ثم يكشف لهم كذلك عن سلطان الله في قلوبهم ، وهم بعد في الأرض ، يستكبرون عن الإيمان بالله . فالله قد قيض لهم - بما اطلع على فساد قلوبهم - قرناء سوء من الجن ومن الأنس ، يزينون لهم السوء ، وينتهون بهم إلى مواكب الذين كتب عليهم الخسران ، وحقت عليهم كلمة العذاب :
( وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم ، وحق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس ، إنهم كانوا خاسرين ) . .
فلينظروا كيف هم في قبضة الله الذي يستكبرون عن عبادته . وكيف أن قلوبهم التي بين جنوبهم تقودهم إلى العذاب والخسارة وقد قيض الله وأحضر قرناء يوسوسون لهم ، ويزينون لهم كل ما حولهم من السوء ، ويحسنون لهم أعمالهم فلا يشعرون بما فيها من قبح . وأشد ما يصيب الإنسان أن يفقد إحساسه بقبح فعله وانحرافه ، وأن يرى كل شيء من شخصه حسنا ومن فعله ! فهذه هي المهلكة وهذا هو المنحدر الذي ينتهي دائماً بالبوار .
وإذا هم في قطيع السوء . في الأمم التي حق عليها وعد الله من قبلهم من الجن والإنس . قطيع الخاسرين ( إنهم كانوا خاسرين ) .
{ وقضينا لهم قرناء } : أي وبعثنا لكفار مكة المعرضين قرناء من الشياطين .
{ فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم } : أي حسنوا لهم الكفر والشرك ، وإنكار البعث والجزاء .
{ وحق عليهم القول في أمم قد خلت } : أي وجب لهم العذاب في أمم مضت قبلهم من الجن والإِنس .
ما زال السياق الكريم في دعوة المعرضين من كفار قريش ، فقال تعالى : { وقضينا لهم } أي بعثنا لهم قرناء من الشياطين ، وذلك بعد أن أصروا على الباطل والشر فخبثوا خبثا سَهَّلَ لأخباث الجن الاقتران بهم فزينوا لهم الكفر والمعاصي القبيحة في الدنيا فها هم منغمسون فيها ، كما زينوا لهم الكفر بالبعث والجزاء وإنكار الجنة والنار حتى لا يقصروا في الشر ولا يفعلوا الخير أبداً ، وهو معنى قوله تعالى : { فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم } .
- بيان سنة الله تعالى في العبد إذا أعرض عن الحق الذي هو الإسلام فخبث من جراء كسبه الشر والباطل وتوغله في الظلم والفساد يبعث الله تعالى عليه شيطاناً يكون قريناً له فزين له كل قبيح ، ويقبح له كل حسن .
{ 25 } { وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ }
أي : وقضينا لهؤلاء الظالمين الجاحدين للحق { قُرَنَاءَ } من الشياطين ، كما قال تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا } أي تزعجهم إلى المعاصي وتحثهم عليها ، بسبب ما زينوا { لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } فالدنيا زخرفوها بأعينهم ، ودعوهم إلى لذاتها وشهواتها المحرمة حتى افتتنوا ، فأقدموا على معاصي اللّه ، وسلكوا ما شاءوا من محاربة اللّه ورسله والآخرة بَعّدُوها عليهم وأنسوهم ذكرها ، وربما أوقعوا عليهم الشُّبه ، بعدم وقوعها ، فترحَّل خوفها من قلوبهم ، فقادوهم إلى الكفر ، والبدع ، والمعاصي .
وهذا التسليط والتقييض من اللّه للمكذبين الشياطين ، بسبب إعراضهم عن ذكر اللّه وآياته ، وجحودهم الحق كما قال تعالى : { وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ }
{ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ } أي : وجب عليهم ، ونزل القضاء والقدر بعذابهم { فِي } جملة { أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ } لأديانهم وآخرتهم ، ومن خسر ، فلا بد أن يذل ويشقى ويعذب .
