في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{أَمۡ يَقُولُونَ ٱفۡتَرَىٰهُۚ بَلۡ هُوَ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوۡمٗا مَّآ أَتَىٰهُم مِّن نَّذِيرٖ مِّن قَبۡلِكَ لَعَلَّهُمۡ يَهۡتَدُونَ} (3)

( أم يقولون : افتراه ? ) . .

ولقد قالوها فيما زعموه متعنتين . ولكن السياق هنا يصوغ هذا القول في صيغة المستنكر لأن يقال هذا القول أصلا : ( أم يقولون : افتراه ? ) . . هذه القولة التي لا ينبغي أن تقال ؛ فتاريخ محمد [ صلى الله عليه وسلم ] فيهم ينفي هذه الكلمة الظالمة من جهة ؛ وطبيعة هذا الكتاب ذاتها تنفيه أصلا ، ولا تدع مجالا للريب والتشكك :

( بل هو الحق من ربك ) . .

الحق . . بما في طبيعته من صدق ومطابقة لما في الفطرة من الحق الأزلي ؛ وما في طبيعة الكون كله من هذا الحق الثابت ، المستقر في كيانه ، الملحوظ في تناسقه ، واطراد نظامه ، وثبات هذا النظام ، وشموله وعدم تصادم أجزائه ، أو تناثرها ، وتعارف هذه الأجزاء وتلاقيها .

الحق . . بترجمته لنواميس هذا الوجود الكبير ترجمة مستقيمة ؛ وكأنما هو الصورة اللفظية المعنوية لتلك النواميس الطبيعية الواقعية العاملة في هذا الوجود .

الحق . . بما يحققه من اتصال بين البشر الذين يرتضون منهجه وهذا الكون الذي يعيشون فيه ونواميسه الكلية ، وما يعقده بينهم وبين قوى الكون كله من سلام وتعاون وتفاهم وتلاق . حيث يجدون أنفسهم في صداقة مع كل ما حولهم من هذا الكون الكبير .

الحق . . الذي تستجيب له الفطرة حين يلمسها إيقاعه ، في يسر وسهولة ، وفي غير مشقة ولا عنت . لأنه يلتقي بما فيها من حق أزلي قديم .

الحق . . الذي لا يتفرق ولا يتعارض وهو يرسم منهاج الحياة البشرية كاملا ؛ ويلحظ في هذا المنهاج كل قواها وكل طاقاتها ، وكل نزعاتها وكل حاجاتها ، وكل ما يعتورها من مرض أو ضعف أو نقص أو آفة ، تدرك النفوس وتفسد القلوب .

الحق . . الذي لا يظلم أحدا في دنيا أو آخرة . ولا يظلم قوة في نفس ولا طاقة . ولا يظلم فكرة في القلب أو حركة في الحياة ، فيكفها عن الوجود والنشاط ، ما دامت متفقة مع الحق الكبير الأصيل في صلب الوجود .

( بل هو الحق من ربك ) . . فما هو من عندك ، إنما هو من عند ربك . وهو رب العالمين كما قال فيالآية السابقة ؛ إنما هذه الإضافة هنا للتكريم . تكريم الرسول الذي يتهمونه بالافتراء . وإلقاء ظلال القربى بينه وبين ربه رب العالمين . ردا على الاتهام الأثيم . وتقريرا للصلة الوثيقة التي تحمل مع معنى التكريم معنى وثاقة المصدر وصحة التلقي . وأمانة النقل والتبليغ .

( لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك ، لعلهم يهتدون ) . .

والعرب الذين أرسل إليهم محمد [ صلى الله عليه وسلم ] لم يرسل إليهم أحد قبله ؛ ولا يعرف التاريخ رسولا بين إسماعيل - عليه السلام - جد العرب الأول وبين محمد [ صلى الله عليه وسلم ] وقد نزل الله عليه هذا الكتاب الحق ، لينذرهم به . ( لعلهم يهتدون )فهدايتهم مرجوة بهذا الكتاب ، لما فيه من الحق الذي يخاطب الفطر والقلوب .

 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{أَمۡ يَقُولُونَ ٱفۡتَرَىٰهُۚ بَلۡ هُوَ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوۡمٗا مَّآ أَتَىٰهُم مِّن نَّذِيرٖ مِّن قَبۡلِكَ لَعَلَّهُمۡ يَهۡتَدُونَ} (3)

ولما كان هذا{[54454]} الذي قدمه أول السورة على هذا الوجه برهاناً ساطعاً ودليلاً قاطعاً على أن هذا{[54455]} الكتاب من عند الله ، كان - كما حكاه البغوي{[54456]} والرازي في اللوامع - كأنه قيل : هل آمنوا به ؟ { أم يقولون } مع ذلك الذي لا يمترئ{[54457]} فيه عاقل { افتراه } أي تعمد كذبه .

