في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٞ فَٱسۡتَمِعُواْ لَهُۥٓۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ تَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لَن يَخۡلُقُواْ ذُبَابٗا وَلَوِ ٱجۡتَمَعُواْ لَهُۥۖ وَإِن يَسۡلُبۡهُمُ ٱلذُّبَابُ شَيۡـٔٗا لَّا يَسۡتَنقِذُوهُ مِنۡهُۚ ضَعُفَ ٱلطَّالِبُ وَٱلۡمَطۡلُوبُ} (73)

58

ثم يعلن في الآفاق ، على الناس جميعا ، إعلانا مدويا عاما . . يعلن عن ضعف الآلهة المدعاة ؛ الآلهة كلها التي يتخذها الناس من دون الله . ومن بينها تلك الآلهة التي يستنصر بها أولئك الظالمون ، ويركن إليها أولئك الغاشمون . يعلن عن هذا الضعف في صورة مثل معروض للأسماع والأبصار ، مصور في مشهد شاخص متحرك ، تتملاه العيون والقلوب . . مشهد يرسم الضعف المزري ويمثله أبرع تمثيل :

( يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له : إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له ، وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ) . .

إنه النداء العام ، والنفير البعيد الصدى : ( يا أيها الناس ) . . فإذا تجمع الناس على النداء أعلنوا أنهم أمام مثل عام يضرب ، لا حالة خاصة ولا مناسبة حاضرة : ( ضرب مثل فاستمعوا له ) . . هذا المثل يضع قاعدة ، ويقرر حقيقة . ( إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له ) . . كل من تدعون من دون الله من آلهة مدعاة . من أصنام وأوثان ، ومن أشخاص وقيم وأوضاع ، تستنصرون بها من دون الله ، وتستعينون بقوتها وتطلبون منها النصر والجاه . . كلهم ( لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له ) . . والذباب صغير حقير ؛ ولكن هؤلاء الذين يدعونهم آلهة لا يقدرون - ولو اجتمعوا وتساندوا - على خلق هذا الذباب الصغير الحقير !

وخلق الذباب مستحيل كخلق الجمل والفيل . لأن الذباب يحتوي على ذلك السر المعجز سر الحياة . فيستوي في استحالة خلقه مع الجمل والفيل . . ولكن الأسلوب القرآني المعجز يختار الذباب الصغير الحقير لأن العجز عن خلقه يلقي في الحس ظل الضعف أكثر مما يلقيه العجز عن خلق الجمل والفيل ! دون أن يخل هذا بالحقيقة في التعبير . وهذا من بدائع الأسلوب القرآني العجيب !

ثم يخطو خطوة أوسع في إبراز الضعف المزري : ( وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ) . . والآلهة المدعاة لا تملك استنقاذ شيء من الذباب حين يسلبها إياه ، سواء كانت أصناما أو أوثانا أو أشخاصا ! وكم من عزيز يسلبه الذباب من الناس فلا يملكون رده . وقد اختير الذباب بالذات وهو ضعيف حقير . وهوفي الوقت ذاته يحمل أخطر الأمراض ويسلب أغلى النفائس : يسلب العيون والجوارح ، وقد يسلب الحياة والأرواح . . إنه يحمل ميكروب السل والتيفود والدوسنتاريا والرمد . . ويسلب ما لا سبيل إلى استنقاذه وهو الضعيف الحقير !

وهذه حقيقة أخرى كذلك يستخدمها الأسلوب القرآني المعجز . . ولو قال : وإن تسلبهم السباع شيئا لا يستنقذوه منها . . لأوحى ذلك بالقوة بدل الضعف . والسباع لا تسلب شيئا أعظم مما يسلبه الذباب ! ولكنه الأسلوب القرآني العجيب !

ويختم ذلك المثل المصور الموحي بهذا التعقيب : ( ضعف الطالب والمطلوب ) . ليقرر ما ألقاه المثل من ظلال ، وما أوحى به إلى المشاعر والقلوب !