ولما ذكر وعيدهم في الدنيا والآخرة ، أتبعه كفرهم الذي هو سبب الوعيد ، وعطفه على ما تقديره : فإنا طبعناهم طبيعة سوء تقتضي أنهم لا ينفكون عما يوجب العتب ، فأعرضوا ولم تنفعهم النذرى بصاعقة عاد وثمود ، فقال صارفاً القول إلى مظهر العظمة إشارة إلى أن التصرف في القلوب أمر عظيم جداً : { وقيضنا } أي جئنا وأتحنا وبعثنا وسببنا ووكلنا وهيأنا ، من القيض الذي هو المثل ، وقشر البيضة الأعلى اليابس { لهم قرناء } أي أشخاصاً أمثالهم في الأخلاق والأوصاف أقوياء وهم مع كونهم شديدي الالتصاق بهم والإحاطة في غاية النحس والشدة في اللؤم والخبث واللجاجة فيما يكون به ضيق الخير واتساع الشر من غواة الجن والإنس { فزينوا لهم } أي من القبائح { ما } وعم الأشياء كلها فلم يأت بالجار فقال : { بين أيديهم } أي يعلمون قباحته حتى حسنوه لهم فارتكبوه ورغبوا فيه { وما خلفهم } أي ما يجهلون أمره ولا يزالون في كل شيء يزينونه ويلحون فيه ويكررونه حتى يقبل ، فإن التكرير مقرون بالتأثير ، قال القشيري : إذا أراد الله بعبد سوءاً قيض له إخوان سوء وقرناء سوء يحملونه على المخالفات ويدعونه إليها ، وإذا أراد الله بعبد خيراً قيض له قرناء خير يعينونه على الطاعات ويحملونه عليها ويدعونه إليها ، ومن ذلك الشيطان ، وشر منه النفس وبئس القرين ، تدعو اليوم إلى ما فيه الهلاك وتشهد غداً عليه .
ولما كان التقدير : فلم يدعوا قبيحة حتى ارتكبوها ، عطف عليه قوله : { وحق } أي وجب وثبت { عليهم القول } أي بدوام الغضب .
ولما كان هذا مما يوجب شدة أسفه صلى الله عليه وسلم ، خفف منه بقوله : { في } أي كائنين في جملة { أمم } أي كثيرة . ولما عبر عنهم بما يقتضي تعظيمهم بأنهم مقصودون ، حقرهم بمضير التأنيث فقال : { قد خلت } أي لم تتعظ أمة منهم بالأخرى . ولما كان الخلو قد يكون بالموت في زمانهم ، بين أنه مما مضى وفات .
ولما كان بعض من مضى غير مستغرق لجميع الزمان ، عبر ب " من " فقال : { من قبلهم } أي في الزمان ، وقدم الأقوى لتفهم القدرة عليه القدرة على ما دونه من باب الأولى ، فإن الإنس كانوا يعدون أنفسهم دون الجن فيعوذون بهم فقال : { من الجن والأنس } ثم علل حقوق الشقاء عليهم بقوله منبهاً بالتأكيد على أنهم ينكرون أن تكون القبائح موجبة للخسر { إنهم } أي جميع المذكورين منهم وممن قبلهم : { كانوا } أي طبعاً وفعلاً { خاسرين * } فعلى العاقل أن يجتهد في اختيار أصحابه وأخدانه وأحبابه ، فإن العاقبة فيهم حسنة جسيمة أو قبيحة وخيمة ، روى صاحب الفردوس عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
" إذا أراد الله بعبد شراً قيض له قبل موته شيطاناً فلا يرى حسناً إلا قبحه ولا قبيحاً إلا حسنه عنده " . ولأحمد وأبي داود والنسائي وأبي يعلى وابن حبان في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا أراد الله بالوالي خيراً جعل له وزير صدق ، إن نسي ذكّره ، وإن ذكر أعانه ، وإن أراد به غير ذلك جعل له وزير سوء إن نسي لم يذكره وإن ذكر لم يعنه " . وروى البخاري عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما والنسائي عن أبي هريرة وحده رضي الله عنه والبخاري أيضاً عن أبي أيوب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه ، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه ، والمعصوم من عصمه الله تعالى " . وفي رواية النسائي : " ما من وال إلا وله بطانتان : بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر ، وبطانة لا تألوه خبالاً ، فمن وقي شرها فقد وقي ، وهو إلى من يغلب عليه منهما " ، ورواية البخاري عن أبي أيوب نحوها .