سورة الإسراء مكية وآياتها إحدى عشرة ومائة
هذه السورة - سورة الإسراء - مكية ، وهي تبدأ بتسبيح الله وتنتهي بحمده ؛ وتضم موضوعات شتى معظمها عن العقيدة ؛ وبعضها عن قواعد السلوك الفردي والجماعي وآدابه القائمة على العقيدة ؛ إلى شيء من القصص عن بني إسرائيل يتعلق بالمسجد الأقصى الذي كان إليه الإسراء . وطرف من قصة آدم وإبليس وتكريم الله للإنسان .
ولكن العنصر البارز في كيان السورة ومحور موضوعاتها الأصيل هو شخص الرسول [ ص ] وموقف القوم منه في مكة . وهو القرآن الذي جاء به ، وطبيعة هذا القرآن ، وما يهدي إليه ، واستقبال القوم له . واستطرادا بهذه المناسبة إلى طبيعة الرسالة والرسل ، وإلى امتياز الرسالة المحمدية بطابع غير طابع الخوارق الحسية وما يتبعها من هلاك المكذبين بها . وإلى تقرير التبعة الفردية في الهدى والضلال الاعتقادي ، والتبعة الجماعية في السلوك العملي في محيط المجتمع . . كل ذلك بعد أن يعذر الله - سبحانه - إلى الناس ، فيرسل إليهم الرسل بالتبشير والتحذير والبيان والتفصيل ) وكل شيء فصلناه تفصيلا ) .
ويتكرر في سياق السورة تنزيه الله وتسبيحه وحمده وشكر آلائه . ففي مطلعها : ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى . . . )وفي أمر بني إسرائيل بتوحيد الله يذكرهم بأنهم من ذرية المؤمنين مع نوح )إنه كان عبدا شكورا ) . . وعند ذكر دعاوي المشركين عن الآلهة يعقب بقوله : )سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا ، تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن ، وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم ) . . وفي حكاية قول بعض أهل الكتاب حين يتلى عليهم القرآن : )ويقولون : سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ) . . وتختم السورة بالآية )وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ، ولم يكن لهشريك في الملك ، ولم يكن له ولي من الذل ، وكبره تكبيرا ) .
في تلك الموضوعات المنوعة حول ذلك المحور الواحد الذي بينا ، يمضي سياق السورة في أشواط متتابعة .
يبدأ الشوط الأول بالإشارة إلى الإسراء : )سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله )مع الكشف عن حكمة الإسراء )لنريه من آياتنا ) . . وبمناسبة المسجد الأقصى يذكر كتاب موسى وما قضى فيه لبني إسرائيل ، من نكبة وهلاك وتشريد مرتين ، بسبب طغيانهم وإفسادهم مع إنذارهم بثالثة ورابعة )وإن عدتم عدنا ) . . ثم يقرر أن الكتاب الأخير - القرآن - يهدي للتي هي أقوم ، بينما الإنسان عجول مندفع لا يملك زمام انفعالاته . ويقرر قاعدة التبعة الفردية في الهدى والضلال ، وقاعدة التبعة الجماعية في التصرفات والسلوك .
ويبدأ الشوط الثاني بقاعدة التوحيد ، ليقيم عليها البناء الاجتماعي كله وآداب العمل والسلوك فيه ، ويشدها إلى هذا المحور الذي لا يقوم بناء الحياة إلا مستندا إليه .
ويتحدث في الشوط الثالث عن أوهام الوثنية الجاهلية حول نسبة البنات والشركاء إلى الله ، وعن البعث واستبعادهم لوقوعه ، وعن استقبالهم للقرآن وتقولاتهم على الرسول [ ص ] ويأمر المؤمنين أن يقولوا قولا آخر ، ويتكلموا بالتي هي أحسن .
وفي الشوط الرابع يبين لماذا لم يرسل الله محمدا [ ص ] بالخوارق فقد كذب بها الأولون ، فحق عليهم الهلاك اتباعا لسنة الله ؛ كما يتناول موقف المشركين من إنذارهم لله في رؤيا الرسول [ ص ] وتكذيبهم وطغيانهم . ويجيء في هذا السياق طرف من قصة إبليس ، وإعلانه أنه سيكون حربا على ذرية آدم . يجيء هذا الطرف من القصة كأنه كشف لعوامل الضلال الذي يبدو من المشركين . ويعقب عليه بتخويف البشر من عذاب الله ، وتذكيرهم بنعمة الله عليهم في تكريم الإنسان ، وما ينتظر الطائعين والعصاة يوم ندعو كل أناس بإمامهم : فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرؤون كتابهم ولا يظلمون فتيلا . ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا .
ويستعرض الشوط الأخير كيد المشركين للرسول [ ص ] ومحاولة فتنته عن بعض ما أنزل إليه ومحاولة إخراجه من مكة . ولو أخرجوه قسرا - ولم يخرج هو مهاجرا بأمر الله - لحل بهم الهلاك الذي حل بالقرى من قبلهم حين أخرجت رسلها أو قتلتهم . ويأمر الرسول [ ص ] أن يمضي في طريقه يقرأ قرآنه ويصلي صلاته ، ويدعو الله أن يحسن مدخله ومخرجه ويعلن مجيء الحق وزهوق الباطل ، ويعقب بأن هذا القرآن الذي أرادوا فتنته عن بعضه فيه شفاء وهدى للمؤمنين ، بينما الإنسان قليل العلم )وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) .
ويستمر في الحديث عن القرآن وإعجازه . بينما هم يطلبون خوارق مادية ، ويطلبون نزول الملائكة ، ويقترحون أن يكون للرسول بيت من زخرف أو جنة من نخيل وعنب ، يفجر الأنهار خلالها تفجيرا ! أو أن يفجر لهم من الأرض ينبوعا . أو أن يرقى هو في السماء ثم يأتيهم بكتاب مادي معه يقرأونه . . . إلى آخر هذه المقترحات التي يمليها العنت والمكابرة ، لا طلب الهدى والاقتناع . ويرد على هذا كله بأنه خارج عن وظيفة الرسول وطبيعة الرسالة ، ويكل الأمر إلى الله . ويتهكم على أولئك الذين يقترحون هذه الاقتراحات كلها بأنهم لو كانوا يملكون خزائن رحمة الله - على سعتها وعدم نفادها - لأمسكوها خوفا من الإنفاق ! وقد كان حسبهم أن يستشعروا أن الكون وما فيه يسبح لله ، وأن الآيات الخارقة قد جاء بها موسى من قبل فلم تؤد إلىإيمان المتعنتين الذين استفزوه من الأرض ، فأخذهم الله بالعذاب والنكال .
وتنتهي السورة بالحديث عن القرآن والحق الأصيل فيه . القرآن الذي نزل مفرقا ليقرأه الرسول على القوم زمنا طويلا بمناسباته ومقتضياته ، وليتأثروا به ويستجيبوا له استجابة حية واقعية عملية . والذي يتلقاه الذين أوتوا العلم من قبله بالخشوع والتأثر إلى حد البكاء والسجود . ويختم السورة بحمد الله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل . كما بدأها بتسبيحه وتنزيهه .
وقصة الإسراء - ومعها قصة المعراج - إذ كانتا في ليلة واحدة - الإسراء من المسجد الحرام في مكة إلى المسجد الأقصى في بيت المقدس . والمعراج من بيت المقدس إلى السماوات العلى وسدرة المنتهى ، وذلك العالم الغيبي المجهول لنا . . هذه القصة جاءت فيها روايات شتى ؛ وثار حولها جدل كثير . ولا يزال إلى اليوم يثور .
