّاني: أنعام حُرّمت ظهورها، أي حُرّم ركوبها، منها الحامي: لا يَركبه أحد، وله ضابط متّبع كما تقدّم في سورة المائدة، ومنها أنعام يحرّمون ظهورها، بالنّذر، يقول أحدهم: إذا فعلتْ النّاقةُ كذا من نسلٍ أو مواصلة بين عِدة من إناث، وإذا فعل الفحل كذا وكذا، حَرم ظهره... فقوله: {وأنعام حرمت ظهورها} معطوف على: {أنعام وحرث حجر} فهو كخبر عن اسم الإشارة. وعُلم أنَّه عطف صنف لوروده بعد استيفاء الأوصاف الّتي أجريت على خبر اسم الإشارة والمعطوف عليه عقبه. والتّقدير: وقالوا هذه أنعام وحرث حجر وهذه أنعام حرّمت ظهورها وبُني فعل: {حرمت} للمجهول: لظهور الفاعل، أي حرّم الله ظهورها بقرينة قوله: {افتراء عليه}.

والصّنف الثّالث: أنعام لا يذكرون اسم الله عليها، أي لا يذكرون اسم الله عند نحرها أو ذبحها، يزعمون أنّ ما أهدي للجنّ أو للأصنام يُذكر عليه اسم مَا قُرّب له، ويزعمون أنّ الله أمر بذلك لتكون خالصَة القربان لما عُيّنت له، فلأجل هذا الزعم قال تعالى: {افتراء عليه} إذ لا يعقل أن ينسب إلى الله تحريمُ ذِكر اسمه على ما يقرّب لغيره لولا أنَّهم يزعمون أنّ ذلك من القربان الّذي يُرضي الله تعالى، لأنَّه لشركائه...

وعن جماعة من المفسّرين، منهم أبو وائل 7، الأنعام التي لا يذكرون اسم الله عليها كانت لهم سنّة في بعض الأنعام أن لا يُحجّ عليها، فكانت تُركب في كلّ وجه إلاّ الحجّ، وأنَّها المراد بقوله: {وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها} لأنّ الحجّ لا يخلو من ذكر الله حين الكون على الرّاحلة من تلبية وتكبير، فيكون: {لا يذكرون اسم الله عليها} كناية عن منع الحجّ عليها، والظاهر أنّ هذه هي الحامي والبحيرة والسّائبة، لأنَّهم لمّا جعلوا نفعها للأصنام لم يجيزوا أن تستعمل في غير خدمة الأصنام...

والافتراء: الكذب الّذي لا شبهة لقائله فيه، وتقدّم عند قوله تعالى: {فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون} في سورة آل عمران (94)، وعند قوله: ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب في سورة العقود (103). وإنَّما كان قولهم افتراء: لأنَّهم استندوا فيه لشيء ليس وارداً لهم من جانب الله، بل هو من ضلال كبرائهم.

وجملة: {سيجزيهم بما كانوا يفترون} استئناف بياني، لأنّ الافتراء على الخالق أمر شنيع عند جميع الخلق، فالإخبار به يثير سؤال من يسأل عمّا سيلقونه من جزاء افترائهم، فأجيب بأنّ الله سيجزيهم بما كانوا يفترون. وقد أبهم الجزاء للتهويل لتذهب النّفوس كلّ مذهب ممكن في أنواع الجزاء على الإثم.

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

نعم، إِذا أراد الإِنسان بفكره الناقص القاصر أن يضع القوانين والأحكام، فلا شك أنّ كل طائفة سوف تضع من القوانين ما ينسجم وأهواءهم ومطامعهم، فيحرمون على أنفسهم أنعم الله دون سبب، أو يحللون على أنفسهم أفعالهم القبيحة، وهذا هو سبب قولنا إِنّ الله وحده هو الذي يسنّ القوانين لأنّه يعلم كل شيء ويعرف دقائق الأُمور، وهو سبحانه بمعزل عن الأهواء...