( يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ) . .
وقد رأينا كيف حقق ذلك عيد الله بن عيد الله بن أبي ! وكيف لم يدخلها الأذل إلا بإذن الأعز !
( ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين . ولكن المنافقين لا يعلمون ) . .
ويضم الله - سبحانه - رسوله والمؤمنين إلى جانبه ، ويضفي عليهم من عزته ، وهو تكريم هائل لا يكرمه إلا الله ! وأي تكريم بعد أن يوقف الله - سبحانه - رسوله والمؤمنين معه إلى جواره . ويقول : ها نحن أولاء ! هذا لواء الأعزاء . وهذا هو الصف العزيز !
وصدق الله . فجعل العزة صنو الإيمان في القلب المؤمن . العزة المستمدة من عزته تعالى . العزة التي لا تهون ولا تهن ، ولا تنحني ولا تلين . ولا تزايل القلب المؤمن في أحرج اللحظات إلا أن يتضعضع فيه الإيمان . فإذا استقر الإيمان ورسخ فالعزة معه مستقرة راسخة . .
( ولكن المنافقين لا يعلمون ) . .
وكيف يعلمون وهم لا يتذوقون هذه العزة ولا يتصلون بمصدرها الأصيل ?
وقرأ الجمهور : «ليُخرِجن الأعز » بضم الياء وكسر الراء بمعنى أن العزيز يخرج الذليل ويبعده ، وقال أبو حاتم : وقرئ «لنَخرُجن » بنون الجماعة مفتوحة ، وضم الراء ، «الأعزَّ » نصباً منها ، «الأذلَّ » أيضاً نصباً على الحال ، وذكرها أبو عمر الداني عن الحسن{[11124]} ، ورويت هذه القراءة : «لنُخرِجن » بضم النون وكسر الراء ، وقرأ قوم فيما حكى الفراء والكسائي ، وذكرها المهدوي : «ليَخرُجن الأعز منها الأذلَّ » بفتح الياء وضم الراء . ونصب «الأذلَّ » على الحال بمعنى : أن نحن الذين كنا أعزة سنخرج أذلاء{[11125]} ، وجاءت هذه الحال معرفة ، وفيها شذوذ ، وحكى سيبويه : أدخلوا الأول فالأول ، ثم أعلم تعالى أن العزة لله وللرسول وللمؤمنين ، وفي ذلك وعيد ، وروي أن عبد الله بن عبد الله بن أبي ، وكان رجلاً صالحاً لما سمع الآية ، جاء إلى أبيه فقال له : أنت والله يا أبت الذليل ، ورسول الله العزيز ، فلما وصل الناس إلى المدينة ، وقف عبد الله بن عبد الله على باب السكة التي يسلكها أبوه ، وجرد السيف ومنعه الدخول ، وقال : والله لا دخلت إلى منزلك إلا أن يأذن في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعبد الله بن أبي في أذل الرجال ، وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث إليه أن خلّه يمض إلى منزله ، فقال : أما الآن فنعم ، فمضى إلى منزله .
استئناف ثان على أسلوب التعداد والتكرير ولذلك لم يعطف . ومثله يكثر في مقام التوبيخ . وهذا وصف لخبث نواياهم إذْ أرادوا التهديد وإفسادَ إخلاص الأنصار وأخوّتهم مع المهاجرين بإلقاء هذا الخاطر في نفوس الأنصار بذراً للفتنة والتفرقة وانتهازاً لخصومة طفيفة حدثت بين شخصين من موالي الفريقين ، وهذا القول المحكي هنا صدر من عبد الله بن أُبيّ ابن سلول حين كسَع حليفُ المهاجرين حليفَ الأنصار كما تقدم في ذكر سبب نزول هذه السورة ، وعند قوله تعالى : { هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله } [ المنافقون : 7 ] فإسناد القول إلى ضمير المنافقين هنا كإسناده هناك .
وصيغة المضارع في حكاية هذه المقالة لاستحضار الحالة العجيبة كقوله تعالى : { يجادلنا في قوم لوط } [ هود : 74 ] . والمدينة هي مدينتهم المعهودة وهي يثرب .
و { الأعزّ } : القويّ العِزة وهو الذي لا يُقهر ولا يُغلب على تفاوت في مقدار العزّة إذ هي من الأمور النسبية . والعزة تحصل بوفرة العدد وسعة المال والعُدة ، وأراد ب { الأعز } فريق الأنصار فإنهم أهل المدينة وأهل الأموال وهم أكثر عدداً من المهاجرين فأراد لَيُخْرجن الأنصار من مدينتهم مَن جاءها من المهاجرين .
وقد أبطل الله كلامهم بقوله : { ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين } وهو جواب بالطريقة التي تسمي القول بالموجَب في علم الجدل وهي مما يسمّى بالتسليم الجَدلي في علم آداب البحث .
والمعنى : إن كان الأعزّ يخرج الأذلّ فإن المؤمنين هم الفريق الأعزّ . وعزتهم بكون الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم وبتأييد الله رسولَه صلى الله عليه وسلم وأولياءه لأن عزّة الله هي العزّة الحق المطلقة ، وعزّة غيره ناقصة ، فلا جرم أن أولياء الله هم الذين لا يُقهرون إذا أراد الله نصرهم ووعدهم به . فإن كان إخراجٌ من المدينة فإنما يُخرج منها أنتم يا أهل النفاق .
وتقديم المسند على المسند إليه في { ولله العزة } لقصد القصر وهو قصر قلب ، أي العزّة لله ولرسوله وللمؤمنين لا لكم كما تحسبون .
وإعادة اللام في قوله : { ولرسوله } مع أن حرف العطف مُغن عنها لتأكيد عزّة الرسول صلى الله عليه وسلم وأنها بسبب عزّة الله ووعده إياه ، وإعادة اللام أيضاً في قوله : { وللمؤمنين } للتأكيد أيضاً إذ قد تخفى عزتهم وأكثرهم في حال قلة وحاجة .
والقول في الاستدراك بقوله : { ولكن المنافقين لا يعلمون } نظير القول آنفاً في قوله : { ولكن المنافقين لا يفقهون } [ المنافقون : 7 ] .
وعدل عن الإِضمار في قوله : { ولكن المنافقين لا يعلمون } . وقد سبق اسمهم في نظيرها قبلها لتكون الجملة مستقلة الدلالة بذاتها فتسير سير المثل .
وإنما نفي عنهم هنا العلم تجهيلاً بسوء التأمل في أمارات الظهور والانحطاط فلم يفطنوا للإِقبال الذي في أحوال المسلمين وازدياد سلطانهم يوماً فيوماً وتناقص من أعدائهم فإن ذلك أمر مشاهد فكيف يظن المنافقون أن عزتهم أقوى من عزّة قبائل العرب الذين يَسقطون بأيدي المسلمين كلما غزوهم من يوم بدر فما بعده .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.