في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{أَمۡ كُنتُمۡ شُهَدَآءَ إِذۡ حَضَرَ يَعۡقُوبَ ٱلۡمَوۡتُ إِذۡ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعۡبُدُونَ مِنۢ بَعۡدِيۖ قَالُواْ نَعۡبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ ءَابَآئِكَ إِبۡرَٰهِـۧمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ إِلَٰهٗا وَٰحِدٗا وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ} (133)

124

تلك كانت وصية إبراهيم لبنيه ووصية يعقوب لبنيه . . الوصية التي كررها يعقوب في آخر لحظة من لحظات حياته ؛ والتي كانت شغله الشاغل الذي لم يصرفه عنه الموت وسكراته ، فليسمعها بنو إسرائيل :

( أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت . إذ قال لبنيه : ما تعبدون من بعدي ؟ قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون ) . .

إن هذا المشهد بين يعقوب وبنيه في لحظة الموت والاحتضار لمشهد عظيم الدلالة ، قوي الإيحاء ، عميق التأثير . . ميت يحتضر . فما هي القضية التي تشغل باله في ساعة الاحتضار ؟ ما هو الشاغل الذي يعني خاطره وهو في سكرات الموت ؟ ما هو الأمر الجلل الذي يريد أن يطمئن عليه ويستوثق منه ؟ ما هي التركة التي يريد أن يخلفها لأبنائه ويحرص على سلامة وصولها إليهم فيسلمها لهم في محضر ، يسجل فيه كل التفصيلات ؟ . .

إنها العقيدة . . هي التركة . وهي الذخر . وهي القضية الكبرى ، وهي الشغل الشاغل ، وهي الأمر الجلل ، الذي لا تشغل عنه سكرات الموت وصرعاته :

( ما تعبدون من بعدي ؟ ) . .

هذا هو الأمر الذي جمعتكم من أجله . وهذه هي القضية التي أردت الاطمئنان عليها . وهذه هي الأمانة والذخر والتراث . .

( قالوا : نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق . إلها واحدا . ونحن له مسلمون )

إنهم يعرفون دينهم ويذكرونه . إنهم يتسلمون التراث ويصونونه . إنهم يطمئنون الوالد المحتضر ويريحونه .

وكذلك ظلت وصية إبراهيم لبنيه مرعية في أبناء يعقوب . وكذلك هم ينصون نصا صريحا على أنهم( مسلمون ) .

والقرآن يسأل بني إسرائيل : ( أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت ؟ ) . . فهذا هو الذي كان ، يشهد به الله ، ويقرره ، ويقطع به كل حجة لهم في التمويه والتضليل ؛ ويقطع به كل صلة حقيقية بينهم وبين أبيهم إسرائيل !

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{أَمۡ كُنتُمۡ شُهَدَآءَ إِذۡ حَضَرَ يَعۡقُوبَ ٱلۡمَوۡتُ إِذۡ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعۡبُدُونَ مِنۢ بَعۡدِيۖ قَالُواْ نَعۡبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ ءَابَآئِكَ إِبۡرَٰهِـۧمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ إِلَٰهٗا وَٰحِدٗا وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ} (133)

{ أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت } أم منقطعة ومعنى الهمزة فيها الإنكار ، أي ما كنتم حاضرين إذ حضر يعقوب الموت وقال لبنيه ما قال فلم تدعون اليهودية عليه ، أو متصلة بمحذوف تقديره أكنتم غائبين أم كنتم شاهدين . وقيل : الخطاب للمؤمنين والمعنى ما شاهدتم ذلك وإنما علمتموه بالوحي وقرئ { حضر } بالكسر .

{ إذ قال لبنيه } بدل من { إذ حضر } . { ما تعبدون من بعدي } أي : شيء تعبدونه ، أراد به تقريرهم على التوحيد والإسلام ، وأخذ ميثاقهم على الثبات عليهما ، وما يسأل به عن كل شيء ما لم يعرف ، فإذا عرف خص العقلاء بمن إذا سئل عن تعيينه ، وإن سئل عن وصفه قيل : ما زيد أفقيه أم طبيب ؟ { قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق } المتفق على وجوده وألوهيته ووجوب عبادته ، وعد إسماعيل من آبائه تغليبا للأب والجد ، أو لأنه كالأب لقوله عليه الصلاة والسلام : " عم الرجل صنو أبيه " . كما قال عليه الصلاة والسلام في العباس رضي الله عنه " هذا بقية آبائي " . وقرئ " إله أبيك " ، على أنه جمع بالواو والنون كما قال :

ولما تبين أصواتنا *** بكين وفديننا بالأبينا

أو مفرد وإبراهيم وحده عطف بيان .

