فأما الآية الخاصة بالحلف والأيمان والتي جاءت تالية في السياق :
( لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ، ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان ، فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة ، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام . ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم . واحفظوا أيمانكم . كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون ) . .
فالظاهر أنها نزلت لمواجهة هذه الحالة - وأمثالها - من الحلف على الامتناع عن المباح الذي آلى أولئك النفر على أنفسهم أن يمتنعوا عنه ، فردهم رسول الله [ ص ] عن الامتناع عنه ، وردهم القرآن الكريم عن مزاولة التحريم والتحليل بأنفسهم ، فهذا ليس لهم إنما هو لله الذي آمنوا به . كما أنها تواجه كل حلف على الامتناع عن خير أو الإقدام على شر . فكل يمين يرى صاحبها أن هناك ما هو أبر ، فعليه أن يفعل ما هو أبر ، ويكفر عن يمينه بالكفارات المحددة في هذه الآية .
قال ابن عباس : سبب نزولها : القوم الذين حرموا طيبات المطاعم والملابس والمناكح على أنفسهم . حلفوا على ذلك . فلما نزلت ( لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ) قالوا : كيف نصنع بأيماننا ( فنزلت هذه الآية ) .
وقد تضمن الحكم أن الله - سبحانه - لا يؤاخذ المسلمين بأيمان اللغو ، التي ينطق بها اللسان دون أن يعقد لها القلب بالنية والقصد مع الحض على عدم ابتذال الأيمان بالإكثار من اللغو بها إذ أنه ينبغي أن تكون لليمين بالله حرمتها ووقارها ، فلا تنطق هكذا لغوا . .
فأما اليمين المعقودة ، التي وراءها قصد ونية ، فإن الحنث بها يقتضي كفارة تبينها هذه الآية :
( فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم ، أو تحرير رقبة ، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام . ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم ) .
وطعام المساكين العشرة من( أوسط )الطعام الذي يقوم به الحالف لأهله . . و( أوسط )تحتمل أن تكون من " أحسن " أو من " متوسط " فكلاهما من معاني اللفظ . وإن كان الجمع بينهما لا يخرج عن القصد لأن " المتوسط " هو " الأحسن " فالوسط هو الأحسن في ميزان الإسلام . . أو( كسوتهم )الأقرب أن تكون كذلك من ( أوسط ) الكسوة . . أو ( تحرير رقبة ) لا ينص هنا على أنها مؤمنة . . ومن ثم يرد بشأنها خلاف فقهي ليس هذا مكانه . . ( فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ) . . وهي الكفارة التي يعاد إليها في اليمين المعقودة عند عدم استطاعة الكفارات الأخرى . . وكون هذه الأيام الثلاثة متتابعة أو غير متتابعة فيه كذلك خلاف فقهي بسبب عدم النص هنا على تتابعها . والخلافات الفقهية في هذه الفرعيات ليست من منهجنا في هذه الظلال . فمن أرادها فليطلبها في مواضعها في كتب الفقه . إذ أنها كلها تتفق على الأصل الذي يعنينا وهو أن الكفارة رد لاعتبار العقد المنقوض ، وحفظ للإيمان من الإستهانة بها ؛ وهي " عقود " وقد أمر الله - سبحانه - بالوفاء بالعقود . فإذا عقد الإنسان يمينه وكان هناك ما هو أبر فعل الأبر وكفر عن اليمين . وإذا عقدها على غير ما هومن حقه كالتحريم والتحليل ، نقضها وعليه التكفير .
ونعود بعد ذلك إلى الموضوع الأصيل الذي نزلت الآيات بسببه . . فأما من ناحية " خصوص السبب " فإن الله يبين أن ما أحله الله فهو الطيب ، وما حرمه فهو الخبيث . وأن ليس للإنسان أن يختار لنفسه غير ما اختاره الله له . من وجهين : الوجه الأول أن التحريم والتحليل من خصائص الله الرازق بما يجري فيه التحليل والتحريم من الرزق ، وإلا فهو الاعتداء الذي لا يحبه الله ، ولايستقيم معه إيمان . . والوجه الثاني أن الله يحل الطيبات ، فلا يحرم أحد على نفسه تلك الطيبات ، التي بها صلاحه وصلاح الحياة ؛ فإن بصره بنفسه وبالحياة لن يبلغ بصر الحكيم الخبير الذي أحل هذه الطيبات . ولو كان الله يعلم فيها شرا أو أذى لوقاه عباده . ولو كان يعلم في الحرمان منها خيرا ما جعلها حلالا . . ولقد جاء هذا الدين ليحقق الخير والصلاح ، والتوازن المطلق ، والتناسق الكامل ، بين طاقات الحياة البشرية جميعا ، فهو لا يغفل حاجة من حاجات الفطرة البشرية ؛ ولا يكبت كذلك طاقة بناءة من طاقات الإنسان ، تعمل عملا سويا ، ولا تخرج عن الجادة . ومن ثم حارب الرهبانية ، لأنها كبت للفطرة ، وتعطيل للطاقة وتعويق عن إنماء الحياة التي أراد الله لها النماء ، كما نهى عن تحريم الطيبات كلها لأنها من عوامل بناء الحياة ونموها وتجددها . . لقد خلق الله هذه الحياة لتنمو وتتجدد ، وترتقي عن طريق النمو والتجدد المحكومين بمنهج الله . والرهبانية وتحريم الطيبات الأخرى تصطدم مع منهج الله للحياة . لأنها تقف بها عند نقطة معينة بحجة التسامي والارتفاع . والتسامي والارتفاع داخلان في منهج الله للحياة ، وفق المنهج الميسر المطابق للفطرة كما يعلمها الله .