وقد اختلف في المكان الذي أسرى منه ، فقيل هو المسجد الحرام بعينه - وهو الظاهر - وروى عن النبي [ ص ] " بينا أنا في المسجد في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان إذ أتاني جبريل عليه السلام بالبراق " . وقيل : أسري به من دار أم هانيء بنت أبي طالب . والمراد بالمسجد الحرام الحرم لإحاطته بالمسجد والتباسه به . وعن ابن عباس : الحرم كله مسجد .
وروى أنه كان نائما في بيت أم هانيء بعد صلاة العشاء فأسري به ورجع من ليلته ، وقص القصة على أم هانى ء وقال : " مثل لي النبيون فصليت بهم " ثم قام ليخرج إلى المسجد ، فتشبثت أم هانى ء بثوبه ، فقال : " مالك ? " قالت : أخشى أن يكذبك قومك إن أخبرتهم . قال : " وإن كذبوني " . فخرج فجلس إليه أبو جهل ، فأخبره رسول الله [ ص ] بحديث الإسراء فقال أبو جهل : يا معشر بني كعب ابن لؤي هلم . فحدثهم ، فمن بين مصفق وواضع يده على رأسه تعجبا وإنكارا ؛ وارتد ناس ممن كان آمن به ؛ وسعى رجال إلى أبي بكر - رضي الله عنه - فقال : أوقال ذلك ? قالوا نعم . قال : فأنا أشهد لئن كان قال ذلك لقد صدق . قالوا : فتصدقه في أن يأتي في الشام في ليلة واحدة ثم يرجع إلى مكة قبل أن يصبح ? قال : نعم أنا أصدقه بأبعد من ذلك . أصدقه بخبر السماء ! فسمي الصديق . وكان منهم من سافر إلى بيت المقدس فطلبوا إليه وصف المسجد ، فجلى له ، فطفق ينظر إليه وينعته لهم ، فقالوا : أما النعت فقد أصاب . فقالوا : أخبرنا عن عيرنا . فأخبرهم بعدد جمالها وأحوالها ؛ وقال : تقدم يوم كذا مع طلوع الشمس يقدمها جمل أورق . فخرجوا يشتدون ذلك اليوم نحو الثنية - لمراقبة مقدم العير - فقال قائل منهم : هذه والله الشمس قد شرقت . فقال آخر : وهذه والله العير قد أقبلت يقدمها جمل أورق ، كما قال محمد . . ثم لم يؤمنوا ! . . وفي الليلة ذاتها كان العروج به إلى السماء من بيت المقدس .
واختلف في أن الإسراء كان في اليقظة أم في المنام . فعن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت : والله ما فقد جسد رسول الله [ ص ] ولكن عرج بروحه . وعن الحسن كان في المنام رؤيا رآها . وفي أخبار أخرى أنه كان بروحه وجسمه ، وأن فراشه - عليه الصلاة والسلام - لم يبرد حتى عاد إليه .
والراجح من مجموع الروايات أن رسول الله [ ص ] ترك فراشه في بيت أم هانى ء إلى المسجد فلما كان في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان أسري به وعرج . ثم عاد إلى فراشه قبل أن يبرد .
على أننا لا نرى محلا لذلك الجدل الطويل الذي ثار قديما والذي يثور حديثا حول طبيعة هذه الواقعة المؤكدة في حياة الرسول [ ص ] والمسافة بين الإسراء والمعراج بالروح أو بالجسم ، وبين أن تكونرؤيا في المنام أو رؤية في اليقظة . . المسافة بين هذه الحالات كلها ليست بعيدة ؛ ولا تغير من طبيعة هذه الواقعة شيئا وكونها كشفا وتجلية للرسول [ ص ] عن أمكنة بعيدة وعوالم بعيدة في لحظة خاطفة قصيرة . . والذين يدركون شيئا من طبيعة القدرة الإلهية ومن طبيعة النبوة لا يستغربون في الواقعية شيئا . فأمام القدرة الإلهية تتساوى جميع الأعمال التي تبدو في نظر الإنسان وبالقياس إلى قدرته وإلى تصوره متفاوتة السهولة والصعوبة ، حسب ما اعتاده وما رآه . والمعتاد المرئي في عالم البشر ليس هو الحكم في تقدير الأمور بالقياس إلى قدرة الله . أما طبيعة النبوة فهي اتصال بالملأ الأعلى - على غير قياس أو عادة لبقية البشر - وهذه التجلية لمكان بعيد ، أو عالم بعيد ؛ والوصول إليه بوسيلة معلومة أو مجهولة ليست أغرب من الاتصال بالملأ الأعلى والتلقي عنه . وقد صدق أبو بكر - رضي الله عنه - وهو يرد المسألة المستغربة المستهولة عند القوم إلى بساطتها وطبيعتها فيقول : إني لأصدقه بأبعد من ذلك . أصدقه بخير السماء !
ومما يلاحظ - بمناسبة هذه الواقعة وتبين صدقها للقوم بالدليل المادي الذي طلبوه يومئذ في قصة العير وصفتها أن الرسول [ ص ] لم يسمع لتخوف أم هانى ء - رضي الله عنها - من تكذيب القوم له بسبب غرابة الواقعة . فإن ثقة الرسول بالحق الذي جاء به ، والحق الذي وقع له جعلته يصارح القوم بما رأى كائنا ما كان رأيهم فيه . وقد ارتد بعضهم فعلا ، واتخذها بعضهم مادة للسخرية والتشكيك . ولكن هذا كله لم يكن ليقعد الرسول [ ص ] عن الجهر بالحق الذي آمن به . . وفي هذا مثل لأصحاب الدعوة أن يجهروا بالحق لا يخشون وقعه في نفوس الناس ، ولا يتملقون به القوم ، ولا يتحسسون مواضع الرضى والاستحسان ، إذا تعارضت مع كلمة الحق تقال .
كذلك يلاحظ أن الرسول [ ص ] لم يتخذ من الواقعة معجزة لتصديق رسالته ، مع إلحاح القوم في طلب الخوارق - وقد قامت البينة عندهم على صدق الإسراء على الأقل - ذلك أن هذه الدعوة لا تعتمد على الخوارق ، إنما تعتمد على طبيعة الدعوة ومنهاجها المستمد من الفطرة القويمة ، المتفقة مع المدارك بعد تصحيحها وتقويمها . فلم يكن جهر الرسول [ ص ] بالواقعة ناشئا عن اعتماده عليها في شيء من رسالته . إنما كان جهرا بالحقيقة المستيقنة له لمجرد أنها حقيقة :
والآن نأخذ في الدرس الأول على وجه التفصيل : ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله ، لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير ) . .
تبدأ السورة بتسبيح الله ، أليق حركة نفسية تتسق مع جو الإسراء اللطيف ، وأليق صلة بين العبد والرب في ذلك الأفق الوضيء .
وتذكر صفة العبودية : ( أسرى بعبده ) لتقريرها وتوكيدها في مقام الإسراء والعروج إلى الدرجات التي لم يبلغها بشر ؛ وذلك كي لا تنسى هذه الصفة ، ولا يلتبس مقام العبودية ، بمقام الألوهية ، كما التبسا في العقائد المسيحية بعد عيسى عليه السلام ، بسبب ما لابس مولده ووفاته ، وبسبب الآيات التي أعطيت له ، فاتخذها بعضهم سببا للخلط بين مقام العبودية ومقام الألوهية . . وبذلك تبقى للعقيدة الإسلامية بساطتها ونصاعتها وتنزيهها للذات الإلهية عن كل شبهة من شرك أو مشابهة ، من قريب أو من بعيد .
والإسراء من السرى : السير ليلا . فكلم ( أسرى ) تحمل معها زمانها . ولا تحتاج إلى ذكره . ولكنالسياق ينص على الليل ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلا ) للتظليل والتصوير - على طريقة القرآن الكريم - فيلقي ظل الليل الساكن ، ويخيم جوه الساجي على النفس ، وهي تتملى حركة الإسراء اللطيفة وتتابعها .
