في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَقَالَ رَجُلٞ مُّؤۡمِنٞ مِّنۡ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ يَكۡتُمُ إِيمَٰنَهُۥٓ أَتَقۡتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ ٱللَّهُ وَقَدۡ جَآءَكُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِ مِن رَّبِّكُمۡۖ وَإِن يَكُ كَٰذِبٗا فَعَلَيۡهِ كَذِبُهُۥۖ وَإِن يَكُ صَادِقٗا يُصِبۡكُم بَعۡضُ ٱلَّذِي يَعِدُكُمۡۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي مَنۡ هُوَ مُسۡرِفٞ كَذَّابٞ} (28)

21

هنا انتدب رجل من آل فرعون ، وقع الحق في قلبه ، ولكنه كتم إيمانه . انتدب يدفع عن موسى ، ويحتال لدفع القوم عنه ، ويسلك في خطابه لفرعون وملئه مسالك شتى ، ويتدسس إلى قلوبهم بالنصيحة ويثير حساسيتها بالتخويف والإقناع :

وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه : أتقتلون رجلاً أن يقول : ربي الله ، وقد جاءكم بالبينات من ربكم ? وإن يك كاذباً فعليه كذبه ، وإن يك صادقاً يصبكم بعض الذي يعدكم ، إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب . يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض ، فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا ? قال فرعون : ما أريكم إلا ما أرى ، وما أهديكم إلا سبيل الرشاد . وقال الذي آمن : يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب . مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم ، وما الله يريد ظلماً للعباد . ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد . يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم ، ومن يضلل الله فما له من هاد . ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات ؛ فما زلتم في شك مما جاءكم به ، حتى إذا هلك قلتم : لن يبعث الله من بعده رسولاً . كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب . الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتاً عند الله وعند الذين آمنوا ، كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار . .

إنها جولة ضخمة هذه التي جالها الرجل المؤمن مع المتآمرين من فرعون وملئه . وإنه منطق الفطرة المؤمنة في حذر ومهارة وقوة كذلك .

إنه يبدأ بتفظيع ما هم مقدمون عليه : ( أتقتلون رجلاً أن يقول : ربي الله ) . . فهل هذه الكلمة البريئة المتعلقة باعتقاد قلب ، واقتناع نفس ، تستحق القتل ، ويرد عليها بإزهاق روح ? إنها في هذه الصورة فعلة منكرة بشعة ظاهرة القبح والبشاعة .

ثم يخطو بهم خطوة أخرى . فالذي يقول هذه الكلمة البريئة : ربي الله . . يقولها ومعه حجته ، وفي يده برهانه : ( وقد جاءكم بالبينات من ربكم ) . . يشير إلى تلك الآيات التي عرضها موسى - عليه السلام - ورأوها ، وهم - فيما بينهم وبعيداً عن الجماهير - يصعب أن يماروا فيها !

ثم يفرض لهم أسوأ الفروض ؛ ويقف معهم موقف المنصف أمام القضية ؛ تمشياً مع أقصى فرض يمكن أن يتخذوه : ( وإن يك كاذباً فعليه كذبه ) . . وهو يحمل تبعة عمله ، ويلقى جزاءه ، ويحتمل جريرته . وليس هذا بمسوغ لهم أن يقتلوه على أية حال !

وهناك الاحتمال الآخر ، وهو أن يكون صادقاً . فيحسن الاحتياط لهذا الاحتمال ، وعدم التعرض لنتائجه : ( وإن يك صادقاً يصبكم بعض الذي يعدكم ) . . وإصابتهم ببعض الذي يعدهم هو كذلك أقل احتمال في القضية ، فهو لا يطلب إليهم أكثر منه . وهذا منتهى الإنصاف في الجدل والإفحام .

ثم يهددهم من طرف خفي ، وهو يقول كلاماً ينطبق على موسى كما ينطبق عليهم : ( إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب ) . . فإذا كان موسى فإن الله لا يهديه ولا يوفقه ، فدعوه له يلاقي منه جزاءه . واحذروا أن تكونوا أنتم الذين تكذبون على موسى وربه وتسرفون ، فيصيبكم هذا المآل !

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَقَالَ رَجُلٞ مُّؤۡمِنٞ مِّنۡ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ يَكۡتُمُ إِيمَٰنَهُۥٓ أَتَقۡتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ ٱللَّهُ وَقَدۡ جَآءَكُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِ مِن رَّبِّكُمۡۖ وَإِن يَكُ كَٰذِبٗا فَعَلَيۡهِ كَذِبُهُۥۖ وَإِن يَكُ صَادِقٗا يُصِبۡكُم بَعۡضُ ٱلَّذِي يَعِدُكُمۡۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي مَنۡ هُوَ مُسۡرِفٞ كَذَّابٞ} (28)

ثم حكى مقالة رجل مؤمن من آل فرعون وشرفه بالذكر ، وخلد ثناءه في الأمم ، سمعت أبي رضي الله عنه يقول : سمعت أبا الفضل الجوهري على المنبر وقد سئل أن يتكلم في شيء من فضائل الصحابة ، فأطرق قليلاً ثم رفع رأسه وأنشد [ عدي بن زيد ] : [ الطويل ]

عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه . . . فكل قرين بالمقارن مقتد{[9985]}

ماذا تريدون من قوم قرنهم الله بنبيه صلى الله عليه وسلم وخصهم بمشاهدته وتلقي الوحي منه ؟ وقد أثنى الله على رجل مؤمن من آل فرعون كتم إيمانه وأسره ، فجعله الله تعالى في كتابه وأثبت ذكره في المصاحف لكلام قاله في مجلس من مجالس الكفر ، وأين هو من عمر بن الخطاب رضي الله عنه جرد سيفه بمكة وقال : والله لا عبد الله سراً بعد اليوم .

