في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَٱمۡرَأَتُهُۥ قَآئِمَةٞ فَضَحِكَتۡ فَبَشَّرۡنَٰهَا بِإِسۡحَٰقَ وَمِن وَرَآءِ إِسۡحَٰقَ يَعۡقُوبَ} (71)

69

وإبراهيم يدرك ما وراء إرسال الملائكة إلى قوم لوط ! ولكن حدث في هذه اللحظة ما غير مجرى الحديث :

( وامرأته قائمة فضحكت ) . .

وربما كان ضحكها ابتهاجا بهلاك القوم الملوثين :

( فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ) . .

وكانت عقيما لم تلد وقد أصبحت عجوزا . ففاجأتها البشرى بإسحاق . وهي بشرى مضاعفة بأن سيكون لإسحاق عقب من بعده هو يعقوب . والمرأة - وبخاصة العقيم - يهتز كيانها كله لمثل هذه البشرى ، والمفاجأة بها تهزها وتربكها :

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَٱمۡرَأَتُهُۥ قَآئِمَةٞ فَضَحِكَتۡ فَبَشَّرۡنَٰهَا بِإِسۡحَٰقَ وَمِن وَرَآءِ إِسۡحَٰقَ يَعۡقُوبَ} (71)

ثم خرجت الآية إلى ذكر المرأة وبشارتها فقالت فرقة : معناه : { قائمة } خلف ستر تسمع محاورة إبراهيم مع أضيافه ، وقالت فرقة : معناه { قائمة } في صلاة ، وقال السد معناه { قائمة } تخدم القوم ، وفي قراءة ابن مسعود : «وهي قائمة وهو جالس » . وقوله { فضحكت } قال مجاهد : معناه : حاضت ، وأنشد على ذلك اللغويون :

وضحك الأرانب فوق الصفا*** كمثل دم الجوق يوم اللقاء{[6429]}

وهذا القول ضعيف قليل التمكن ، وقد أنكر بعض اللغويين أن يكون في كلام العرب ضحكت بمعنى : حاضت وقرره بعضهم ، ويقال ضحك إذا امتلأ وفاض : ورد الزجّاج قول مجاهد ، وقال الجمهور : هو الضحك المعروف ، واختلف مم ضحكت ؟ فقالت فرقة : ضحكت من تأمينهم لإبراهيم بقولهم : { لا تخف } . وقال قتادة : ضحكت هزؤاً من قوم لوط أن يكونوا على غفلة وقد نفذ من أمر الله تعالى فيهم ما نفذ .

وقال وهب بن منبه : ضحكت من البشارة بإسحاق ، وقال : هذا مقدم بمعنى التأخير ، وقال محمد بن قيس : ضحكت لظنها بهم أنهم يريدون عمل قوم لوط ؛ قال القاضي : وهذا قول خطأ لا ينبغي أن يلتفت إليه ، وقد حكاه الطبري ، وإنما ذكرته لمعنى التنبيه على فساده ، وقالت فرقة : ضحكت من فزع إبراهيم من ثلاثة وهي تعهده يغلب الأربعين من الرجال ، وقيل : المائة .

وقال السدي : ضحكت من أن تكون هي تخدم وإبراهيم يحفد ويسعى والأضياف لا يأكلون . وقيل : ضحكت سروراً بصدق ظنها ، لأنها كانت تقول لإبراهيم ، إنه لا بد أن ينزل العذاب بقوم لوط ، وروي أن الملائكة مسحت العجل فقام حياً فضحكت لذلك .

وقرأ محمد بن زياد الأعرابي : «فضحَكت » بفتح الحاء .

وامرأة إبراهيم هذه هي سارة بنت هارون بن ناحور ، وهو إبراهيم بن آزر بن ناحور فهي ابنة عمه ، وقيل : هي أخت لوط .

قال القاضي أبو محمد : وما أظن ذلك إلا أخوة القرابة لأن إبراهيم هو عم لوط فيما روي : وذكر الطبري أن إبراهيم لما قدم العجل قالوا له : إنَّا لا نأكل طعاماً إلا بثمن ، فقال لهم : ثمنه أن تذكروا الله تعالى عليه في أول ، وتحمدوه في آخر ، فقال جبريل لأصحابه : بحق اتخذ الله هذا خليلاً .

وقوله : { فبشرناها } أضاف فعل الملائكة إلى ضمير اسم الله تعالى إذ كان بأمره ووحيه ، وبشر الملائكة سارة { بإسحاق } وبأن إسحاق سيلد يعقوب ، ويسمى ولد الولد الولد من الوراء ، وهو قريب من معنى وراء في الظروف إذ هو ما يكون خلف الشيء وبعده ؛ ورأى ابن عباس رجلاً معه شاب ، فقال له : من هذا ؟ فقال له : ولد ولدي ، فقال : هو ولدك من الوراء ، فغضب الرجل ، فذكر له ابن عباس الآية .

وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو والكسائي «يعقوبُ » بالرفع على الابتداء والخبر المقدم ، وهو على هذا دخل في البشرى ، وقالت فرقة : رفعه على القطع بمعنى : ومن وراء إسحاق يحدث يعقوب ، وعلى هذا لا يدخل في البشارة وقرأ ابن عامر وحمزة «يعقوبَ » بالنصب واختلف عن عاصم ، فمنهم من جعله معطوفاً على { إسحاق } إلا أنه لم ينصرف ، واستسهل هذا القائل أن فرق بين حرف العطف والمعطوف بالمجرور ، وسيبويه لا يجيز هذا إلا على إعادة حرف الجر ، وهو كما تقول : مررت بزيد اليوم وأمس عمرو ، فالوجه عنده : وأمس بعمرو ، وإذا لم يعد ففيه كبير قبيح ، والوجه في نصبه أن ينتصب بفعل مضمر ، تدل عليه البشارة وتقديره : ومن وراء إسحاق وهبنا يعقوب ، هذا رجح أبو علي .

قال القاضي أبو محمد : وروي أن سارة كانت في وقت هذه البشارة بنت تسع وتسعين سنة ، وإبراهيم ابن مائة سنة .

وهذه الآية تدل على أن الذبيح هو إسماعيل وأنه أسن من إسحاق وذلك أن سارة كانت في وقت إخدام الملك الجائر هاجر أم إسماعيل امرأة شابة جميلة حسبما في الحديث ، فاتخذها إبراهيم عليه السلام أم ولد ، فغارت بها سارة ، فخرج بها وبابنها إسماعيل من الشام على البراق وجاء من يومه مكة فتركهما - حسبما في السير - وانصرف إلى الشام من يومه ثم كانت البشارة بإسحاق ، وسارة عجوز متجالة{[6430]} ، وأما وجه دلالة الآية على أن إسحاق ليس بالذبيح فهو أن سارة وإبراهيم بشرا بإسحاق وأنه يولد له يعقوب ، ثم أمر بالذبح حين بلغ ابنه معه السعي ، فكيف يؤمر بذبح ولد قد بشر قبل أنه سيولد لابنه ذلك ، وأيضاً فلم يقع قط في أثر أن إسحاق دخل الحجاز وإجماع أن أمر الذبح كان بمنى ، ويؤيد هذا الغرض قول رسول الله صلى الله عليه وسلم :

«أنا ابن الذبيحين »{[6431]} يريد أباه عبد الله وأباه إسماعيل ، ويؤيده ما نزع به مالك رحمه الله من الاحتجاج برتبة سورة الصافات فإنه بعد كمال أمر الذبيح قال : { وبشرناه بإسحاق نبيّاً من الصالحين }{[6432]} .

قال القاضي أبو محمد : وفي هذا كله موضع معارضات لقائل القول الآخر : إن الذبيح هو إسحاق ، ولكن هذا الذي ذكرناه هو الأرجح والله أعلم .


[6429]:- البيت في اللسان غير منسوب، وقد ذكره عن ابن سيدة شاهدا على أن [ضحكت] بمعنى حاضت، ونقل عن أبي عمرو قوله: "وسمعت أبا موسى الحامض يسأل أبا العباس عن قوله [فضحكت] أي حاضت، وقال إنه جاء في التفسير، فقال: ليس في كلام العرب، والتفسير مسلّم لأهل التفسير، فقال له: فأنت أنشدتنا: تضحك الضبع لقتلي هذيل وترى الذئب بها يستهل فقال أبو العباس: تضحك هنا: تكشر، وذلك أن الذئب ينازعها فتكشر في وجهه وعيدا فيتركها مع لحم القتيل". وقال ابن الأعرابي في هذا البيت وهو لتأبط شرا: "إن الضبع إذا أكلت لحوم الناس أو شربت دماءهم طمثت وقد أضحكها الدم". وكان ابن دريد يرد هذا ويقول: "من شاهد الضباع عند حيضها فيعلم أنها تحيض؟"، ومما استشهد به اللغويون على أن ضحكت بمعنى حاضت البيت المشهور: وإني لآتي العرس عند ظهورها وأهجرها يوما إذا تك ضاحكا.
[6430]:- أي: أسنّت وكبرت، وفي حديث أم صبية الجهنية: (كنا نكون في المسجد نسوة قد تجاللن)، وفي حديث جابر: (تزوجت امرأة قد تجالّت) أي: أسنت وكبرت.
[6431]:- لم نعثر على هذا الحديث في مصدر صحيح، وقد تكلم فيه كثير من العلماء، والذي روي عن الصنابحي أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (يابن الذبيحين، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وقال ابن كثير: هذا حديث غريب جدا، وقد رواه الأموي في مغازيه –(راجع تفسير ابن كثير 6-31).
[6432]:- من الآية (112) من سورة (الصافات).