والرحلة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى رحلة مختارة من اللطيف الخبير ، تربط بين عقائد التوحيد الكبرى من لدن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ، إلى محمد خاتم النبيين [ ص ] وتربط بين الأماكن المقدسة لديانات التوحيد جميعا . وكأنما أريد بهذه الرحلة العجيبة إعلان وراثة الرسول الأخير لمقدسات الرسل قبله ، واشتمال رسالته على هذه المقدسات ، وارتباط رسالته بها جميعا . فهي رحلة ترمز إلى أبعد من حدود الزمان والمكان ؛ وتشمل آمادا وآفاقا أوسع من الزمان والمكان ؛ وتتضمن معاني أكبر من المعاني القريبة التي تتكشف عنها للنظرة الأولى .
ووصف المسجد الأقصى بأنه ( الذي باركنا حوله ) وصف يرسم البركة حافة بالمسجد ، فائضة عليه . وهو ظل لم يكن ليلقيه تعبير مباشر مثل : باركناه . أو باركنا فيه . وذلك من دقائق التعبير القرآني العجيب .
والإسراء آية صاحبتها آيات : ( لنريه من آياتنا ) والنقلة العجيبة بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى في البرهة الوجيزة التى لم يبرد فيها فراش الرسول [ ص ] أيا كانت صورتها وكيفيتها . . آية من آيات الله ، تفتح القلب على آفاق عجيبة في هذا الوجود ؛ وتكشف عن الطاقات المخبوءة في كيان هذا المخلوق البشري ، والاستعدادات اللدنية التي يتهيأ بها لاستقبال فيض القدرة في أشخاص المختارين من هذا الجنس ، الذي كرمه الله وفضله على كثير من خلقه ، وأودع فيه هذه الأسرار اللطيفة . . ( إنه هو السميع البصير ) . . يسمع ويرى كل ما لطف ودق ، وخفي على الأسماع والأبصار من اللطائف والأسرار .
والسياق يتنقل في آية الافتتاح من صيغة التسبيح لله : سبحان الذي أسرى بعبده ليلا إلى صيغة التقرير من الله : ( لنريه من آياتنا ) إلى صيغة الوصف لله : ( إنه هو السميع البصير ) وفقا لدقائق الدلالات التعبيرية بميزان دقيق حساس . فالتسبيح يرتفع موجها إلى ذات الله سبحانه . وتقرير القصد من الإسراء يجيء منه تعالى نصا . والوصف بالسمع والبصر يجيء في صورة الخبر الثابت لذاته الإلهية . وتجتمع هذه الصيغ المختلفة في الآية الواحدة لتؤدي دلالاتها بدقة كاملة .
سورة الإسراء ، وقيل : إلا قوله تعالى : { وإن كادوا ليفتنونك } إلى آخر ثمان آيات . وهي مائة وإحدى عشرة آية .
{ سبحان الذي أسرى بعبده ليلا } سبحان اسم بمعنى التسبيح { الذي } هو التنزيه يستعمل علما له فيقطع عن الإضافة ويمنع عن الصرف قال :
قد قلت لمّا جاءني فخره *** سبحان من علقمة الفاخر
وانتصابه بفعل متروك إظهاره ، وتصدير الكلام به للتنزيه عن العجز عما ذكر بعد . و{ أسرى } وسرى بمعنى ، و{ ليلا } نصب على الظرف . وفائدته الدلالة بتنكيره على تقليل مدة الإسراء ، ولذلك قرئ : من " الليل " . أي بعضه كقوله : { ومن الليل فتهجد به } . { من المسجد الحرام } بعينه لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال : " بينا أنا في المسجد الحرام في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان إذ أتاني جبريل بالبراق " . أو " من الحرم " وسماه المسجد الحرام لأنه كله مسجد أو لأنه محيط به ، أو ليطابق المبدأ المنتهى . لما روي أنه صلى الله عليه وسلم كان نائما في بيت أم هانئ بعد صلاة العشاء فأسري به ورجع من ليلته ، وقص القصة عليها وقال : " مثل لي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فصليت بهم " ، ثم خرج إلى المسجد الحرام وأخبر به قريشا فتعجبوا منه استحالة ، وارتد ناس ممن آمن به ، وسعى رجال إلى أبي بكر رضي الله تعالى عنه فقال : إن كان قال لقد صدق ، فقالوا : أتصدقه على ذلك ، قال إني لأصدقه على أبعد من ذلك فسمي الصديق ، واستنعته طائفة سافروا إلى بيت المقدس فجلى له فطفق ينظر إليه وينعته لهم ، فقالوا : أما النعت فقد أصاب فقالوا أخبرنا عن عيرنا ، فأخبرهم بعدد جمالها وأحوالها وقال تقدم يوم كذا مع طلوع الشمس يقدمها جمل أورق ، فخرجوا يشتدون إلى الثنية فصادفوا العير كما أخبر ، ثم لم يؤمنوا وقالوا ما هذا إلا سحر مبين وكان ذلك قبل الهجرة بسنة . واختلف في أنه كان في المنام أو في اليقظة بروحه أو بجسده ، والأكثر على أنه أسري بجسده إلى بيت المقدس ، ثم عرج به إلى السماوات حتى انتهى إلى سدرة المنتهى ، ولذلك تعجب قريش واستحالوه ، والاستحالة مدفوعة بما ثبت في الهندسة أن ما بين طرفي قرص الشمس ضعف ما بين طرفي كرة الأرض مائة ونيفا وستين مرة ، ثم إن طرفها الأسفل يصل موضع طرفها الأعلى في أقل من ثانية ، وقد برهن في الكلام أن الأجسام متساوية في قبول الأعراض وأن الله قادر على كل الممكنات فيقدر أن يخلق مثل هذه الحركة السريعة في بدن النبي صلى الله عليه وسلم ، أو فيما يحمله ، والتعجب من لوازم المعجزات . { إلى المسجد الأقصى } بيت المقدس لأنه لم يكن حينئذ وراءه مسجد . { الذي باركنا حوله } ببركات الدين والدنيا لأنه مهبط الوحي ومتعبد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من لدن موسى عليه الصلاة والسلام ، ومحفوف بالأنهار والأشجار . { لنُريه من آياتنا } كذهابه في برهة من الليل مسيرة شهر ومشاهدته بيت المقدس وتمثل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام له ، ووقوفه على مقاماتهم ، وصرف الكلام من الغيبة إلى التكلم لتعظيم تلك البركات والآيات . وقرئ " ليريه " بالياء . { إنه هو السميع } لأقوال محمد صلى الله عليه وسلم . { البصير } بأفعاله فيكرمه ويقربه على حسب ذلك .
سميت في كثير من المصاحف سورة الإسراء . وصرح الآلوسي بأنها سميت بذلك ، إذ قد ذكر في أولها الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم واختصت بذكره .
وتسمى في عهد الصحابة سورة بني إسرائيل . ففي جامع الترمذي في أبواب الدعاء عن عائشة رضي الله عنها قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم لا ينام حتى يقرأ الزمر وبني إسرائيل .
وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن مسعود أنه قال في بني إسرائيل والكهف ومريم : إنهن من العتاق الأول وهن من تلادي . وبذلك ترجم لها البخاري في كتاب التفسير ، والترمذي في أبواب التفسير . ووجه ذلك أنها ذكر فيها من أحوال بني إسرائيل ما لم يذكر في غيرها . وهو استيلاء قوم أولى بأس الآشوريين عليهم ثم استيلاء قوم آخرين وهم الروم عليهم .