ولما كان الجواب : إنهم ليقولون : افتراه ، وكان جوابه{[54458]} : ليس هو مفتري لما هو مقارن له من الإعجاز ، ترتب عليه قوله : { بل هو الحق } أي الثابت ثباتاً لا يضاهيه ثبات شيء من الكتب قبله ، كائناً { من ربك } المحسن إليك بإنزاله وإحكامه ، وخصه بالخطاب إشارة إلى{[54459]} أنه لا يفهم حقيقته حق الفهم سواه .

ولما ذكر سبحانه إحسانه إليه صلى الله عليه وسلم صريحاً ، أشار بتعليله إلى إحسانه به{[54460]} أيضاً إلى كافة العرب ، فقال مفرداً النذارة لأن المقام {[54461]}له بمقتضى{[54462]} ختم لقمان : { لتنذر قوماً } أي ذوي{[54463]} قوة جلد ومنعة وصلاحية للقيام بما أمرهم به { ما أتاهم من نذير } أي رسول في هذه الأزمان القريبة لقول ابن عباس رضي الله عنهما{[54464]} ان المراد الفترة ، ويؤيده إثبات الجار في قوله : { من قبلك } أي بالفعل شاهدوه أو شاهده آباؤهم . وإما بالمعنى والقوة فقد كان فيهم دين إبراهيم عليه السلام إلى أن غيّره عمرو بن لحي ، وكلهم كان يعرف ذلك وأن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لم يعبد صنماً ولا استقسم بالأزلام ، وذلك {[54465]}كما قال{[54466]} تعالى : وإن من أمة إلا خلا فيها نذير }{[54467]}[ فاطر : 24 ] أي شريعته ودينه ، والنذير ليس مخصوصاً بمن باشر - نبه على ذلك أبو حيان{[54468]} . ويمكن{[54469]} أن يقال : ما أتاهم من ينذرهم على خصوص ما غيروا من دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، وأما إسماعيل ابنه عليه السلام فكان{[54470]} بشيراً لا نذيراً ، لأنهم ما خالفوه ، وأحسن من ذلك كله ما نقله البغوي عن ابن عباس رضي الله عنهما ومقاتل أن ذلك في الفترة التي كانت بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم ، فإنه قد نقل عيسى عليه السلام لما أرسل رسله{[54471]} إلى الآفاق أرسل إلى العرب رسولاً .

ولما ذكر علة الإنزال ، أتبعها علة الإنذار فقال : { لعلهم يهتدون* } أي ليكون حالهم في مجاري العادات حال من ترجى هدايته إلى كمال الشريعة ، وأما التوحيد فلا عذر لأحد فيه بما{[54472]} أقامه الله من حجة العقل مع ما أبقته الرسل عليهم الصلاة والسلام آدم فمن بعده من واضح النقل بآثار دعواتهم{[54473]} وبقايا دلالاتهم{[54474]} ، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن أبيه : " أبي وأبوك في النار{[54475]} " وقال : " لا تفتخروا بآبائكم الذين مضوا في الجاهلية فوالذي نفسي بيده لما تدحرج الجعل خير منهم{[54476]} " في غير هذا من الأخبار القاضية بأن كل من مات قبل دعوته على الشرك فهو للنار{[54477]}


[54454]:زيد من ظ.
[54455]:زيد من ظ.
[54456]:راجع معالم التنزيل بهامش لباب التأويل 5/183.
[54457]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: لا يجتري.
[54458]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: الجواب.
[54459]:سقط من ظ.
[54460]:زيد من ظ وم ومد.
[54461]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: لما يقتضي.
[54462]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: لما يقتضي.
[54463]:في ظ: ذي.
[54464]:راجع معالم التنزيل بهامش لباب التأويل 5/183.
[54465]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: قوله.
[54466]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: قوله.
[54467]:سورة 35 آية 24.
[54468]:راجع البحر المحيط 7/197.
[54469]:زيد في الأصل: لما، ولم تكن الزيادة في ظ وم ومد فحذفناها.
[54470]:في ظ وم ومد: فقد كان.
[54471]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: رسوله.
[54472]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: مما.
[54473]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: دعواهم.
[54474]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: دلالتهم.
[54475]:راجع مسالك الحنفاء للسيوطي 15، وأصل الرواية عند مسلم.
[54476]:راجع مسند الإمام أحمد 1/301.
[54477]:بهامش م: رواه الطيالسي عن ابن عباس رضي الله عنهما.