{ إلها واحدا } بدل من إله آبائك كقوله تعالى : { بالناصية ناصية كاذبة } . وفائدته التصريح بالتوحيد ، ونفي التوهم الناشئ من تكرير المضاف لتعذر العطف على المجرور والتأكيد ، أو نصب على الاختصاص { ونحن له مسلمون } حال من فاعل نعبد ، أو مفعوله ، أو منهما ، ويحتمل أن يكون اعتراضا .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{أَمۡ كُنتُمۡ شُهَدَآءَ إِذۡ حَضَرَ يَعۡقُوبَ ٱلۡمَوۡتُ إِذۡ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعۡبُدُونَ مِنۢ بَعۡدِيۖ قَالُواْ نَعۡبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ ءَابَآئِكَ إِبۡرَٰهِـۧمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ وَإِسۡحَٰقَ إِلَٰهٗا وَٰحِدٗا وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ} (133)

{ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ }( 133 )

هذا الخطاب لليهود والنصارى الذين انتحلوا الأنبياء صلوات الله عليهم ونسبوهم إلى اليهودية والنصرانية( {[1290]} ) ، فرد الله تعالى عليهم وكذبهم ، وأعلمهم أنهم كانوا على الحنيفية ، والإسلام ، وقال لهم على جهة التقريع والتوبيخ : أشهدتم يعقوب وعلمتم بما أوصى فتدعون عن علم ؟ ، أي( {[1291]} ) لم تشهدوا بل أنتم تفترون ، و { أم } تكون بمعنى ألف الاستفهام في صدر الكلام لغة يمانية( {[1292]} ) ، وحكى الطبري أن { أم } يستفهم بها في وسط كلام قد تقدم صدره ، وهذا منه ، ومنه { أم يقولون افتراه }( {[1293]} ) [ يونس : 38 ، هود : 13 ، 35 ، السجدة : 3 ، الأحقاف : 8 ] ، وقال قوم : { أم } بمعنى بل( {[1294]} ) ، والتقدير بل شهد أسلافكم يعقوب وعلمتم منهم ما أوصى به ، ولكنكم كفرتم جحداً ونسبتموهم إلى غير الحنيفية عناداً ، والأظهر أنها التي بمعنى بل وألف الاستفهام معاً( {[1295]} ) ، و «شهداء » جمع شاهد أي حاضر ، ومعنى الآية حضر يعقوب مقدمات الموت ، وإلا فلو حضر الموت لما أمكن أن يقول شيئاً( {[1296]} ) ، وقدم يعقوب على جهة تقديم الأهم ، والعامل في { إذ } : { شهداء } ، و { إذ قال } بدل من { إذ } الأولى ، وعبر عن المعبود بما تجربة لهم ، ولم يقل من لئلا يطرق لهم الاهتداء( {[1297]} ) ، وإنما أراد أن يختبرهم ، وأيضاً فالمعبودات المتعارفة من دون الله تعالى جمادات كالأوثان والنار والشمس والحجارة فاستفهمهم عما يعبدون من هذه ، و { من بعدي } أي من بعد موتي ، وحكي أن يعقوب عليه السلام حين خير كما يخير الأنبياء اختار الموت ، وقال أمهلوني حتى أوصي بنيَّ وأهلي ، فجمعهم وقال لهم هذا فاهتدوا وقالوا : { نعبد إلهك } الآية ، فأروه ثبوتهم على الدين ومعرفتهم بالله تعالى ، ودخل إسماعيل في الآباء لأنه عمٌّ . ( {[1298]} )

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في العباس : «ردوا علي أبي ، إني أخاف أن تفعل به قريش ما فعلت ثقيف بعروة بن مسعود »( {[1299]} ) .

وقال عنه في موطن آخر : «هذا بقية آبائي »( {[1300]} ) ، ومنه قوله عليه السلام : «أنا ابن الذبيحين »( {[1301]} ) على القول الشهير في إن إسحاق هو الذبيح( {[1302]} ) .

وقرأ الحسن وابن يعمر والجحدري وأبو رجاء «وإله أبيك » ، واختلف بعد فقيل هو اسم مفرد أرادوا به إبراهيم وحده ، وقال بعضهم : هو جمع سلامة ، وحكى سيبويه أب وأبون وأبين . قال الشاعر( {[1303]} ) : [ زياد بن واصل السلمي ] : [ المتقارب ] :

فلمّا تبيَّنَّ أصواتنا . . . بكينَ وَفَدَّيْنَنَا بالأبينا

وقال ابن زيد : يقال قدم إسماعيل لأنه أسن من إسحاق و { إلهاً } بدل من { إلهك }( {[1304]} ) ، وكرره لفائدة الصفة بالوحدانية( {[1305]} ) ، وقيل { إلهاً } حال ، وهذا قول حسن ، لأن الغرض إثبات حال الوحدانية ، { نحن له مسلمون } ابتداء وخبر ، أي كذلك كنا نحن ونكون ، ويحتمل أن يكون في موضع الحال والعامل { نعبد } ، والتأويل الأول أمدح( {[1306]} ) .