وتسمى أيضا سورة { سبحان } ، لأنها افتتحت بهذه الكلمة . قال في بصائر ذوي التمييز .
وهي مكية عند الجمهور . قيل : إلا آتين منها ، وهما { وإن كادوا ليفتنونك إلى قوله قليلا } . وقيل : إلا أربعا ، هاتين الآيتين ، وقوله { وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس } ، وقوله { وقل رب أدخلني مدخل صدق } الآية . وقيل : إلا خمسا ، هاته الأربع ، وقوله { إن الذين أوتوا العلم من قبله } إلى آخر السورة . وقيل : إلا خمس آيات غير ما تقدم ، وهي المبتدأة بقوله { ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق } الآية ، وقوله { ولا تقربوا الزنى } الآية ، وقوله { أولئك الذين يدعون } الآية ، وقوله { أقم الصلاة } الآية ، وقوله { وآت ذا القربى حقه } الآية . وقيل إلا ثمانيا من قوله { وإن كادوا ليفتنونك } إلى قوله { سلطانا نصيرا } .
وأحسب أن منشأ هاته الأقوال أن ظاهر الأحكام التي اشتملت عليها تلك الأقوال يقتضي أن تلك الآي لا تناسب حالة المسلمين فيما قبل الهجرة فغلبت على ظن أصحاب تلك الأقوال مدنية . وسيأتي بيان أن ذلك غير متجه عند التعرض لتفسيرها .
ويظهر أنها نزلت في زمن فيه جماعة المسلمين بمكة ، وأخذ التشريع المتعلق بمعاملات جماعتهم يتطرق إلى نفوسهم ، فقد ذكرت فيها أحكام متتالية لم تذكر أمثال عددها في سورة مكية غيرها عدا سورة الأنعام ، وذلك من قوله { وقضي ربك ألا تعبدوا إلا إياه } إلى قوله { كل ذلك كان سيئة عند ربك مكروها } .
وقد اختلف في وقت الإسراء . والأصح أنه كان قبل الهجرة بنحو سنة وخمسة أشهر ، فإذا كانت قد نزلت عقب وقوع الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم تكون قد نزلت في حدود سنة اثنتي عشرة بعد البعثة ، وهي سنة اثنتين قبل الهجرة في منتصف السنة .
وليس افتتاحها بذكر الإسراء مقتضيا أنها نزلت عقب وقوع الإسراء . بل يجوز أنها نزلت بعد الإسراء بمدة .
وذكر فيها الإسراء إلى المسجد الأقصى تنويها بالمسجد الأقصى وتذكيرا بحرمته .
نزلت هذه السورة بعد سورة القصص وقبل سورة يونس .
وعدت السورة الخمسين في تعداد نزول سورة القرآن .
وعدد آيها مائة وعشر في عد أهل المدينة ، ومكة ، والشام ، والبصرة . ومائة وإحدى عشرة في عد أهل الكوفة .
العماد الذي أقيمت عليه أغراض هذه السورة إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وإثبات أن القرآن وحي من الله .
ورد مطاعن المشركين فيه وفيمن جاء به ، وأنهم لم يفقهوه فلذلك أعرضوا عنه .
وإبطال إحالتهم أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أسري به إلى المسجد الأقصى . فافتتحت بمعجزة الإسراء توطئة للتنظير بين شريعة الإسلام وشريعة موسى عليه السلام على عادة القرآن في ذكر المثل والنظائر الدينية ، ورمزا إلهيا إلى أن الله أعطى محمدا صلى الله عليه وسلم من الفضائل أفضل مما أعطى من قبله .
وأنه أكمل له الفضائل فلم يفته منها فائت ، فمن أجل ذلك أحله بالمكان المقدس الذي تداولته الرسل من قبل ، فلم يستأثرهم بالحلول بذلك المكان هو مهبط الشريعة الموسوية ، ورمز أطوار تأريخ بني إسرائيل وأسلافهم ، والذي هو نظير المسجد الحرام في أن أصل تأسيسه في عهد إبراهيم كما سننبه عليه عند تفسير قوله تعالى { إلى المسجد الأقصى } ، فأحل الله به محمدا عليه الصلاة والسلام بعد أن هجر وخرب إيماء إلى أن أمته تجدد مجده .
وأن الله مكنه من حرمي النبوة والشريعة ، فالمسجد الأقصى لم يكن معمورا حين نزول هذه السورة وإنما عمرت كنائس حوله ، وأن بني إسرائيل لم يحفظوا حرمة المسجد الأقصى ، فكان إفسادهم سببا في تسلط أعدائهم عليهم وخراب المسجد الأقصى . وفي ذلك رمز إلى أن إعادة المسجد الأقصى ستكون على يد أمة هذا الرسول الذي أنكروا رسالته .
ثم إثبات دلائل تفرد الله بالإلهية ، والاستدلال بآية الليل والنهار وما فيهما من المنن على إثبات الوحدانية .
والتذكير بالنعم التي سخرها الله للناس ، وما فيها من الدلائل على تفرده بتدبير الخلق ، وما تقتضيه من شكر المنعم وترك شكر غيره ، وتنزيهه عن اتخاذ بنات له .
وإظهار فضائل من شريعة الإسلام وحكمته ، وما علمه الله المسلمين من آداب المعاملة نحو ربهم سبحانه ، ومعاملة بعضهم مع بعض ، والحكمة في سيرتهم وأقوالهم ، ومراقبة الله في ظاهرهم وباطنهم .
وعن ابن عباس أنه قال : التوراة كلها في خمس عشرة آية من سورة بني إسرائيل . وفي رواية عنه : ثمان عشرة آية منها كانت في ألواح موسى ، أي من قوله تعالى { لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا } إلى قوله { ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا } .
ويعني بالتوراة الألواح المشتملة على الوصايا العشر ، وليس مراده أن القرآن حكى ما في التوراة ولكنها أحكام قرآنية موافقة لما في التوراة .
على أن كلام ابن عباس معناه : أن ما في الألواح مذكور في تلك الآي ، ولا يريد أنهما سواء ، لأن تلك الآيات تزيد بأحكام ، منها قوله { ربكم أعلم بما في نفوسكم } إلى قوله { لربه كفورا } ، وقوله { ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق } ، وقوله { ولا تقربوا مال اليتيم } إلى قوله { ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة } ، مع ما تخلل ذلك كله من تفصيل وتبيين عريت عنه الوصايا العشر التي كتبت في الألواح .
والحث على إقامة الصلوات في أوقاتها .
والتحذير من نزغ الشيطان وعداوته لآدم وذريته ، وقصة إبايته من السجود .
وذكر ما عرض للأمم من أسباب الاستئصال والهلاك .
وتهديد المشركين بأن الله يوشك أن ينصر الإسلام على باطلهم .
وما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين واستعانتهم باليهود . واقتراحهم الآيات ، وتحميقهم في جهلهم بآية القرآن وأنه الحق .
وتخلل ذلك من المستطردات والنذر والعظات ما فيه شفاء ورحمة ، ومن الأمثال ما هو علم وحكمة .
الافتتاح بكلمة التسبيح من دون سبق كلام مُتضمّنٍ ما يَجب تنزيه الله عنه يؤذن بأن خبراً عجيباً يستقبله السامعون دالاً على عظيم القدرة من المتكلم ورفيع منزلة المتحدث عنه .
