في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَسۡـَٔلۡ مَنۡ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلۡنَا مِن دُونِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ءَالِهَةٗ يُعۡبَدُونَ} (45)

26

( واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا : أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون ? ) . .

والتوحيد هو أساس دين الله الواحد منذ أقدم رسول . فعلام يرتكن هؤلاء الذين يجعلون من دون الرحمن آلهة يعبدون ?

والقرآن يقرر هذه الحقيقة هنا في هذه الصورة الفريدة . . صورة الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] يسأل الرسل قبله عن هذه القضية : ( أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون ? )وحول هذا السؤال ظلال الجواب القاطع من كل رسول . وهي صورة طريفة حقاً . وهو أسلوب موح شديد التأثير في القلوب .

وهناك أبعاد الزمان والمكان بين الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] والرسل قبله . وهناك أبعاد الموت والحياة وهي أكبر من أبعاد الزمان والمكان . . ولكن هذه الأبعاد كلها تتلاشى هنا أمام الحقيقة الثابتة المطردة . حقيقة وحدة الرسالة المرتكزة كلها على التوحيد . وهي كفيلة ان تبرز وتثبت حيث يتلاشى الزمان والمكان والموت والحياة وسائر الظواهر المتغيرة ؛ ويتلاقى عليها الأحياء والأموات على مدار الزمان متفاهمين متعارفين . . وهذه هي ظلال التعبير القرآني اللطيف العجيب . .

على أنه بالقياس إلى النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وإخوانه من الرسل مع ربهم لا يبقى شيء بعيد وآخر قريب . فهناك دائماً تلك اللحظة اللدنية التي تزال فيها الحواجز وترتفع فيها السدود ، وتتجلى الحقيقة الكلية عارية من كل ستار . حقيقة النفس وحقيقة الوجود كله وأهل هذا الوجود . تتجلى وحدة متصلة ، وقد سقط عنها حاجز الزمان وحاجز المكان وحاجز الشكل والصورة . وهنا يسأل الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] ويجاب ، بلا حاجز ولا حجاب . كما وقع في ليلة الإسراء والمعراج .

وإنه ليحسن في مثل هذه المواطن ألا نعتد كثيراً بالمألوف في حياتنا . فهذا المألوف ليس هو القانون الكلي . ونحن لا ندرك من هذا الوجود إلا بعض ظواهره وبعض آثاره ، حين نهتدي إلى طرف من قانونه . وهناك حجب من تكويننا ذاته ومن حواسنا وما نرتبه عليها من مألوفات . فأما اللحظة التي تتجرد فيها النفس من هذه العوائق والحجب فيكون لقاء الحقيقة المجردة للإنسان بالحقيقة المجردة لأي شيء آخر أمراً أيسر من لمس الأجسام للأجسام !

وفي سياق تسلية الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] عما يعترض به المعترضون من كبراء قومه على اختياره ؛ واعتزازهم بالقيم الباطلة لعرض هذه الحياة الدنيا . تجيء حلقة من قصة موسى - عليه السلام - مع فرعون وملئه ، يذكر فيها اعتزاز فرعون بمثل ما يعتز به من يقولون : ( لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ) ! وتباهيه بما له من ملك ومن سلطان ، وتساؤله في فخر وخيلاء : ( أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي ? أفلا تبصرون ? ) . . وانتفاخه على موسى - عبدالله ورسوله - وهو مجرد من الجاه الأرضي والعرض الدنيوي : ( أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين ? ) . . واقتراحه الذي يشبه ما يقترحون : ( فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين ) . .

وكأنما هي نسخة تكرر ، أو اسطوانة تعاد !

ثم يبين كيف استجابت لفرعون الجماهير المستخفة المخدوعة ؛ على الرغم من الخوارق التي عرضها عليهم موسى - عليه السلام - وعلى الرغم مما أصابهم من ابتلاءات ، واستغاثتهم بموسى ليدعو ربه فيكشف عنهم البلاء .

ثم كيف كانت العاقبة بعدما ألزمهم الله الحجة بالتبليغ : ( فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين ، فجعلناهم سلفاً ومثلاً للآخرين ) . .

وها هم أولاء الآخرون لا يعتبرون ولا يتذكرون !

ومن خلال هذه الحلقة تتجلى وحدة الرسالة ، ووحدة المنهج ، ووحدة الطريق . كما تتبدى طبيعة الكبراء والطغاة في استقبال دعوة الحق ، واعتزازهم بالتافه الزهيد من عرض هذه الأرض ؛ وطبيعة الجماهير التي يستخفها الكبراء والطغاة على مدار القرون !