وخصوص السبب - بعد هذا - لا يقيد عموم النص . وهذا العموم يتعلق بقضية الألوهية والتشريع - كما أسلفنا - وهي قضية لا تقتصر على الحلال والحرام في المآكل والمشارب والمناكح . إنما هو أمر حق التشريع لأي شأن من شئون الحياة . .
ونحن نكرر هذا المعنى ونؤكده ؛ لأن طول عزلة الإسلام عن أن يحكم الحياة - كما هو شأنه وحقيقته - قد جعل معاني العبارة تتقلص ظلالها عن مدى الحقيقة التي تعنيها في القرآن الكريم وفي هذا الدين . ولقد جعلت كلمة " الحلال " وكلمة " الحرام " يتقلص ظلهما في حس الناس ، حتى عاد لا يتجاوز ذبيحة تذبح ، أو طعاما يؤكل ، أو شرابا يشرب ، أو لباسا يلبس ، أو نكاحا يعقد . . فهذه هي الشئون التي عاد الناس يستفتون فيها الإسلام ليروا : حلال هي أم حرام ! فأما الأمور العامة والشئون الكبيرة فهم يستفتون في شأنها النظريات
والدساتير والقوانين التي استبدلت بشريعة الله ! فالنظام الاجتماعي بجملته ، والنظام السياسي بجملته ، والنظام الدولي بجملته ؛ وكافة اختصاصات الله في الأرض وفي حياة الناس ، لم تعد مما يستفتى فيه الإسلام !
والإسلام منهج للحياة كلها . من اتبعه كله فهو مؤمن وفي دين الله . ومن اتبع غيره ولو في حكم واحد فقد رفض الإيمان واعتدى على ألوهية الله ، وخرج من دين الله . مهما أعلن أنه يحترم العقيدة وأنه مسلم . فاتباعه شريعة غير شريعة الله ، يكذب زعمه ويدمغه بالخروج من دين الله .
وهذه هي القضية الكلية التي تعنيها هذه النصوص القرآنية ، وتجعلها قضية الإيمان بالله ، أو الاعتداء على الله . . وهذا هو مدى النصوص القرآنية . وهو المدى اللائق بجدية هذا الدين وجدية هذا القرآن ، وجدية معنى الألوهية ومعنى الإيمان
{ لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم } هو ما يبدو من المرء بلا قصد كقول الرجل : لا والله وبلى والله ، وإليه ذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه ، وقيل الحلف على ما يظن أنه كذلك ولم يكن ، وإليه ذهب أبو حنيفة رحمه الله تعالى وفي أيمانكم صلة يؤاخذكم أو اللغو لأنه مصدر أو حال منه . { ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان } بما وثقتم الأيمان عليه بالقصد والنية ، والمعنى ولكن يؤاخذكم بما عقدتم إذا حنثتم أو بنكث ما عقدتم فحذف للعلم به وقرأ حمزة والكسائي وابن عياش عن عاصم { عقدتم } بالتخفيف ، وابن عامر برواية ابن ذكوان " عاقدتم " وهو من فاعل بمعنى فعل . { فكفارته } فكفارة نكثه أي الفعلة التي تذهب اثمه وتستره ، واستدل بظاهره على جواز التكفير بالمال قبل الحنث وهو عندنا خلافا للحنفية لقوله عليه الصلاة والسلام " من حلف على يمين ورأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير " . { إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم } من أقصده في النوع أو القدر ، وهو مد لكل مسكين عندنا ونصف صاع عند الحنفية ، وما محله النصب لأنه صفة مفعول محذوف تقديره : أن تطعموا عشرة مساكين طعاما من أوسط ما تطعمون ، أو الرفع على البدل من إطعام ، وأهلون كأرضون . وقرئ " أهاليكم " بسكون الياء على لغة من يسكنها في الأحوال الثلاث كالألف ، وهو جمع أهل كالليالي في جمع ليل والأراضي في جمع أرض . وقيل هو جمع اهلاة . { أو كسوتهم } عطف على إطعام أو من أوسط إن جعل بدلا وهو ثوب يغطي العورة . وقيل ثوب جامع قميص أو رداء أو إزار . وقرئ بضم الكاف وهو لغة كقدوة في قدوة وكأسوتهم بمعنى أو كمثل ما تطعمون أهليكم إسرافا كان أو تقتيرا تواسون بينهم وبينهم إن لم تطعموهم الأوسط ، والكاف في محل الرفع وتقديره : أو إطعامهم كأسوتهم . { أو تحرير رقبة } أو إعتاق إنسان ، وشرط الشافعي رضي الله تعالى عنه في الأيمان قياسا على كفارة القتل ، ومعنى أو إيجاب إحدى الخصال الثلاث مطلقا وتخيير المكفر في التعيين { فمن لم يجد } أي واحدا منها . { فصيام ثلاثة أيام } فكفارته صيام ثلاثة أيام ، وشرط فيه أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه التتابع لأنه قرئ " ثلاثة أيام متتابعات " ، والشواذ ليست بحجة عندنا إذا لم تثبت كتابا ولم ترو سنة . { ذلك } أي المذكور . { كفارة أيمانكم إذا حلفتم } وحنثتم . { واحفظوا أيمانكم } بأن تضنوا بها ولا تبذلوها لكل أمر ، أو بأن تبروا فيها ما استطعتم ولم يفت بها خير ، أو بأن تكفروها إذا حنثتم . { كذلك } أي مثل ذلك البيان . { يبين الله لكم آياته } أعلام شرائعه . { لعلكم تشكرون } نعمة التعليم أو نعمة الواجب شكرها فإن مثل هذا التبيين يسهل لكم المخرج منه .