فإن جملة التسبيح في الكلام الذي لم يقع فيه ما يوهم تشبيهاً أو تنقيصاً لا يليقان بجلال الله تعالى مثل { سبحان ربك رب العزة عما يصفون } [ الصافّات : 180 ] يتعين أن تكون مستعملة في أكثر من التنزيه ، وذلك هو التعجيب من الخبر المتحدث به كقوله { قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم } [ النور : 16 ] ، وقول الأعشى :
قد قلتُ لما جاءني فخرُه *** سُبْحَان من علقمَةَ الفاخِرِ
ولما كان هذا الكلام من جانب الله تعالى والتسبيح صادراً منه كان المعنى تعجيب السامعين ، لأن التعجب مستحيلة حقيقته على الله لا لأن ذلك لا يلتفت إليه في محامل الكلام البليغ لإمكان الرجوع إلى التمثيل ، مثل مجيء الرجاء في كلامه تعالى نحو { لعلكم تفلحون } [ البقرة : 189 ] ، بل لأنه لا يستقيم تعجب المتكلم من فعل نفسه ، فيكون معنى التعجيب فيه من قبيل قولهم أتعجب من قول فلان كيْت وكيْت .
ووجه هذا الاستعمال أن الأصل أن يكون التسبيح عند ظهور ما يدل على إبطال ما لا يليق بالله تعالى . ولما كان ظهور ما يدل على عظيم القدرة مزيلاً للشك في قدرة الله وللإشراك به كان من شأنه أن يُنطق المتأمل بتسبيح الله تعالى ، أي تنزيهه عن العجز .
وأصل صيغ التسبيح هو كلمة { سبحان الله } التي نُحت منها السبحلة . ووقع التصرف في صيغها بالإضمار نحو سبحانَك وسبحانه ، وبالموصول نحو { سبحان الذي خلق الأزواج كلها } [ يس : 36 ] ومنه هذه الآية .
والتعبير عن الذات العلية بطريق الموصول دون الاسم العلم للتنبيه على ما تفيده صلة الموصول من الإيماء إلى وجه هذا التعجيب والتنويه وسببه ، وهو ذلك الحادث العظيم والعناية الكبرى . ويفيد أن حديث الإسراء أمر فَشا بين القوم ، فقد آمن به المسلمون وأكبَره المشركون .
وفي ذلك إدماج لرفعة قدر محمد وإثباتُ أنه رسول من الله ، وأنه أوتي من دلائل صدق دعوته ما لا قِبل لهم بإنكاره ، فقد كان إسراؤه إطلاعاً له على غائب من الأرض ، وهو أفضل مكان بعد المسجد الحرام .
و{ أسرى } لغة في سَرَى ، بمعنى سار في الليل ، فالهمزة هنا ليست للتعدية لأن التعدية حاصلة بالباء ، بل أسرى فعل مفتح بالهمزة مرادف سَرى ، وهو مثل أبان المرادف بَان ، ومثل أنهج الثوبُ بمعنى نَهَجَ أي بلِيَ ، ف { أسرى بعبده } بمنزلة { ذهب الله بنورهم } [ البقرة : 17 ] .
وللمبرد والسهيلي نكتة في التفرقة بين التعدية بالهمزة والتعدية بالباء بأن الثانية أبلغ لأنها في أصل الوضع تقتضي مشاركة الفاعل المفعولَ في الفعل ، فأصل ( ذهب به ) أنه استصحبه ، كما قال تعالى : { وسار بأهله } [ القصص : 29 ] . وقالت العرب أشبعهم شتماً ، ورَاحوا بالإبل . وفي هذا لطيفة تناسب المقام هنا إذ قال { أسرى بعبده } دون سرّى بعبْدَه ، وهي التلويح إلى أن الله تعالى كان مع رسوله في إسرائه بعنايتهِ وتوفيقه ، كما قال تعالى { فإنك بأعيننا } [ الطور : 48 ] ، وقال : إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا [ التوبة : 40 ] .
فالمعنى : الذي جعل عبده مُسرياً ، أي سارياً ، وهو كقوله تعالى : { فأسر بأهلك بقطع من الليل } [ هود : 81 ] .
وإذ قد كان السُرى خاصاً بسير الليل كان قوله : { ليلاً } إشارة إلى أن السير به إلى المسجد الأقصى كان في جُزء ليلة ، وإلا لم يَكن ذكره إلا تأكيداً ، على أن الإفادة كما يقولون خير من الإعادة .
وفي ذلك إيماء إلى أنه أسراء خارق للعادة لقطع المسافة التي بين مبدأ السير ونهايته في بعض ليلة ، وأيضاً ليتوسل بذكر الليل إلى تنكيره المفيد للتعظيم .
فتنكير { ليلاً } للتعظيم ، بقرينة الاعتناء بذكره مع علمه من فعل { أسرى } ، وبقرينة عدم تعريفه ، أي هو ليل عظيم باعتبار جعله زمناً لذلك السرى العظيم ، فقام التنكير هنا مقام ما يدل على التعظيم . ألا ترى كيف احْتيج إلى الدلالة على التعظيم بصيغة خاصة في قوله تعالى : { إنا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر } [ القدر : 1 2 ] إذ وقعت ليلة القدر غير منكرة{[263]} .
و ( عَبْد ) المضاف إلى ضمير الجلالة هنا هو محمد كما هو مصطلح القرآن ، فإنه لم يقع فيه لفظ العبد مضافاً إلى ضمير الغيبة الراجع إلى الله تعالى إلا مراداً به النبي ؛ ولأن خبر الإسراء به إلى بيت المقدس قد شاع بين المسلمين وشاع إنكاره بين المشركين ، فصار المراد { بعبده } معلوماً .
والإضافة إضافة تشريف لا إضافة تعريف لأن وصف العبودية لله متحقق لسائر المخلوقات فلا تفيد إضافته تعريفاً .
والمسجد الحرام هو الكعبة والفِناء المحيط بالكعبة بمكة المتخذ للعبادة المتعلقة بالكعبة من طواف بها واعتكاف عندها وصلاة .
وأصل المسجد : أنه اسم مكان السجود . وأصل الحرام : الأمر الممنوع ، لأنه مشتق من الحَرْم بفتح فسكون وهو المنع ، وهو يرادف الحرم . فوصف الشيء بالحرام يكون بمعنى أنه ممنوع استعماله استعمالاً يناسبه ، نحو { حرمت عليكم الميتة } [ المائدة : 3 ] أي أكل الميتة ، وقول عنترة :
أي ممنوع قربانها لأنها زوجة أبيه وذلك مذموم بينهم .
ويكون بمعنى الممنوع من أن يعمل فيه عمل ما . ويبين بذكر المتعلق الذي يتعلق به . وقد لا يذكر متعلّقة إذا دل عليه العرف ، ومنه قولهم : { الشهر الحرام } [ البقرة : 194 ] أي الحرام فيه القتال في عرفهم . وقد يحذف المتعلق لقصد التكثير ، فهو من الحذف للتعميم فيَرجع إلى العموم العرفي ، ففي نحو { البيت الحرام } [ المائدة : 2 ] يراد الممنوع من عُدوان المعتدين ، وغزوِ الملوك والفاتحين ، وعملِ الظلم والسوءِ فيه .
والحرام : فَعال بمعنى مفعول ، كقولهم : امرأة حَصان ، أي ممنوعة بعفافها عن الناس .
فالمسجد الحرام هو المكان المعد للسجود ، أي للصلاة ، وهو الكعبة والفناء المجعول حرماً لها . وهو يختلف سعة وضيقاً باختلاف العصور من كثرة الناس فيه للطواف والاعتكاف والصلاة .
