ثم يبين حكم القتال في الأشهر الحرم كما بين حكمه عند المسجد الحرام :
( الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص . فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ، واتقوا الله ، واعلموا أن الله مع المتقين ) . .
فالذي ينتهك حرمة الشهر الحرام جزاؤه أن يحرم الضمانات التي يكفلها له الشهر الحرام . وقد جعل الله البيت الحرام واحة للأمن والسلام في المكان ؛ كما جعل الأشهر الحرم واحة للأمن والسلام في الزمان . تصان فيها الدماء ، والحرمات والأموال ، ولا يمس فيها حي بسوء . فمن أبى أن يستظل بهذه الواحة وأراد أن يحرم المسلمين منها ، فجزاؤه أن يحرم هو منها . والذي ينتهك الحرمات لا تصان حرماته ، فالحرمات قصاص . . ومع هذا فإن إباحة الرد والقصاص للمسلمين توضع في حدود لا يعتدونها . فما تباح هذه المقدسات إلا للضرورة وبقدرها :
( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ) . .
بلا تجاوز ولا مغالاة . . والمسلمون موكولون في هذا إلى تقواهم . وقد كانوا يعلمون - كما تقدم - أنهم إنما ينصرون بعون الله . فيذكرهم هنا بأن الله مع المتقين . بعد أمرهم بالتقوى . . وفي هذا الضمان كل الضمان . .
{ الشهر الحرام بالشهر الحرام } قاتلهم المشركون عام الحديبية في ذي القعدة واتفق خروجهم لعمرة القضاء فيه ، وكرهوا أن يقاتلوهم فيه لحرمته فقيل لهم هذا الشهر بذاك وهتكه بهتكه فلا تبالوا به . { والحرمات قصاص } احتجاج عليه ، أي كل حرمة وهو ما يجب أن يحافظ عليها يجري فيها القصاص . فلما هتكوا حرمة شهركم بالصد فافعلوا بهم مثله ، وادخلوا عليهم عنوة واقتلوهم إن قاتلوكم . كما قال : { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } وهو فذلكة التقرير . { واتقوا الله } في الأنصار { ولا تعتدوا } إلى ما لم يرخص لكم . { واعلموا أن الله مع المتقين } فيحرسهم ويصلح شأنهم .
{ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } ( 194 )
وقوله تعالى : { الشهر الحرام بالشهر الحرام } الآية ، قال ابن عباس ومجاهد ومقسم( {[1789]} ) والسدي والربيع والضحاك وغيرهم : نزلت في عمرة القضاء( {[1790]} ) وعام الحديبية ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج معتمراً حتى بلغ الحديبية سنة ست ، فصده كفار قريش عن البيت ، فانصرف ووعده الله أنه سيدخله عليهم ، فدخله سنة سبع ، فنزلت الآية في ذلك ، أي الشهر الحرام الذي غلبكم الله فيه وأدخلكم الحرم عليهم بالشهر الحرام الذي صدوكم فيه ، ومعنى { الحرمات قصاص } على هذا التأويل : أي حرمة الشهر وحرمة البلد وحرمة المحرمين حين صددتم بحرمة البلد الشهر والقطان حين دخلتم .
وقال الحسن بن أبي الحسن : نزلت الآية في أن الكفار سألوا النبي صلى الله عليه وسلم هل يقاتل في الشهر الحرام ؟ فأخبرهم أنه لا يقاتل فيه ، فهموا بالهجوم عليه فيه وقتل من معه حين طمعوا أنه لا يدافع فيه ، فنزلت : { الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص } ، أي هو عليكم في الامتناع من القتال أو الاستباحة بالشهر الحرام عليهم في الوجهين ، فأية( {[1791]} ) سلكوا فاسلكوا ، و { الحرمات } على هذا جمع حرمة عموماً : النفس والمال والعرض وغير ذلك( {[1792]} ) ، فأباح الله بالآية مدافعتهم . والقول الأول أكثر( {[1793]} ) .
وقالت فرقة : قوله : { والحرمات قصاص } مقطوع مما قبله( {[1794]} ) ، وهو ابتداء أمر كان في أول الإسلام أن من انتهك حرمتك( {[1795]} ) نلت منه مثل ما اعتدى عليك به ، ثم نسخ ذلك بالقتال .
وقالت طائفة : ما تناول من الآية التعدي بين أمة محمد والجنايات ونحوها لم ينسخ ، وجائز لمن تعدي عليه في مال أو جرح أن يتعدى بمثل ما تعدي عليه به إذا خفي( {[1796]} ) ذلك له ، وليس بينه وبين الله في ذلك شيء ، قاله الشافعي وغيره ، وهي رواية في مذهب مالك( {[1797]} ) .
وقالت طائفة منهم مالك : ليس ذلك له( {[1798]} ) ، وأمور القصاص وقف على الحكام( {[1799]} ) ، والأموال يتناولها قول النبي صلى الله عليه وسلم «أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك ، ولا تخن من خانك »( {[1800]} ) .
وقرأ الحسن بن أبي الحسن «والحرْمات » بسكون الراء .
وقوله تعالى : { فمن اعتدى عليكم } الآية ، اختلف في نسخ هذه الآية حسبما تقدم ، وسمي الجزاء على العدوان عدواناً كما قال { الله يستهزىء بهم } [ البقرة : 15 ] إلى غير ذلك( {[1801]} ) ، { واتقوا الله } ، قيل : معناه في أن لا تعتدوا ، وقيل : في أن لا تزيدوا على المثل .
وقال ابن عباس : «نزلت هذه الآية وما هو في معناها بمكة والإسلام لم يعزَّ فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعز دينه أمر المسلمون برفع أمورهم إلى حكامهم وأمروا بقتال الكفار( {[1802]} ) » .
وقال مجاهد : «بل نزلت هذه الآية بالمدينة بعد عمرة القضاء ، وهي من التدريج في الأمر بالقتال » .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.