اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{أَمۡ يَقُولُونَ ٱفۡتَرَىٰهُۚ بَلۡ هُوَ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوۡمٗا مَّآ أَتَىٰهُم مِّن نَّذِيرٖ مِّن قَبۡلِكَ لَعَلَّهُمۡ يَهۡتَدُونَ} (3)

قوله : { أَمْ يَقُولُونَ } هي المنقطعة ، والإضراب للانتقال لا للإبطال ، وقيل : الميم صلة أي أَيَقُولُونَ افْتَرَاهُ .

وقيل : فيه إضمار مجازه فهل يؤمنون أم يقولون افتراه . وقوله : { بَلْ هُوَ الحق } إضراب ثانٍ ولو قيل : بأنه إضرابُ إبطالٍ لنفس «افتراه » وحده لكان صواباً وعلى هذا يقال : كل ما في القرآن إضراب وهو انتقال إلا هذا فإنه يجوز أن يكون إبطالاً لأنه إبطال لقولهم ، أي ليس هو كما قالوا مُفْتَرى بل هو الحق . وفي كلام الزَّمَخْشَرِي ما يرشد إلى{[42705]} هذا فإنه قال : والضمير في «فيه » راجعٌ إلى مضمون الجملة{[42706]} كأنه قيل لا ريبَ في ذلك أي في كونه من رب العالمين ويشهد لواجهته{[42707]} : { أَمْ يَقُولُونَ افتراه } ؛ لأن قولهم مفترىً إنكار لأن يكون من رب العالمين وكذلك قوله : { بَلْ هُوَ الحق مِن رَّبِّكَ } وما فيه من تقرير أنه من الله وهذا أسلوب صحيحٌ محكَمٌ{[42708]} .

قوله : «مِنْ رَبِّكَ » حال من «الحَقِّ » والعامل فيه محذوف على القاعدة وهو العامل في «لِتُنْذِرَ » ويجوز أن يكون العامل في : «لتنذر » غيره أي أنْزَلَهُ لِتُنْذِرَ .

قوله : { قَوْماً مَا أَتَاهُمْ } الظاهر أن المفعول الثاني للإنذار محذوف ، و «قوماً » هو الأول ، إذ التقدير : لتنذر قوماً العقابَ و «مَا أتَاهُمْ » جملة منفية في محل نصب صفة «لقوماً » يريد الذين في الفترة{[42709]} بين عيسى ومحمد عليهما السلام . وجعله الزمخشري{[42710]} كقوله : { لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ } [ يس : 6 ] فعلى هذا يكون «من نذير » هو فاعل «أَتَاهُمْ » و «من » مزيدة فيه و «مِنْ قَبْلِكَ » صفة «لِنَذير » ، ويجوز أن يتعلق «مِنْ قَبْلِكَ » «بأَتَاهُمْ » . وجوز أبو حيان{[42711]} أن تكون «ما » موصولة في الموضعين والتقدير : لتنذر قوماً العقاب الذي أتاهم من نذير من قبلك و «مِنْ نَذِيرٍ » متعلق «بأَتَاهُمْ » أي أتاهم على لسان نذير من قبلك وكذلك { لتنذر قوماً ما أنذر آباؤهم } أي العقاب الذي أنذرَهُ آباؤُهُمْ ، «فما » مفعولة في الموضعين ، و «أنذر » يتعدى إلى اثنين قال الله تعالى : { فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً } [ فصلت : 13 ] وهذا القول جارٍ على ظواهر القرآن قَالَ تَعَالَى : { وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ } [ فاطر : 24 ] { أَن تَقُولُواْ مَا جَاءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ } [ المائدة : 19 ] هذا الذي قال ظاهر ، ويظهر أن في الآية الأخرى وجهاً آخر وهو أن تكون «ما » مصدرية تقديره لتنذر قوماً إنذَار آبائهم لأن الرسل كُلَّهُمْ متفقون{[42712]} على كلمة الحق .

فصل :

المعنى بل هو يعني القرآن الحق من ربك لتنذر قوماً ما أتاهم من نذير من قبْلِكَ . قال قتادة : كانوا أمةً لم يأتهم نذير قبل محمد - صلى الله عليه وسلم - ( قال ابن عباس{[42713]} ومقاتل : ذاك في الفترة التي كانت بين عيسى ومحمد - صلى الله عليه وسلم - ) «لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ » .


[42705]:نقله في الدر المصون 4/353 و 354.
[42706]:الكشاف 3/240.
[42707]:في الكشاف: ويشهد لوجاهته قوله. وهو الأصح.
[42708]:المرجع السابق.
[42709]:القرطبي 14/15.
[42710]:الكشاف 3/240.
[42711]:البحر المحيط 7/197.
[42712]:في "ب" كلهم متفقة.
[42713]:ساقط من "ب" وانظر: القرطبي 14/85.