وقد بنى قريش في زمن الجاهلية بيوتهم حول المسجد الحرام . وجعل قُصي بقربه دارَ الندوة لقريش وكانوا يجلسون فيها حول الكعبة ، فانحصر لما أحاطت به بيوت عشائر قريش . وكانت كل عشيرة تتخذ بيوتها متجاورة . ومجموع البيوت يسمى شِعباً بكسر الشين . وكانت كل عشيرة تسلك إلى المسجد الحرام من منفذ دُورها ، ولم يكن للمسجد الحرام جدار يُحفظ به . وكانت المسالك التي بين دُور العشائر تسمى أبواباً لأنها يسلك منها إلى المسجد الحرام ، مثل باب بني شيبة ، وباب بني هاشم ، وباب بني مخزوم وهو باب الصفا ، وباب بني سهم ، وباب بني تيم . وربما عُرِف بعض الأبواب بجهة تقرب منه مثل بَاب الصفا ويسمى باب بني مخزوم . وباب الحزورة سمي بمكان كانت به سوق لأهل مكة تسمى الحَزْورة . ولا أدري هل كانت أبواباً تغلق أم كانت منافذ في الفضاء فإن الباب يطلق على ما بين حاجزين .
وأول من جعل للمسجد الحرام جداراً يُحفظ به هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة سبعَ عشرة من الهجرة .
ولُقب بالمسجد لأن إبراهيم عليه الصلاة والسلام جعله لإقامة الصلاة في الكعبة كما حكى الله عنه { ربنا ليقيموا الصلاة } [ إبراهيم : 37 ] . ولما انقرضت الحنيفية وترك أهل الجاهلية الصلاة تناسوا وصفهُ بالمسجد الحرام فصاروا يقولون : البيت الحرام . وأما قول عمر : إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام ، فإنه عبر عنه باسمه في الإسلام .
فغلبَ عليه هذا التعريف التوصيفي فصار له علماً بالغلبة في اصطلاح القرآن . ولا أعرف أنه كان يعرف في الجاهلية بهذا الاسم ، ولا على مسجد بيت المقدس في عصر تحريمه عند بَني إسرائيل . وقد تقدم وجه ذلك عند قوله تعالى : { فول وجهك شطر المسجد الحرام } في [ البقرة : 144 ] ، وعند قوله تعالى : { أن صدوكم عن المسجد الحرام } في أول العقود [ المائدة : 2 ] .
وعلميته بمجموع الوصف والموصوف وكلاهما معَرّف باللام . فالجزء الأول مثل النجم والجزء الثاني مثل الصعِق ، فحصل التعريف بمجموعهما ، ولم يعد النحاةُ هذا النوع في أقسام العلم بالغلبة . ولعلهم اعتبروه راجعاً إلى المعرف باللام . ولا بد من عده لأن علميته صارت بالأمرين .
والمسجد الأقصى هو المسجد المعروف ببيتِ المقدِس الكائن بإيلياء ، وهو المسجد الذي بناه سليمان عليه الصلاة والسلام .
والأقصى ، أي الأبعد . والمراد بعده عن مكة ، بقرينة جعله نهاية الإسراء من المسجد الحرام ، وهو وصف كاشف اقتضاه هنا زيادة التنبيه على معجزة هذا الإسراء وكونه خارقاً للعادة لكونه قطْعَ مسافة طويلة في بعض ليلة .
وبهذا الوصف الوارد له في القرآن صار مجموع الوصف والموصوف علماً بالغلبة على مسجد بيت المقدس كما كان المسجد الحرام علماً بالغلبة على مسجد مكة . وأحسب أن هذا العلم له من مبتكرات القرآن فلم يكن العرب يصفونه بهذا الوصف ولكنهم لما سمعوا هذه الآية فهموا المراد منه أنه مسجد إيلياء . ولم يكن مسجد لدين إلهي غيرهما يومئذٍ .
وفي هذا الوصف بصيغة التفضيل باعتبار أصل وضعها معجزةٌ خفية من معجزات القرآن إيماء إلى أنه سيكون بين المسجدين مسجد عظيم هو مسجد طيبة الذي هو قَصِيٌ عن المسجد الحرام ، فيكون مسجد بيت المقدس أقصى منه حينئذٍ .
فتكون الآية مشيرة إلى جميع المساجد الثلاثة المفضلة في الإسلام على جميع المساجد الإسلامية ، والتي بينها قول النبي : " لا تُشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : مسجد الحرام ، ومسجد الأقصى ، ومسجدي " .
وفائدة ذكر مبدأ الإسراء ونهايته بقوله : { من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصا } أمران :
أحدهما : التنصيص على قطع المسافة العظمية في جزء ليلة ، لأن كلا من الظرف وهو { ليلاً } ومن المجرورين { من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصا } قد تعلق بفعل { أسرى } ، فهو تعلق يقتضي المقارنة ، ليعلم أنه من قبيل المعجزات .
وثانيهما : الإيماء إلى أن الله تعالى يجعل هذا الإسراء رمزاً إلى أن الإسلام جمع ما جاءت به شرائع التوحيد والحنيفية من عهد إبراهيم عليه الصلاة والسلام الصادر من المسجد الحرام إلى ما تفرع عنه من الشرائع التي كان مقرها بيت المقدس ثم إلى خاتمتها التي ظهرت من مكة أيضاً ؛ فقد صدرت الحنيفية من المسجد الحرام وتفرعت في المسجد الأقصى . ثم عادت إلى المسجد الحرام كما عاد الإسراء إلى مكة لأن كل سُرى يعقبه تأويب . وبذلك حصل رد العجز على الصدر .
ومن هنا يظهر مناسبة نزول التشريع الاجماعي في هذه السورة في الآيات المفتتحة بقوله تعالى : { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه } ، ففيها : { ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق } ، { ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن } ، { وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم } [ الإسراء : 23 35 ] إيماء إلى أن هذا الدين سيكون ديناً يحكم في الناس وتنفذ أحكامه .
والمسجد الأقصى هو ثاني مسجد بناه إبراهيم عليه السلام كما ورد ذلك عن النبي . ففي « الصحيحين » عن أبي ذر قال : قلتُ يا رسول الله أي مسجد وُضع في الأرض أولُ ؟ قال المسجدُ الحرام . قلت : ثم أي ؟ قال : المسجد الأقصى . قلت كمْ بينهما ؟ قال أربعون سنة » .
فهذا الخبر قد بين أن المسجد الأقصى من بناء إبراهيم لأنه حُدد بمدة هي من مدة حياة إبراهيم عليه السلام . وقد قُرن ذكره بذكر المسجد الحرام .
وهذا مما أهملَ أهل الكتاب ذكره .
وهو مما خَصّ الله نبيئه بمعرفته . والتوراة تشهد له ، فقد جاء في سفر التكوين في الإصحاح الثاني عشر : أن إبراهيم لما دخل أرض كنعان ( وهي بلاد فلسطين ) نصب خيمته في الجبل شرقي بيت إيل ( بيت إيل مدينة على بعد أحد عشر ميلاً من أورشليم إلى الشمال وهو بلد كان اسمه عند الفلسطينيين ( لوزا ) فسماه يعقوب : بيت إيل ، كما في الإصحاح الثامن والعشرين من سفر التكوين ) وغربي بلاد عاي ( مدينة عبرانية تعرف الآن « الطيبة » ) وبنى هنالك مذبحاً للرب .
وهم يطلقون المذبح على المسجد لأنهم يذبحون القرابين في مساجدهم . قال عمر بن أبي ربيعة :
دُميةٌ عند راهب قسيس *** صوروها في مذبح المحراب
أي مَكانَ المذبح من المسجد ، لأن المحراب هو محل التعبد ، قال تعالى : { وهو قائم يصلي في المحراب } [ آل عمران : 39 ] .