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَسۡـَٔلۡ مَنۡ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلۡنَا مِن دُونِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ءَالِهَةٗ يُعۡبَدُونَ} (45)

واختلف المفسرون في المراد بالسؤال في قوله : { وسئل من أرسلنا } فقالت فرقة ، أراد : أن اسأل جبريل ، ذكر ذلك النقاش ، وفيه بعد . وقال ابن زيد وابن جبير والزهري ، أراد : واسأل الرسل إذا لقيتهم ليلة الإسراء ، أما أن النبي عليه السلام لم يسأل الرسل ليلة الإسراء عن هذا ، لأنه كان أثبت يقيناً من ذلك ولم يكن في شك . وقالت فرقة ، أراد : واسألني ، أو واسألنا عمن أرسلنا ، والأولى على هذا التأويل أن يكون : { من أرسلنا } استفهاماً أمره أن يسأل له ، كأن سؤاله : يا رب من أرسلت قبلي من رسلك ؟ أجعلت في رسالته الأمر بآلهة يعبدون ؟ ثم ساق السؤال محكي المعنى ، فرد المخاطبة إلى محمد عليه السلام في قوله : { من قبلك } . وقال ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة والسدي وعطاء ، أراد : وسل تباع من أرسلنا وحملة شرائعهم ، لأن المفهوم أنه لا سبيل إلى سؤاله الرسل إلا بالنظر في آثارهم وكتبهم وسؤال من حفظها .

وفي قراءة ابن مسعود وأبي بن كعب : «وسئل الذين أرسلنا إليهم رسلنا » ، فهذه القراءة تؤيد هذا المعنى ، وكذلك قوله : { وسئل القرية }{[10217]} مفهوم إنه لا يسأل إلا أهلها ، ومما ينظر إلى هذا المعنى قوله تعالى : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول }{[10218]} فمفهوم أن الرد إنما هو إلى كتاب الله وسنة رسوله ، وأن المحاور في ذلك إنما هم تباعهم وحفظة الشرع .

وقوله : { يعبدون } أخرج ضميرهم على حد من يعقل مراعاة للفظ الآلهة .


[10217]:من الآية(82) من سورة(يوسف).
[10218]:من الآية(59) من سورة (النساء).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَسۡـَٔلۡ مَنۡ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلۡنَا مِن دُونِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ءَالِهَةٗ يُعۡبَدُونَ} (45)

الأمر بالسؤال هنا تمثيل لشهرة الخبر وتحققه كما في قول السمؤال أو الحارثي :

سَلي إن جَهِلتِ الناسَ عنا وعنهم

وقولِ زيد الخيل :

سائِلْ فوارِسَ يَرْبوع بِشدَّتِنا

وقوله : { فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك } [ يونس : 94 ] إذ لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم في شكّ حتى يَسأل ، وإلا فإن سؤاله الرّسل الذين من قبله متعذر على الحقيقة . والمعنى استقْرِ شرائع الرّسل وكتبهم وأخبارهم هل تجد فيها عبادة آلهة . وفي الحديث « واستفتتِ قلبك » أي تثبت في معرفة الحلال والحرام .

وجملة { أجعلنا } بدل من جملة { واسأل } ، والهمزة للاستفهام وهو إنكاري وهو المقصود من الخبر ، وهو ردّ على المشركين في قولهم : { إنا وجدنا آباءنا على أمةٍ وإنا على آثارهم مهتدون } [ الزخرف : 22 ] أي ليس آباؤكم بأهدى من الرّسل الأولين إن كنتم تزعمون تكذيب رسولنا لأنه أمركم بإفراد الله بالعبادة . ويجوز أن يجعل السؤال عن شهرة الخبر . ومعنى الكلام : وإنا ما أمرنا بعبادة آلهة دوننا على لسان أحد من رسلنا . وهذا ردّ لقول المشركين { لو شاء الرحمان ما عبدناهم } [ الزخرف : 20 ] .

و { مِنْ } في قوله : { من قبلك } لتأكيد اتصال الظرف بعامله . و { مِن } في قوله : { من رسلنا } بيان ل { قبلك } .

فمعنى { أجعلنا } ما جعلنا ذلك ، أي جعل التشريع والأمر ، أي ما أمرنا بأن تعبد آلهة دوننا . فوصف آلهة ب { يعبدون } لنفي أن يكون الله يرضى بعبادة غيره فضلاً عن أن يكون غيره إلها مثله وذلك أن المشركين كانوا يعبدون الأصنام وكانوا في عقائدهم أشتاتاً فمنهم من يجعل الأصنام آلهة شركاء لله ، ومنهم من يزعم أنه يعبدهم ليقربوه من الله زُلْفى ، ومنهم من يزعمهم شفعاء لهم عند الله . فلما نفي بهذه الآية أن يكون جَعل آلهة يُعبدون أبطل جميع هذه التمَحُّلات .

وأجري { آلهة } مجرى العقلاء فوصفوا بصيغة جمع العقلاء بقوله : { يعبدون } . ومثله كثير في القرآن جرياً على ما غلب في لسان العرب إذ اعتقدوهم عقلاء عالمين . وقرأ ابن كثير والكسائي { وسَلْ } بتخفيف الهمزة .