ولقد خاطبهم باسم آبائهم الذين حملهم مع نوح ، وهم خلاصة البشرية على عهد الرسول الأول في الأرض . خاطبهم بهذا النسب ليذكرهم باستخلاص الله لآبائهم الأولين ، مع نوح العبد الشكور ، وليردهم إلى هذا النسب المؤمن العريق .
ووصف نوحا بالعبودية لهذا المعنى ولمعنى آخر ، هو تنسيق صفة الرسل المختارين وإبرازها . وقد وصف بها محمدا [ ص ] من قبل . على طريقة التناسق القرآنية في جو السورة وسياقها .
{ ذرية من حملنا مع نوح } نصب على الاختصاص أو النداء أن قرى " أن لا تتخذوا " بالتاء على النهي يعني : قلنا لهم لا تتخذوا من دوني وكيلا ، أو على أنه أحد مفعولي { لا تتخذوا } و{ من دوني } حال من { وكيلا } فيكون كقوله : { ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً } وقرئ بالرفع على انه خبر مبتدأ محذوف أو بدل من واو { تتخذوا } ، و{ ذرية } بكسر الذال . وفيه تذكير بإنعام الله تعالى عليهم في إنجاء آبائهم من الغرق بحملهم مع نوح عليه السلام في السفينة . { إنه } إن نوحا عليه السلام . { كان عبدا شكورا } يحمد الله تعالى على مجامع حالاته ، وفيه إيماء بأن إنجاءه ومن معه كان ببركة شكره ، وحث للذرية على الاقتداء به . وقيل الضمير لموسى عليه الصلاة والسلام .
يجوز أن يكون اعتراضاً في آخر الحكاية ليس داخلاً في الجملة التفسيرية . فانتصاب { ذريّةَ } على الاختصاص لزيادة بيان بني إسرائيل بياناً مقصوداً به التعريض بهم إذ لم يشكروا النعمة . ويجوز أن يكون من تمام الجملة التفسيرية ، أي حال كونكم ذرية من حملنا مع نوح عليه السلام ، أو ينتصب على النداء بتقدير حرف النداء ، أي يا ذرية من حملنا مع نوح ، مقصوداً به تحريضهم على شكر نعمة الله واجتناب الكفر به باتخاذ شركاء دونه .
والحمل وضع شيء على آخر لنقله ، والمراد الحمل في السفينة كما قال : { حملناكم في الجارية } [ الحاقة : 11 ] ، أي ذرّيّة من أنجيناهم من الطوفان مع نوح عليه السلام .
وجملة { إنه كان عبدا شكوراً } مفيدة تعليل النهي عن أن يتخذوا من دون الله وكيلاً ، لأن أجدادهم حملوا مع نوح بنعمة من الله عليهم لنجاتهم من الغرق وكان نوح عبداً شكوراً والذين حملوا معه كانوا شاكرين مثله ، أي فاقتدوا بهم ولا تكفروا نعم الله .
ويحتمل أن تكون هذه الجملة من تمام الجملة التفسيرية فتكون مما خاطب الله به بني إسرائيل ، ويحتمل أنها مذيلة لجملة { وآياتنا موسى الكتاب } فيكون خطاباً لأهل القرآن .
واعلم أن في اختيار وصفهم بأنهم ذرية من حمل مع نوح عليه السلام معاني عظيمة من التذكير والتحريض والتعريض لأن بني إسرائيل من ذرية سام بن نوح وكان سام ممن ركب السفينة .
وإنما لم يقل ذرية نوح مع أنهم كذلك قصداً لإدماج التذكير بنعمة إنجاء أصولهم من الغرق .
وفيه تذكير بأن الله أنجى نوحاً ومن معه من الهلاك بسبب شكره وشكرهم تحريضاً على الائتساء بأولئك .
وفيه تعريض بأنهم إن أشركوا ليُوشكن أن ينزل بهم عذاب واستئصال ، كما في قوله : { قيل يا نوح اهبِطْ بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنُمتعهم ثم يَمَسُّهُمْ منا عذابٌ أليم } [ هود : 48 ] .
وفيه أن ذرية نوح كانوا شقين شق بار مطيع ، وهم الذين حملهم معه في السفينة ، وشق متكبر كافر وهو ولده الذي غرق ، فكان نوح عليه السلام مثلاً لأبي فريقين ، وكان بنو إسرائيل من ذرية الفريق البار ، فإن اقتدوا به نَجُوا وإن حادوا فقد نزعوا إلى الفريق الآخر فيوشك أن يهلكوا . وهذا التماثل هو نكتة اختيار ذكر نوح من بين أجدادهم الآخرين مثل إبراهيم ، وإسحاق ، ويعقوب عليهم السلام ، لفوات هذا المعنى في أولئك . وقد ذكر في هذه السورة استئصال بني إسرائيل مرتين بسبب إفسادهم في الأرض وعلوهم مرتين وأن ذلك جزاء إهمالهم وعْدَ اللّهِ نوحاً عليه السلام حينما نجاه .
وتأكيد كون نوح { كان عبداً شكوراً } بحرف ( إنّ ) تنزيل لهم منزلة من يجهل ذلك ؛ إما لتوثيق حملهم على الاقتداء به إن كانت الجملة خطاباً لبني إسرائيل من تمام الجملة التفسيرية ، وإما لتنزيلهم منزلة من جهل ذلك حتى تورطوا في الفساد فاستأهلوا الاستئصال وذهاب ملكهم ، لينتقل منه إلى التعريض بالمشركين من العرب بأنهم غير مقتدين بنوح لأن مثلهم ومثل بني إسرائيل في هذا السياق واحد في جميع أحوالهم ، فيكون التأكيد منظوراً فيه إلى المعنى التعريضي .
ومعنى كون نوح { عبداً } أنه معترف لله بالعبودية غير متكبر بالإشراك ، وكونه { شكوراً } ، أي شديداً لشكر الله بامتثال أوامره . وروي أنه كان يكثر حمد الله .
والاقتداء بصالح الآباء مجبولة عليه النفوس ومحل تنافس عند الأمم بحيث يعد خلاف ذلك كمثير للشك في صحة الانتساب .
وكان نوح عليه السلام مثلاً في كمال النفس وكانت العرب تعرف ذلك وتنبعث على الاقتداء به . قال النابغة :
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.