ولا شك أن مسجد إبراهيم هو الموضع الذي توخى داود عليه السلام أن يضع عليه الخيمة وأن يبني عليه محرابه أو أوحى الله إليه بذلك ، وهو الذي أوصى ابنَه سليمان عليه السلام أن يبني عليه المسجدَ ، أي الهيكل . وقد ذكر مؤرخو العبرانيين ومنهم ( يوسيفوس ) أن الجبل الذي سكنه إبراهيم بأرض كنعان اسمه ( نَابو ) وأنه هو الجبل الذي ابتنى عليه سليمان الهيكل وهو المسجد الذي به الصخرة .
وقصة بناء سليمان إياه مفصلة في سفر الملوك الأول من أسفار التوراة .
وقد انتابه التخريب ثلاث مرات :
أولاها : حين خربه بختَنَصّر ملكُ بابل سنة 578 قبل المسيح ثم جدده اليهود تحت حكم الفُرس .
الثانية : خربه الرومان في مدة طيطوس بعد حروب طويلة بينه وبين اليهود وأعيد بناؤه ، فأكمل تخريبَه أدريانوس سنة 135 للمسيح وعفى آثاره فلم تبق منه إلا أطلال .
الثالثة لما تنصرت الملكة هيلانة أم الأنبراطور قسطنطين ملكِ الروم ( بيزنطة ) وصارت متصلبة في النصرانية ، وأشرب قلبُها بُغْض اليهود بما تعتقده من قتلهم المسيح كان مما اعتدت عليه حين زارت أورشليم أن أمرت بتعفية أطلال هيكل سليمان وأن ينقل ما بقي من الأساطين ونحوها فتبني بها كنيسة على قبر المسيح المزعوم عندهم في موضع توسموا أن يكون هو موضع القبر ( والمؤرخون من النصارى يشكون في كون ذلك المكان هو المكان الذي يُدَّعَى أن المسيح دفن فيه ) وأن تسميها كنيسة القيامة ، وأمَرَت بأن يجعل موضعُ المسجد الأقصى مرمَى أزبال البلد وقُماماته فصار موضعُ الصخرة مَزْبلة تراكمت عليها الأزبال فغطتها وانحدرت على درجها .
ولما فتح المسلمون بقية أرض الشام في زمن عمر وجاء عمر بن الخطاب ليشهد فتح مدينة إيلياء{[264]} وهي المعروفة من قبلُ ( أورشليم ) وصارت تسمى إيلياء بكسر الهمزة وكسر اللام وكذلك كان اسمها المعروف عند العرب عندما فتح المسلمون فلسطين . وإيلياء اسم نبيء من بني إسرائيل كان في أوائل القرن التاسع قبل المسيح .
وبيتان بيتُ الله نحن ولاته *** وبيتٌ بأعلى إيلياء مشرَّف
وانعقد الصلح بين عُمر وأهل تلك المدينة وهم نصارى . قال عمر لبطريق لهم اسمه ( صفرونيوس ) « دُلني على مسجد داوود » ، فانطلق به حتى انتهى إلى مكان الباب وقد انحدر الزبل على دَرَج الباب فتجشم عمر حتى دخَل ونظر فقال : الله أكبر ، هذا والذي نفسي بيده مسجدُ داوود الذي أخبرنَا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أُسري به إليه » . ثم أخذ عمر والمسلمون يكنسون الزبل عن الصخرة حتى ظهرت كلها ، ومضى عمر إلى جهة محراب داوود فصلى فيه ، ثم ارتحل من بلد القدس إلى فلسطين .
ولم يَبن هنالك مسجداً إلى أن كان في زمن عبد الملك بن مروان أمر بابتداء بناء القبة على الصخرة وعمارة المسجد الأقصى . ووكل على بنائها رَجاء بن حَيْوَة الكِندي أحد علماء الإسلام ، فابتدأ ذلك سنة ست وستين وكان الفراغ من ذلك في سنة ثلاث وسبعين .
كان عمر أول من صلى فيه من المسلمين وجعل له حرمة المساجد .
ولهذا فتسمية ذلك المكان بالمسجد الأقصى في القرآن تسمية قرآنية اعتبر فيها ما كان عليه من قبل لأن ، حكم المسجدية لا ينقطع عن أرض المسجد . فالتسمية باعتبار ما كان ، وهي إشارة خفية إلى أنه سيكون مسجداً بأكمل حقيقة المساجد .
واستقبله المسلمون في الصلاة من وقت وجوبها المقارن ليلة الإسراء إلى ما بعد الهجرة بستة عشر شهراً . ثم نسخ استقباله وصارت الكعبة هي القبلة الإسلامية .
وقد رأيت أن سائحاً نصرانياً اسمه ( اركولف ) زار القدس سنة 670 م ، أي بعد خلافة عمر بأربع وثلاثين سنة ، وزعم أنه رأى مسجداً بناه عمر على شكل مربع من ألواح وجذوع أشجار ضخمة وأنه يسع نحو ثلاثة آلاف{[265]} .
والظاهر أن نسبة المسجد الأقصى إلى عمر بن الخطاب وهَم من أوهام النصارى اختلط عليهم كشف عمر موضع المسجد فظنوه بناءً . وإذا صدق اركولف فيما ذكر من أنه رأى مكاناً مربعاً من ألواح وعمد أشجار كان ذلك شيئاً أحدثه مسلمو البلاد لصيانة ذلك المكان عن الامتهان .
وقوله { الذي باركنا حوله } صفة للمسجد الأقصى . وجيء في الصفة بالموصولية لقصد تشهير الموصوف بمضمون الصلة حتى كأن الموصوف مشتهر بالصلة عند السامعين . والمقصود إفادة أنه مبارك حوله .
وصيغة المفاعلة هنا للمبالغة في تكثير الفعل ، مثل عافاك الله .
والبركة : نماء الخير والفضل في الدنيا والآخرة بوفرة الثواب للمصلين فيه وبإجابة دعاء الداعين فيه . وقد تقدم ذكر البركة عند قوله تعالى : { مباركاً وهدى للعالمين } في [ آل عمران : 96 ] .
وقد وصف المسجد الحرام بمثل هذا في قوله تعالى : { إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدىً للعالمين } [ آل عمران : 96 ] .
ووجه الاقتصار على وصف المسجد الأقصى في هذه الآية بذكر هذا التبريك أن شهرة المسجد الحرام بالبركة وبكونه مقام إبراهيم معلومة للعرب ؛ وأما المسجد الأقصى فقد تناسى الناس ذلك كله ، فالعرب لا علم لهم به والنصارى عفوا أثره من كراهيتهم لليهود ، واليهود قد ابتعدوا عنه وأيسوا من عوده إليهم ، فاحتيج إلى الإعلام ببركته .
و حولَ يدل على مكان قريب من مكان اسم ما أضيف ( حولَ ) إليه .
وكونُ البركة حولَه كنايةٌ عن حصول البركة فيه بالأوْلى ، لأنها إذا حصلت حوله فقد تجاوزت ما فيه ؛ ففيه لطيفة التلازم ، ولطيفة فحوَى الخطاب ، ولطيفة المبالغة بالتكثير . وقريب منه قول زياد الأعجم :
إنّ السماحةَ والمروءة والندى *** في قبةٍ ضُربت على ابن الحشرج
ولكلمة { حوله } في هذه الآية من حسن الموقع ما ليس لكلمة ( في ) في بيت زياد ، ذلك أن ظرفية ( في ) أعم . فقوله : ( في قبة ) كناية عن كونها في ساكن القبة لكن لا تفيد انتشارها وتجاوزها منه إلى ما حوله .