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٞ فَٱسۡتَمِعُواْ لَهُۥٓۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ تَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لَن يَخۡلُقُواْ ذُبَابٗا وَلَوِ ٱجۡتَمَعُواْ لَهُۥۖ وَإِن يَسۡلُبۡهُمُ ٱلذُّبَابُ شَيۡـٔٗا لَّا يَسۡتَنقِذُوهُ مِنۡهُۚ ضَعُفَ ٱلطَّالِبُ وَٱلۡمَطۡلُوبُ} (73)

الخطاب بقوله { يا أيها الناس } قيل هو خطاب يعم العالم ، وقيل هو خطاب للمؤمنين حينئذ الذين أراد الله تعالى أن يبين عندهم خطأ الكافرين ولا شك أن المخاطب هم ولكنه خطاب يعم جميع الناس .

متى نظره أحد في عبادة الأوثان توجه له الخطاب واختلف المتأولون في فاعل ، { ضرب } ، من هو فقالت فرقة : المعنى { ضرب } أهل الكفر مثلاً لله أصنامهم وأوثانهم{[8434]} فاستمعوا أنتم أيها الناس لأمر هذه الآلهة ، وقالت فرقة : { ضرب } الله مثلاً لهذه الأصنام وهو كذا وكذا ، فالمثال والمثل في القول الأول هي الأصنام والذي جعل له المثال الله تعالى ، والمثال في التأويل الثاني هو في الذباب وأمره والذي جعل له هي الأصنام ، ومعنى { ضرب } أثبت وألزم وهذا كقوله { ضربت عليهم الذلة }{[8435]} [ آل عمران : 112 ] ، وكقولك ضربت الجزية ، وضرب البعث ، ويحتمل أن يكون «ضرب المثل » من الضريب الذي هو المثل ومن قولك هذا ضرب هذا فكأنه قال مثل مثل ، وقرأت فرقة «يدعون » بالياء من تحت والضمير للكفار ، وقرأت فرقة «يُدعون » بضم بالياء وفتح والعين{[8436]} على ما لم يسم فاعله والضمير للأصنام ، وبدأ تعالى ينفي الخلق والاختراع عنهم من حيث هي صفة ثابتة له مختصة به ، فكأنه قال ليس لهم صفتي ثم ثنى بالأمر الذي بلغ بهم غاية التعجيز ، وذكر تعالى أمر سلب الذباب لأنه كان كثيراً محسوساً عند العرب ، وذلك أنهم كانوا يضمخون أوثانهم بأنواع الطيب فكان الذباب يذهب بذلك{[8437]} وكانوا متألمين من هذه الجهة فجعلت مثلاً ، و «الذباب » جمعه أذبة في القليل وذبان في الكثير كغراب وأغربة وغربان ولا يقال ذبابات إلا في الديون لا في الحيوان{[8438]} ، واختلف المتأولون في قوله تعالى ، { ضعف الطالب والمطلوب } ، فقالت فرقة أراد ب { الطالب } الأصنام وب { المطلوب } الذباب ، أي أنهم ينبغي أن يكونوا طالبين لما يسلب من طيبهم على معهود الأنفة من الحيوان ، وقالت فرقة معناه ضعف الكفار في طلبهم الصواب والفضيلة من جهة الأصنام ، وضعف الأصنام في إعطاء ذلك وإنالته ع ويحتمل أن يريد { ضعف الطالب } وهو الذباب في استلابه ما على الأصنام وضعف الأصنام في أن لا منفعة لهم وعلى كل قول ، فدل ضعف الذباب الذي هو محسوس مجمع عليه وضعف الأصنام عن هذا المجمع على ضعفه على أن الأصنام في أحط رتبة وأخس منزلة .


[8434]:يعني أن الكفار جعلوا لله مثلا حين عبدوا غيره، فكأنه قال: جعلوا لي شبيها في عبادتي، فاستمعوا خبر هذا الشبه، وليس ثم مثل، وهذا هو قول الأخفش.
[8435]:من الآية (61) من سورة (البقرة)، وتكررت في الآية (112) من سورة (آل عمران).
[8436]:القراءة الأولى قراءة الحسن، ويعقوب، وهارون، والخفاف، ومحبوب عن أبي عمرو، والثانية قراءة اليماني، وموسى الأسواري، أما قراءة الجمهور فهي بالتاء مع البناء للفاعل.
[8437]:يعني أن الذباب يأكل هذا الطيب ويذهب به من على الأصنام.
[8438]:يريد بالذيول الأطراف والنهايات؛ إذ ذباب السيف حد طرفه الذي يضرب به، والذباب من أذن الإنسان والفرس: ما حد من طرفها، فهذا ونحوه يقال يه: ذبابات، ولا يقال ذلك في الحيوان المعروف.