البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{أَمۡ يَقُولُونَ ٱفۡتَرَىٰهُۚ بَلۡ هُوَ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوۡمٗا مَّآ أَتَىٰهُم مِّن نَّذِيرٖ مِّن قَبۡلِكَ لَعَلَّهُمۡ يَهۡتَدُونَ} (3)

وقولهم : { افتراه } ، كلام جاهل لم يمعن النظر ، أو جاحد مستيقن أنه من عند الله ، فقال ذلك حسداً ، أو حكماً من الله عليه بالضلال .

وقال الزمخشري : والضمير في فيه راجع إلى مضمون الجملة ، كأنه قيل : لا ريب في ذلك ، أي في كونه منزلاً من رب العالمين .

ويشهد لوجاهته قوله : { أم يقولون افتراه } ، لأن قولهم هذا مفترى إنكار لأن يكون من رب العالمين .

وكذلك قوله : { بل هو الحق من ربك } ، وما فيه من تقدير أنه من الله ، وهذا أسلوب صحيح محكم ، أثبت أولاً أن تنزيله من رب العالمين ، وأن ذلك ما لا ريب فيه .

ثم أضرب عن ذلك إلى قوله : { أم يقولون افتراه } ، لأن أم هي المنقطعة الكائنة بمعنى بل ، والهمزة إنكاراً لقولهم وتعجباً منه لظهور أمره في عجز بلغائهم عن مثل ثلاث آيات ، ثم أضرب عن الإنكار إلى الإثبات أنه الحق من ربك .

انتهى ، وهو كلام فيه تكثير .

وقال أبو عبيدة : أم يكون معناه : بل يقولون ، فهو خروج من حديث إلى حديث ؛ ومن ربك في موضع الحال ، أي كائناً من عند ربك ، وبه متعلق بلتنذر ، أو بمحذوف تقديره : أنزله لتنذر .

والقوم هنا قريش والعرب ، وما نافية ، ومن نذير : من زائدة ، ونذير فاعل أتاهم .

أخبر تعالى أنه لم يبعث إليهم رسولاً بخصوصيتهم قبل محمد صلى الله عليه وسلم ، لا لهم ولا لآبائهم ، لكنهم كانوا متعبدين بملة إبراهيم وإسماعيل ، وما زالوا على ذلك إلى أن غير ذلك بعض رؤسائهم ، وعبدوا الأصنام وعم ذلك ، فهم مندرجون تحت قوله : { وإن من أمة إلا خلا فيها نذير } أي شريعته ودينه ؛ والنذير ليس مخصوصاً بمن باشر ، بل يكون نذيراً لمن باشره ، ولغير من باشره بالقرب ممن سبق لها نذير ، ولم يباشرهم نذير غير محمد صلى الله عليه وسلم .

وقال ابن عباس ، ومقاتل : المعنى لم يأتهم في الفترة بين عيس ومحمد ، عليهما السلام .

وقال الزمخشري : { ما أتاهم من نذير من قبلك } ، كقوله : { ما أنذر آباؤهم } وذلك أن قريشاً لم يبعث الله إليهم رسولاً قبل محمد صلى الله عليه وسلم .

فإن قلت : فإذا لم يأتهم نذير ، لم تقم عليهم حجة .

قلت : أما قيام الحجة بالشرائع التي لا يدرك علمها إلا بالرسل فلا ، وأما قيامها بمعرفة الله وتوحيده وحكمته فنعم ، لأن أدلة العقل الموصلة إلى ذلك معهم في كل زمان . انتهى .

والذي ذهب إليه غير ما ذهب إليه المفسرون ، وذلك أنهم فهموا من قوله : { ما أتاهم } ، و { ما أنذر آباؤهم } أن ما نافية ، وعندي أن ما موصولة ، والمعنى : لتنذر قوماً العقاب الذي أتاهم .

{ من نذير } : متعلق بأتاهم ، أي أتاهم على لسان نذير من قبلك .

وكذلك { لتنذر قوماً ما أنذر أباؤهم } أي العقاب الذي أنذره آباؤهم ، فما مفعولة في الموضعين ، وأنذر يتعدى إلى اثنين .

قال تعالى : { فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة } وهذا القول جار على ظواهر القرآن .

قال تعالى : { وإن من أمة إلا خلا فيها نذير } و { أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير } { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً } { وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولاً } ولما حكى تعالى عنهم أنهم يقولون : إن محمداً صلى الله عليه وسلم افتراه ورد عليهم ، اقتصر في ذكر ما جاء به القرآن على الإنذار ، وإن كان قد جاء له وللتبشير ليكون ذلك ردعاً لهم ، ولأنه إذا ذكر الإنذار ، صار عند العاقل فكر فيما أنذر به ، فلعل ذلك الفكر يكون سبباً لهدايته .

و { لعلهم يهتدون } : ترجية من رسول الله ، كما كان في قوله : { لعله يتذكر أو يخشى } من موسى وهارون .

قال الزمخشري : وأن يستعار لفظ الترجي للإرادة . انتهى .

يعني أنه عبر عن الإرادة بلفظ الترجي ، ومعناه : إرادة اهتدائهم ، وهذه نزغة اعتزالية ، لأنه عندهم أن يريد هداية العبد ، فلا يقع ما يريد ، ويقع ما يريد العبد ، تعالى الله عن ذلك .