وقرأت فرقة : «رجْل » بسكون الجيم ، كعضد وعضد ، وسبع وسبع ، وقراءة الجمهور بضم الجيم واختلف الناس في هذا الرجل ، فقال السدي وغيره : كان من آل فرعون وأهله ، وكان يكتم إيمانه ، ف { يكتم } على هذا في موضع الصفة دون تقديم وتأخير ، وقال مقاتل : كان ابن عم فرعون . وقالت فرقة : لم يكن من أهل فرعون . ( وقالت فرقة : لم يكن من أهل فرعون ) . بل من بني إسرائيل ، وإنما المعنى : وقال رجل يكتم إيمانه من آل فرعون ، ففي الكلام تقديم وتأخير ، والأول أصح ، ولم يكن لأحد من بني إسرائيل أن يتكلم بمثل هذا عند فرعون ، ويحتمل أن يكون من غير القبط ، ويقال فيه من آل فرعون ، إذ كان في الظاهر على دينه ومن أتباعه ، وهذا كما قال أراكة الثقفي يرثي أخاه ويتعزى برسول الله صلى الله عليه وسلم : [ الطويل ]

فلا تبك مْيتاً بعد مْيت أجنه . . . علي وعباس وآل أبي بكر{[9986]}

يعني المسلمين إذ كانوا في طاعة أبي بكر الصديق .

وقوله : { أن يقول } مفعول من أجله ، أي لأجل أن يقول : وجلح{[9987]} معهم هذا المؤمن في هذه المقالات ثم غالطهم بعد في أن جعله في احتمال الصدق والكذب ، وأراهم أنها نصيحة ، وحذفت النون من : { يك } تخفيفاً على ما قال سيبويه وتشبيهاً بالنون في تفعلون وتفعلان على مذهب المبرد ، وتشبيهاً بحرف العلة الياء والواو على مذهب أبي علي الفارسي وقال : كأن الجازم دخل على «يكن » وهي مجزومة بعد فأشبهت النون الياء من يقضي والواو من يدعو ، لأن خفتها على اللسان سواء .

واختلف المتأولون في قوله : { يصبكم بعض الذي يعدكم } فقال أبو عبيدة وغيره : { بعض } بمعنى كل ، وأنشدوا قول القطامي عمرو بن شييم : [ البسيط ]

قد يدرك المتأني بعض حاجته . . . وقد يكون مع المستعجل الزلل{[9988]}

وقال الزجاج : هو إلزام الحجة بأيسر ما في الأمر ، وليس فيه نفي إضافة الكل . وقالت فرقة ، أراد : يصبكم بعض العذاب الذي يذكر ، وذلك كاف في هلاككم ، ويظهر إلي أن المعنى : يصبكم القسم الواحد مما يعد به ، وذلك هو بعض ما يعد ، لأنه عليه السلام وعدهم إن آمنوا بالنعيم وإن كفروا بالعذاب فإن كان صادقاً فالعذاب بعض ما وعد به . وقالت فرقة : أراد ببعض ما يعدكم عذاب الدنيا ، لأنه بعض عذاب الآخرة ، أي وتصيرون بعد ذلك إلى الباقي وفي البعض كفاية في الإهلاك ، ثم وعظهم هذا المؤمن بقوله : { إن الله لايهدي من هو مسرف كذاب } قال السدي : معناه : مسرف بالقتل . وقال قتادة : مسرف بالكفر .


[9985]:يستشهد ابن عطية بهذا البيت على أن الصحابة كان لهم من الفضل أنهم عاشوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وتعلموا منه، وكانوا قرناء له، والمرء يعرف بقرينه. والقرين في اللغة هو صاحبك الذي يقارنك، والجمع قرناء.
[9986]:وهذا شاهد على أنه يقال للمرء: (إنه من آل فلان) إذا كان على دينه ومن أتباعه، لأن الشاعر يقول: وآل أبي بكر ويعني بذلك كل من كان على دين أبي بكر رضي الله عنه، وهو في البيت يتعزى عن فقد أخيه بأن هناك من هو أفضل منه وأعظم، وقد مات، فلا يحق لنا أن نبكي عليه بعد أن مات هذا الإنسان العظيم الذي تولى دفنه علي بن أبي طالب والعباس وجميع المؤمنين الذين كانوا في طاعة الصديق رضي الله عنه.
[9987]:جلح في الأمر: أقدم ومضى.
[9988]:القطامي اسمه عمير بن شييم، وهو من بني تغلب، والبيت مما يتمثل به من شعره، وهو في البحر المحيط، وفي القرطبي وفي اللسان، وقبله: والناس من يلق خيرا قائلون له ما يشتهي، ولأم المخطئ الهبل والمتأني في الأمر: المترفق فيه المتمهل، والزلل: الخطأ والسقوط. وقد نقل في اللسان عن أبي إسحق قوله: (من لطيف المسائل أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا وعد وعدا وقع الوعد بأسره ولم يقع بعضه، فمن أين جاز أن يقول: {بعض الذي يعدكم} وهذا باب من النظر يذهب فيه المناظر إلى إلزام حجته بأسير ما في الأمر، وليس في هذا معنى الكل، وإنما ذكر البعض ليوجب له الكل، لأن البعض هو الكل، ومثل هذا قول الشاعر: (قد يدرك المتأني... البيت)، لأن القائل إذا قال: أقل ما يكون للمتأني إدراك بعض الحاجة، وأقل ما يكون للمستعجل الزلل، فقد أبان فضل المتأني على المستعجل بما لا يقدر الخصم أن يدفعه. فكأن مؤمن آل فرعون قال لهم: أقل ما يكون في صدقه أن يصيبكم بعض الذي يعدكم، وفي بعض ذلك هلاككم).