وفي مقابل المتاع القليل الذاهب جنات . وخلود . وتكريم من الله :
( جنات تجري من تحتها الأنهار ) . . ( خالدين فيها ) . . ( نزلا من عند الله ) . . ( وما عند الله خير للأبرار ) . .
وما يشك أحد يضع ذلك النصيب في كفة ، وهذا النصيب في كفة ، أن ما عند الله خير للأبرار . وما تبقى في القلب شبهة في أن كفة الذين اتقوا أرجح من كفة الذين كفروا في هذا الميزان . وما يتردد ذو عقل في اختيار النصيب الذي يختاره لأنفسهم أولو الألباب !
إن الله - سبحانه - في موضع التربية ، وفي مجال إقرار القيم الأساسية في التصور الإسلامي لا يعد المؤمنين هنا بالنصر ، ولا يعدهم بقهر الأعداء ، ولا يعدهم بالتمكين في الأرض ، ولا يعدهم شيئا من الأشياء في هذه الحياة . . مما يعدهم به في مواضع أخرى ، ومما يكتبه على نفسه لأوليائه في صراعهم مع أعدائه .
إنه يعدهم هنا شيئا واحدا . هو ( ما عند الله ) . فهذا هو الأصل في هذه الدعوة . وهذه هي نقطة الانطلاق في هذه العقيدة : التجرد المطلق من كل هدف ومن كل غاية ، ومن كل مطمع - حتى رغبة المؤمن في غلبة عقيدته وانتصار كلمة الله وقهر أعداء الله - حتى هذه الرغبة يريد الله أن يتجرد منها المؤمنون ، ويكلوا أمرها إليه ، وتتخلص قلوبهم من أن تكون هذه شهوة لها ولو كانت لا تخصها !
هذه العقيدة : عطاء ووفاء وأداء . . فقط . وبلا مقابل من أعراض هذه الأرض ، وبلا مقابل كذلك من نصر وغلبة وتمكين واستعلاء . . ثم انتظار كل شيء هناك !
ثم يقع النصر ، ويقع التمكين ، ويقع الاستعلاء . . ولكن هذا ليس داخلا في البيعة . ليس جزءا من الصفقة . ليس في الصفقة مقابل في هذه الدنيا . وليس فيها إلا الأداء والوفاء والعطاء . . والابتلاء . .
على هذا كانت البيعة والدعوة مطاردة في مكة ؛ وعلى هذا كان البيع والشراء . ولم يمنح الله المسلمين النصر والتمكين والاستعلاء ؛ ولم يسلمهم مقاليد الأرض وقيادة البشرية ، إلا حين تجردوا هذا التجرد ، ووفوا هذا الوفاء :
قال محمد بن كعب القرظي وغيره : قال عبد الله بن رواحة - رضي الله عنه - لرسول الله [ ص ] يعني ليلة العقبة [ ونقباء الأوس والخزرج يبايعونه [ ص ] على الهجرة إليهم ] : اشترط لربك ولنفسك ما شئت . فقال : " أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا . وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم " . قال : فما لنا إذا فعلنا ذلك ؟ قال : " الجنة " . . قالوا : ربح البيع . ولا نقيل ولا نستقيل . . هكذا . . " الجنة " . . والجنة فقط ! لم يقل . . النصر والعز والوحدة . والقوة . والتمكين . والقيادة . والمال . والرخاء - مما منحهم الله وأجراه على أيديهم - فذلك كله خارج عن الصفقة !
وهكذا . . ربح البيع ولا نقيل ولا نستقيل . . لقد أخذوها صفقة بين متبايعين ؛ أنهي أمرها ، وأمضي عقدها . ولم تعد هناك مساومة حولها !
وهكذا ربى الله الجماعة التي قدر أن يضع في يدها مقاليد الأرض ، وزمام القيادة ، وسلمها الأمانة الكبرى بعد أن تجردت من كل أطماعها ، وكل رغباتها ، وكل شهواتها ، حتى ما يختص منها بالدعوة التي تحملها ، والمنهج الذي تحققه ، والعقيدة التي تموت من أجلها . فما يصلح لحمل هذه الأمانة الكبرى من بقي له أرب لنفسه في نفسه ، أو بقيت فيه بقية لم تدخل في السلم كافة .
وقرأ أبو جعفر بن القعقاع : : «لكنّ الذين » ، بشد النون ، وعلى أن { الذين } في موضع نصب اسماً ل «لكنّ » ، و { نزلاً } : معناه تكرمة ، ونصبه على المصدر المؤكد ، وقرأ الحسن : «نزْلاً » ساكنة الزاي ، وقوله تعالى : { وما عند الله خير للأبرار } يحتمل أن يريد : خير مما هؤلاء فيه من التقلب والتنعم ، ويحتمل أن يريد : خير مما هم فيه في الدنيا ، وإلى هذا ذهب ابن مسعود فإنه قال : ما من مؤمن ولا كافر إلا والموت خير له ، أما الكافر فلئلا يزداد إثماً ، وأما المؤمن فلأن ما عند الله خير للأبرار{[3811]} .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر »{[3812]} ، فقال القاضي ابن الطيب : هذا هو بالإضافة إلى ما يصير إليه كل واحد منهما في الآخرة ، فالدنيا على المؤمن المنعم سجن بالإضافة إلى الجنة ، والدنيا للكافر الفقير المضيق عليه في حاله و صحته جنة بالإضافة إلى جهنم ، وقيل : المعنى أنها سجن المؤمن لأنها موضع تعبه في الطاعات وصومه وقيامه ، فهو فيها كالمعنت المنكل ، وينتظر الثواب في الأخرى التي هي جنته ، والدنيا جنة الكافر ، لأنها موضع ثوابه على ما عسى أن يعمل من خير ، وليس ينتظر في الآخرة ثواباً ، فهذه جنته ، وهذا القول عندي كالتفسير والشرح للأول .
جملة { لكن الذين اتقوا ربهم } إلى آخرها افتتحت بحرف الاستدراك لأنّ مضمونها ضدّ الكلام الذي قبلها لأنّ معنى { لا يغرنّك } إلخ وصف ما هم فيه بأنّه متاع قليل ، أي غير دائم ، وأنّ المؤمنين المتّقين لهم منافع دائمة .
وقرأ الجمهور : لكنْ بتخفيف النون ساكنة مخفَّفة من الثقيلة وهي مهملة ، وقرأه أبو جعفر بتشديد النون مفتوحة وهي عاملة عمل إنَّ .
والنُزُل بضم النون والزاي وبضمّها مع سكون الزاي ما يعدّ للنزيل والضيف من الكرامة والقِرى ، قال تعالى : { ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدّعون نزلاً من غفور رحيم } [ فصلت : 31 ، 32 ] .
و ( الأبرار ) جمع البَرّ وهو الموصوف بالمبرّة والبِرّ ، وهو حسن العَمل ضدّ الفجور .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.