في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَنَا قَالَ يَٰلَيۡتَ بَيۡنِي وَبَيۡنَكَ بُعۡدَ ٱلۡمَشۡرِقَيۡنِ فَبِئۡسَ ٱلۡقَرِينُ} (38)

26

ثم تفاجئهم النهاية وهم سادرون :

( حتى إذا جاءنا قال : يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين . فبئس القرين ) !

وهكذا ننتقل في ومضة من هذه الدنيا إلى الآخرة . ويطوى شريط الحياة السادرة ، ويصل العمي ( الذين يعشون عن ذكر الرحمن )إلى نهاية المطاف فجأة على غير انتظار . هنا يفيقون كما يفيق المخمور ، ويفتحون أعينهم بعد العشى والكلال ؛ وينظر الواحد منهم إلى قرين السوء الذي زين له الضلال ، وأوهمه أنه الهدى !

وقاده في طريق الهلاك ، وهو يلوح له بالسلامة ! ينظر إليه في حنق يقول : ( يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين ) ! يا ليته لم يكن بيننا لقاء . على هذا البعد السحيق !

ويعقب القرآن على حكاية قول القرين الهالك للقرين بقوله : ( فبئس القرين ) !

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَنَا قَالَ يَٰلَيۡتَ بَيۡنِي وَبَيۡنَكَ بُعۡدَ ٱلۡمَشۡرِقَيۡنِ فَبِئۡسَ ٱلۡقَرِينُ} (38)

وقرأ نافع وابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر ، وابن عامر وأبو جعفر وشيبة وقتادة والزهري والجحدري : «حتى إذا جاءانا » على التثنية ، يريد العاشي والقرين ، قاله سعيد الجريري وقتادة . وقرأ أبو عمرو والحسن وابن محيصن والأعرج وعيسى والأعمش وعاصم{[10209]} وحمزة والكسائي : «جاءنا » يريد العاشي وحده . وفاعل : { قال } هو العاشي .

وقوله : { بعد المشرقين } يحتمل ثلاثة معان ، أحدهما : أن يريد بعد المشرق من المغرب ، فسماهما مشرقين ، كما يقال : القمران والعمران ، قال الفرزدق :

لما قمراها والنجوم الطوالع{[10210]} . . . والثاني : أن يريد مشرق الشمس في أطول يوم ، ومشرقها في أقصر يوم ، فكأنه أخذ نهايتي المشارق . والثالث : أن يريد { بعد المشرقين } من المغربين ، فاكتفى بذكر { المشرقين } .


[10209]:أي: في رواية حفص عنه.
[10210]:هذا عجز بيت قاله الفرزدق من قصيدة له في الفخر بآبائه، والبيت بتمامه: أخذنا بآفاق السماء عليكم لنا قمراها والنجوم الطوالع ويريد بالقمرين الشمس والقمر، ثناهما تغليبا، وهذا هو موضع الشاهد هنا، والآفاق: جمع أفق وهو الناحية، وقد استشهد الفراء بهذا البيت في (معاني القرآن)، والتغليب أن يُجمع بين الاسمين على تسمية أشهرهما، وقد كثر ذلك في العربية، فمنه ما ذكر هنا وهو القَمَران للشمس والقمر، ومنه العمران لأبي بكر وعمر، والبصرتان للبصرة والكوفة، والعصران للغداة والعصر، قال الفراء: وأنشدني رجل من طيئ: فبصرة الأزد منا والعراق لنا والموصلان، ومنا مصر فالحرم يريد: الجزيرة والموصل.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَنَا قَالَ يَٰلَيۡتَ بَيۡنِي وَبَيۡنَكَ بُعۡدَ ٱلۡمَشۡرِقَيۡنِ فَبِئۡسَ ٱلۡقَرِينُ} (38)

{ حتّى } ابتدائية ، وهي تفيد التسبب الذي هو غاية مجازية . فاستعمال { حتّى } فيه استعارة تبعية . وليست في الآية دلالة على دوام الصد عن السبيل وحسبان الآخرين الاهتداء إلى فناء القرينين ، إذ قد يؤمن الكافر فينقطع الصدّ والحُسبان فلا تغْتَّر بتوهم من يزعمون أن الغاية الحقيقية لا تفارق { حتّى } في جميع استعمالاتها .

وقرأ نافع وابن كثير وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر { جاءانا } بألف ضمير المثنى عائداً على من يعش عن ذكر الرحمان وقرينِه ، أي شيطانه ، وأفرد ضمير { قال } لرجوعه إلى من يعش عن ذكر الرحمان خاصة ، أي قال الكافر متندماً على ما فرط من اتّباعه إياه وائتِمارِهِ بأمره . وقرأ الجمهور { جاءنا } بصيغة المفرد والضمير المستتر في { قال } عائد إلى { من يعش عن ذكر الرحمن } [ الزخرف : 36 ] ، أي قال أحدهما وهو الذي يعشو . والمعنى على القراءتين واحد لأن قراءة التثنية صريحة في مجيء الشيطان مع قرينه الكافر وأن المتندم هو الكافر ، والقراءة بالإفراد متضمنة مجيء الشيطان من قوله : { يا ليت بيني وبينك بُعْدَ المشرقين } إذ عُلم أن شيطانه القرينَ حاضر من خطاب الآخر إياه بقوله : { وبَيْنَك } . وحرف { يا } أصله للنداء ، ويستعمل للتلهف كثيراً كما في قوله { يا حسرة } [ يس : 30 ] وهو هنا للتلهف والتندم .

والمشرقان : المشرق والمغرب ، غلب اسم المشرق لأنه أكثر خطوراً بالأذهان لتشوف النفوس إلى إشراق الشمس بعد الإظلام .

والمراد بالمشرق والمغرب : إما مكان شروق الشمس وغروبها في الأفق ، وإما الجهة من الأرض التي تبدو الشمسُ منها عند شروقها وتغيب منها عند غروبها فيما يلوح لطائفة من سكان الأرض . وعلى الاحتمالين فهو مَثَل لشدة البعد . وأضيف { بعد } إلى { المشرقين } بالتثنية بتقدير : بعد لهما ، أي مختص بهما بتأويل البعد بالتباعد وهو إيجاز بديع حَصل من صيغة التغليب ومن الإضافة . ومُسَاواته أن يقال بُعْد المَشْرق من المغرب والمغربِ من المشرق فنابت كلمة { المشرقين } عن ست كلمات .

وقوله { فبئس القرين } ، بَعْدَ أن تمنى مفارقته فرّع عليه ذمّاً فالكافر يذم شيطانه الذي كان قريناً ، ويُعرِّض بذلك للتفصّي من المؤَاخذة ، وإلقاءِ التبعة على الشيطان الذي أضَلّه .

والمقصود من حكاية هذا تفظيع عواقب هذه المقارنة التي كانت شغفَ المتقارنَيْن ، وكذلك شأن كل مقارنة على عمل سّيىء العاقبة . وهذا من قبل قوله تعالى : { الأخلاء يومئذٍ بعضُهم لبعض عدوٌ إلا المتقين } [ الزخرف : 67 ] . والمقصود تحذير النّاس من قرين السوء وذم الشياطين ليعافهم النّاس كقوله : { إن الشيطان لكم عدوٌّ فاتخذوه عدوّاً } [ فاطر : 6 ] .