في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَا تَأۡتِينَا ٱلسَّاعَةُۖ قُلۡ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتَأۡتِيَنَّكُمۡ عَٰلِمِ ٱلۡغَيۡبِۖ لَا يَعۡزُبُ عَنۡهُ مِثۡقَالُ ذَرَّةٖ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَلَا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَآ أَصۡغَرُ مِن ذَٰلِكَ وَلَآ أَكۡبَرُ إِلَّا فِي كِتَٰبٖ مُّبِينٖ} (3)

وبعد تقرير تلك الحقيقة في تلك الصورة الرائعة الواسعة المدى الفسيحة المجال يحكي إنكار الذين كفروا بمجيء الساعة ؛ وهم القاصرون الذين لا يعلمون ماذا يأتيهم به الغد والله هو العليم بالغيب الذي لا يند عن علمه شيء في السماء ولا في الأرض ؛ والساعة لا بد منها ليلاقي المحسن والمسيء جزاء ما قدما في هذه الأرض :

( وقال الذين كفروا : لا تأتينا الساعة : قل : بلى وربي لتأتينكم ، عالم الغيب ، لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين . ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة ورزق كريم . والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك لهم عذاب من رجز أليم ) . .

وإنكار الذين كفروا للآخرة ناشيء من عدم إدراكهم لحكمة الله وتقديره . فحكمة الله لا تترك الناس سدى ، يحسن منهم من يحسن ويسيء منهم من يسيء ؛ ثم لا يلقى المحسن جزاء إحسانه ، ولا يلقى المسيء جزاء إساءته . وقد أخبر الله على لسان رسله : أنه يستبقي الجزاء كله أو بعضه للآخرة . فكل من يدرك حكمة الله في خلقه يدرك أن الآخرة ضرورية لتحقيق وعد الله وخبره . . ولكن الذين كفروا محجوبون عن تلك الحكمة .

ومن ثم يقولون قولتهم هذه : ( لا تأتينا الساعة ) . . فيرد عليهم مؤكداً جازماً : ( قل : بلى وربي لتأتينكم ) . . وصدق الله تعالى وصدق رسول الله - عليه صلوات الله - وهم لا يعلمون الغيب ومع ذلك يتأولون على الله ، ويجزمون بما لا علم لهم به . والله الذي يؤكد مجيء الساعة هو : عالم الغيب . . فقوله الحق عن علم بما هنالك وعن يقين .

ثم يعرض هذا العلم في صورة كونية كالتي سبقت في مطلع السورة ، تشهد هي الأخرى بأن هذا القرآن لا يكون من صنع بشر ، لأن خيال البشر لا تخطر له عادة مثل هذه الصور :

( لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ؛ ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين ) . .

ومرة أخرى نقول : إن طبيعة هذا التصور ليست بشرية . وإنه ليست لها سابقة في كلام البشر شعره ونثره على السواء . فعندما يتحدث البشر عن شمول العلم ودقته وإحاطته لا يخطر على بالهم أن يصوروه في هذه الصورة الكونية العجيبة : ( لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر . . . ) . . ولست أعرف في كلام البشر إتجاهاً إلى مثل هذا التصور للعلم الدقيق الشامل . فهو الله ، سبحانه ، الذي يصف نفسه ، ويصف علمه ، بما يعلم من الأوصاف التي لا تخطر للبشر ! وبذلك يرفع تصور المسلمين لإلههم الذي يعبدونه فيعرفونه بصفته في حدود طاقتهم البشرية المحدودة على كل حال .

وأقرب تفسير لقوله تعالى : ( إلا في كتاب مبين )أنه علم الله الذي يقيد كل شيء ، ولا يند عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر .

ونقف أمام لفتة في قوله تعالى : مثقال ذرة . . . ولا أصغر من ذلك . والذرة كان معروفاً - إلى عهد قريب - أنها أصغر الأجسام . فالآن يعرف البشر - بعد تحطيم الذرة - أن هناك ما هو أصغر من الذرة ، وهو جزيئاتها التي لم تكن في حسبان أحد يومذاك ! وتبارك الله الذي يعلم عباده ما يشاء من أسرار صفته ومن أسرار خلقه عندما يشاء .

مجيء الساعة حتماً وجزماً ، وعلمه الذي لا تند عنه صغيرة ولا كبيرة :

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَا تَأۡتِينَا ٱلسَّاعَةُۖ قُلۡ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتَأۡتِيَنَّكُمۡ عَٰلِمِ ٱلۡغَيۡبِۖ لَا يَعۡزُبُ عَنۡهُ مِثۡقَالُ ذَرَّةٖ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَلَا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَآ أَصۡغَرُ مِن ذَٰلِكَ وَلَآ أَكۡبَرُ إِلَّا فِي كِتَٰبٖ مُّبِينٖ} (3)

روي أن قائل هذه المقالة هو أبو سفيان بن حرب ، وقال اللات والعزى ما ثم ساعة تأتي ولا قيامة ولا حشر فأمر الله تعالى نبيه أن يقسم بربه مقابلة لقسم أبي سفيان قبل رداً وتكذيباً وإيجاباً لما نفاه وأجاز نافع الوقف على { بلى } وقرأ الجمهور «لتأتينكم » بالتاء من فوق ، وحكى أبو حاتم قراءة «ليأتينكم » بالياء على المعنى في البعث .

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بخلاف «عالمِ » بالخفض على البدل من { ربي } ، وقرأ نافع وابن عامر «عالمُ » بالرفع على القطع ، أي هو عالم ، ويصح أن يكون «عالم » رفع بالابتداء وخبره { لا يعزب } وما بعده ، ويكون الإخبار بأن العالم لا يعزب عنه شيء إشارة إلى أنه قد قدر وقتها وعلمه والوجه الأول أقرب ، وقرأ حمزة والكسائي «علامِ » على المبالغة وبالخفض على البدل{[9598]} و { يعزب } معناه يغيب ويبعد ، وبه فسر مجاهد وقتادة ، وقرأ جمهور القراء «لا يعزُب » بضم الزاي ، وقرأ الكسائي وابن وثاب «لا يعزب » بكسرها وهما لغتان ، و { مثقال ذرة } معناه مقدار الذرة ، وهذا في الأجرام بين وفي المعاني بالمقايسة وقرأ الجمهور «ولا أصغرُ ولا أكبر » عطفاً على قوله { مثقال } وقرأ نافع والأعمش وقتادة «أصغرَ وأكبرَ » بالنصب عطفاً على { ذرة } ورويت عن أبي عمرو{[9599]} ، وفي قوله تعالى : { إلا في كتاب مبين } ضمير تقديره إلا هو في كتاب مبين ، والكتاب المبين هو اللوح المحفوظ .


[9598]:وأجاز أبو البقاء أن تكون[عالم] صفة، قال أبو حيان:"ويعني أن{عالم الغيب} يجوز ان يتعرف، وكذا كل ما أضيف إلى معرفة مما كان لا يتعرف بذلك، يجوز أن يتعرف بالإضافة إلا الصفة المشبهة فلا تتعرف بإضافة، ذكر ذلك سيبويه في كتابه، وقل من يعرفه".
[9599]:علق أبو حيان على ذلك بقوله:"ولا يتعين ما قال، بل تكون(لا) لنفي الجنس.وهو مبتدأ، أعني مجموع(لا) وما بني معها على مذهب سيبويه، والخبر{إلا في كتاب مبين}، وهو من عطف الجمل لا من عطف المفردات كما قال ابن عطية.