[1290]:- تفسير لقوله: انتحلوا الأنبياء.
[1291]:- وفي بعض النسخ: أم لم تشهدوا؟
[1292]:- استغرب أبو حيان رحمه الله هذا القول، كما استغرب ما حكاه عن الطبري من أنه يستفهم بها في وسط كلام قد تقدم صدره، والحق أن (أم) هنا منقطعة كما سيأتي عن ابن عطية نفسه في قوله: والأظهر أنها التي بمعنى (بل) وألف الاستفهام معا. والمنقطعة لا تجيء إلا وقد تقدمها كلام كأنه قيل: بل أكنتم شهداء؟ والهمزة للإنكار، أي ما كنتم شهداء، وإنما كان اللفظ على الاستفهام والمعنى على خلافه لأن ذلك أبلغ، إذ يخرج الكلام مخرج التقدير بالحق فتلزم الحجة، أو الإنكار، فتظهر الفضيحة.
[1293]:- من الآية 35 من سورة هود.
[1294]:- يشير إلى إنها للإضراب فقط بمعنى (بل).
[1295]:- [أم كنتم شهداء] أم منقطعة، والمنقطعة تقدر ببل وهمزة الاستفهام، وبعضهم يقدرها ببل وحدها، والإضراب انتقالي لا إبطالي،و معنى الاستفهام الإنكار والتوبيخ فيئول معناه إلى النفي، أي لم تكونوا شهداء وحاضرين إذ حضر يعقوب الموت وقال لبنيه ما قال فلم تدعون اليهودية عليه؟ و(إذا)، الثانية بدل من الأولى أو ظرف لحضر، وقيل: متصلة بمحذوف تقديره: أكنتم غائبين أم كنتم شهداء؟
[1296]:- كما جرت العادة.
[1297]:- يعني أنه أراد بذلك أن يختبرهم، ولذا عبر بما أيْ أيَّ شيء تعبدونه بعد موتي، ولو قيل من لكان المقصود أن يطرق لهم الاهتداء، والغاية من سؤاله تقريرهم على التوحيد والإسلام وأخذ ميثاقهم على الثبات عليهما.
[1298]:- والعرب تسمى العم أبا كما تسمى الجد أبا.
[1299]:- أخرجه ابن أبي شيبة في المغازي، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما وادع أهل مكة انطلق العباس إل قريش ليدعوهم إلى الله فأبطأ عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ردوا علي أبي، فإن عم الرجل صنو أبيه، وإني أخاف أن تفعل به قريش ما فعلت ثقيف بعروة ابن مسعود، دعاهم إلى الله فقتلوه، أنا والله لئن ركبوها منه لأضرمنها عليهم نارا)
[1300]:- رواه ابن شيبة، والطبراني في الأوسط والكبير فقط: (احفظوني في العباس فإنه بقية آبائي).
[1301]:- هو حديث ضعيف، بل قال العراقي –كما في روح المعاني-: لم أقف عليه، وإنما سمي بذلك لأن جده عبد المطلب لزمه ذبح ولده عبد الله لنذر نذره فقداه بمائة من الإبل فكان ذلك سنة، في الدية، كما كانت قضية إسماعيل سنة في التضحية.
[1302]:- لا يوجد موضع صحيح من السنة يعتمد عليه في هذه القضية، وإنما هي إيحاءات واستنباطات من الكتاب العزيز، ومن ثم رجح جماعة من الصحابة والتابعين أنه إسماعيل، ورجح آخرون أنه إسحق، ومن أجل تعارض الأدلة توقف الجلال في الجزم بواحد منهما. وقد قال المسعودي في تاريخه الكبير: إن كان الذبيح بمنى فهو إسماعيل، لأن إسحق لم يدخل الحجاز، وإن كان بالشام فهو إسحق لأن إسماعيل لم يدخل الشام بعد حمله إلى مكة، وصوبه ابن الجوزي.
[1303]:- هو زياد بن واصل السلمي، قال هذا في جملة أبيات يفتخر فيها بآبائه وقومه وأمهاتهم من بني عامر، والبيت من شواهد كتاب سيبويه، يقول: لما تبين النساء أصواتنا في الحرب بكين شفقة علينا ورحمة لنا وفديننا، أي كل واحدة تقول: فداكم أبي، والأبينا جمع أب، بُعَرَبُ إعراب جمع التصحيح.
[1304]:- أي بدل نكرة موصوفة من معرفة كقوله تعالى: (بالناصية، ناصية كاذبة خاطئة).
[1305]:- وفي بعض النسخ: لإفادة.
[1306]:- وهو أن تكون الجملة معطوفة على قوله: (نعبد)، فيكون الجواب قد أربى على السؤال، أجابوا عن سؤاله وأكدوا الجواب بقولهم: (ونحن له مسلمون).