وأسباب بركة المسجد الأقصى كثيرة كما أشارت إليه كلمة { حوله } . منها أن واضعه إبراهيم عليه السلام ، ومنها ما لحقه من البركة بمن صلى به من الأنبياء من داوود وسليمان ومن بعدهما من أنبياء بني إسرائيل ، ثم بحلول الرسول عيسى عليه السلام وإعلانه الدعوة إلى الله فيه وفيما حوله ، ومنها بركة من دُفن حوله من الأنبياء ، فقد ثبت أن قبري داوود وسليمان حول المسجد الأقصى . وأعظم تلك البركات حلول النبي صلى الله عليه وسلم فيه ذلك الحلول الخارق للعادة ، وصلاته فيه بالأنبياء كلهم .
وقوله : { لنريه من آياتنا } تعليل الإسراء بإرادة إراءة الآيات الربانية ، تعليلٌ ببعض الحِكَم التي لأجلها منح الله نبيئه منحة الإسراء ، فإن للإسراء حِكماً جمة تتضح من حديث الإسراء المروي في « الصحيح » . وأهمها وأجمعها إراءته من آيات الله تعالى ودلائل قدرته ورحمته ، أي لنريه من الآيات فيخبرهم بما سألوه عن وصف المسجد الأقصى .
ولام التعليل لا تفيد حصر الغرض من متعلقها في مدخولها .
وإنما اقتُصر في التعليل على إراءة الآيات لأن تلك العلة أعلق بتكريم المُسرَى به والعناية بشأنه ، لأن إراءة الآيات تزيد يقين الرائي بوجودها الحاصل من قبل الرؤية . قال تعالى : { وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين } [ الأنعام : 75 ] .
فإن فطرة الله جعلت إدراك المحسوسات أثبت من إدراك المدلولات البرهانية . قال تعالى : { وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي } [ البقرة : 260 ] ، ولذلك لم يقل الله بعد هذا التعليل أو لم يطمئن قلبك ، لأن اطمئنان القلب مُتَّسِعُ المدى لا حد له فقد أنطق الله إبراهيم عن حكمة نبوءة ، وقد بادر محمداً بإراءة الآيات قبل أن يسأله إياها توفيراً في الفضل .
قال علي بن حزم الظاهري وأجاد :
ولكن للعيان لطيفُ معنى *** له سأل المعايَنة الكليمُ
واعلم أن تقوية يقين الأنبياء من الحكم الإلهية لأنهم بمقدار قوة اليقين يزيدون ارتقاء على درجة مستوى البشر والتحاقاً بعلوم عالم الحقائق ومساواة في هذا المضمار لمراتب الملائكة .
وفي تغيير الأسلوب من الغيبة التي في اسم الموصول وضميريه إلى التكلم في قوله : باركنا . . . ولنُريه من آياتنا سلوكٌ لطريقة الالتفات المتبعة كثيراً في كلام البلغاء . وقد مضى الكلام على ذلك في قوله تعالى : { إياك نعبد } في [ الفاتحة : 5 ] .
منها : أنه لما استُحضرت الذات العلية بجملة التسبيح وجملة الموصولية صار مقام الغيبة مقام مشاهدة فناسب أن يغير الإضمار إلى ضمائر المشاهدة وهو مقام التكلم .
ومنها : الإيماء إلى أن النبي عليه الصلاة والسلام عند حلوله بالمسجد الأقصى قد انتقل من مقام الاستدلال على عالم الغيب إلى مقام مصيره في عالم المشاهدة .
ومنها : التوطئة والتمهيد إلى محمل معاد الضمير في قوله : { إنه هو السميع البصير } ، فيتبادر عود ذلك الضمير إلى غير من عاد إليه ضمير { نريه } لأن الشأن تناسق الضمائر ، ولأن العود إلى الالتفات بالقرب ليس من الأحسن .
فقوله : { إنه هو السميع البصير } الأظهرُ أن الضميرين عائدان إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقاله بعض المفسرين ، واستقرَبَه الطيبي ، ولكن جمهرة المفسرين على أنه عائد إلى الله تعالى . ولعل احتماله للمعنيين مقصود .
وقد تجيء الآيات محتملة عدّةَ معانٍ . واحتمالها مقصود تكثيراً لمعاني القرآن ، ليأخذ كل منه على مقدار فهمه كما ذكرنا في المقدمة التاسعة . وأياما كان فموقع ( إنّ ) التوكيد والتعليل كما يؤذن به فصل الجملة عما قبلها .
وهي إما تعليل لإسناد فعل { نريه إلى فاعله ؛ وإما تعليل لتعليقه بمفعوله ، فيفيد أن تلك الإراءة من باب الحكمة ، وهي إعطاء ما ينبغي لمن ينبغي ، فهو من إيتاء الحكمة من هو أهلها .
والتعليل على اعتبار مرجع الضمير إلى النبي أوقع ، إذ لا حاجة إلى تعليل إسناد فعل الله تعالى لأنه محقق معلوم . وإنما المحتاج للتعليل هو إعطاء تلك الإراءة العجيبة لمن شك المشركون في حصولها له ومن يحسبون أنه لا يطيقها مثله .
على أن الجملة مشتملة على صيغة قصر بتعريف المسند باللام وبضمير الفصل قصراً مؤكداً ، وهو قصر موصوف على صفة قصراً إضافياً للقلب ، أي هو المدرك لما سمعه وأبصرهُ لا الكاذِبُ ولا المتوهمُ كما زعم المشركون . وهذا القصر يؤيد عود الضمير إلى النبي لأنه المناسب للرد . ولا ينازع المشركون في أن الله سميع وبصير إلا على تأويل ذلك بأنه المُسمع والمبصِر لرسوله الذي كذبتموه ، فيؤول إلى تنزيه الرسول عن الكذب والتوهم .
ثم إن الصفتين على تقدير كونهما للنبيء هما على أصل اشتقاقهما للمبالغة في قوة سمعه وبصره وقبولهما لتلقي تلك المشاهدات المدهشة ، على حد قوله تعالى : { ما زاغ البصر وما طغى }
[ النجم : 17 ] ، وقوله : { أفتمارونه على ما يرى } [ النجم : 12 ] .
وأما على تقدير كونهما صفتين لله تعالى فالمناسب أن تؤولا بمعنى المسمع المبصر ، أي القادر على إسماع عبده وإبصاره ، كما في قول عمرو بن معد يكرب :
وقد اختلف السلف في الإسراء أكان بجسد رسول الله من مكة إلى بيت المقدس أم كان بروحه في رؤيا هي مشاهدة رُوحانية كاملة ورؤيا الأنبياء حق . والجمهور قالوا : هو إسراء بالجسد في اليقظة ، وقالت عائشة ومعاوية والحسن البصري وابن إسحاق رضي الله عنهم أنه إسراء بروحه في المنام ورؤيا الأنبياء وحي .
واستدل الجمهور بأن الامتنان في الآية وتكذيبَ قريش بذلك دليلان على أنه ما كان الإخبار به إلا على أنه بالجسد . واتفق الجميع على أن قريشاً استوصفوا من النبي علامات في بيت المقدس وفي طريقه فوصفها لهم كما هي ، ووصف لهم عيراً لقريش قافلة في طريق معين ويوم معين فوجدوه كما وصف لهم .
ففي « صحيح البخاري » أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " بينما أنا في المسجد الحرام بين النائم واليقظان إذ أتاني جبريل . . . " إلى آخر الحديث . وهذا أصح وأوضح مما روي في حديث آخر أن الإسراء كان من بيته أو كان من بيت أم هاني بنت أبي طالب أو من شعب أبي طالب .
والتحقيق حمل ذلك على أنه إسراء آخر ، وهو الوارد في حديث المعراج إلى السماوات وهو غير المراد في هذه الآية . فللنبيء صلى الله عليه وسلم كرامتان : أولاهما الإسراء وهو المذكور هنا ، والأخرى المعراج وهو المذكور في حديث « الصحيحين » مطولاً وأحاديث غيرِه . وقد قيل : إنه هو المشار إليه في سورة النجم .