ثم أنبأهم بجانب آخر من جوانب حكمته فيما قدر في هذا الحادث ؛ وهو مجازاة المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ، بما يصدر عنهم من عمل وتصرف :
( ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ، الظانين بالله ظن السوء ، عليهم دائرة السوء . وغضب الله عليهم ولعنهم ، وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا . ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عزيزا حكيما ) . .
وقد جمع النص بين المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات في صفة ظن السوء بالله ؛ وعدم الثقة بنصرته للمؤمنين . وفي أنهم جميعا ( عليهم دائرة السوء )فهم محصورون فيها ، وهي تدور عليهم وتقع بهم . وفي غضب الله عليهم ولعنته لهم ، وفيما أعده لهم من سوء المصير . . ذلك أن النفاق صفة مرذولة لا تقل عن الشرك سوءا ، بل إنها أحط ؛ ولأن أذى المنافقين والمنافقات للجماعة المسلمة لا يقل عن أذى المشركين والمشركات ، وإن اختلف هذا الأذى وذاك في مظهره ونوعه .
وقد جعل الله صفة المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات هي ظن السوء بالله . فالقلب المؤمن حسن الظن بربه ، يتوقع منه الخير دائما . يتوقع منه الخير في السراء والضراء . ويؤمن بأن الله يريد به الخير في الحالين . وسر ذلك أن قلبه موصول بالله . وفيض الخير من الله لا ينقطع أبدا . فمتى اتصل القلب به لمس هذه الحقيقة الأصيلة ، وأحسها إحساس مباشرة وتذوق . فأما المنافقون والمشركون فهم مقطوعو الصلة بالله . ومن ثم لا يحسون تلك الحقيقة ولا يجدونها ، فيسوء ظنهم بالله ؛ وتتعلق قلوبهم بظواهر الأمور ، ويبنون عليها أحكامهم . ويتوقعون الشر والسوء لأنفسهم وللمؤمنين ، كلما كانت ظواهر الأمور توحي بهذا ؛ على غير ثقة بقدر الله وقدرته ، وتدبيره الخفي اللطيف .
{ ويعذب المنافقين والمنافقات } : والمشركين والمشركات أي يعذبهم بالهم والحزن لما يرون من نصرة الإِسلام وعزة أهله .
{ الظانين بالله ظن السوء } : أي أن الله لا ينصر محمداً وأصحابه .
{ عليهم دائرة السوء } : أي بالذال والعذاب والهوان .
وقوله { ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات } أي فَتَحَ على رسوله والمؤمنين ونصرهم ووهبه وما وهبه من الكمال ليكون ذلك غما وهما وحزنا يعذب الله به المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات في الدنيا والآخرة وقوله { الظانين بالله ظن السوء } هذا وصف للمنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات حيث إنهم كانوا ظانّين أن الله لا ينصر رسوله والمؤمنين ولا يعلي كلمته ولا يظهر دينه وقوله تعالى { عليهم دائرة السوء } إخبارا منه عز وجل بأن دائرة السوء تكون على المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات كما أخبر عنهم بأنه غضب عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا ومعنى أعدَّ هيأ وأحضر لهم ، وساءت جهنم مصيرا يصير إليه الإِنسان والجان .
- بيان أن الكافرين يحزنون ويُغمُّون لنصر المؤمنين وعزهم فيكون ذلك عذابا لهم في الدنيا .
وأما المنافقون والمنافقات ، والمشركون والمشركات ، فإن الله يعذبهم بذلك ، ويريهم ما يسوءهم ؛ حيث كان مقصودهم خذلان المؤمنين ، وظنوا بالله الظن السوء ، أنه لا ينصر دينه ، ولا يعلي كلمته ، وأن أهل الباطل ، ستكون لهم الدائرة على أهل الحق ، فأدار الله عليهم ظنهم ، وكانت دائرة السوء عليهم في الدنيا ، { وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } بما اقترفوه من المحادة لله ولرسوله ، { وَلَعَنَهُمْ } أي : أبعدهم وأقصاهم عن رحمته { وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا }
قوله تعالى : " ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات " أي بإيصال الهموم إليهم بسبب علو كلمة المسلمين ، وبأن يسلط النبي عليه السلام قتلا وأسرا واسترقاقا . " الظانين بالله ظن السوء " يعني ظنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يرجع إلى المدينة ، ولا أحد من أصحابه حين خرج إلى الحديبية ، وأن المشركين يستأصلونهم . كما قال : " بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا " [ الفتح : 12 ] . وقال الخليل وسيبويه : " السوء " هنا الفساد . " عليهم دائرة السوء " في الدنيا بالقتل والسبي والأسر ، وفي الآخرة جهنم . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو " دائرة السوء " بالضم . وفتح الباقون . قال الجوهري : ساءه يسوءه سوءا ( بالفتح ) ومساءة ومساية ، نقيض سره ، والاسم السوء ( بالضم ) . وقرئ " عليهم دائرة السوء " يعني الهزيمة والشر . ومن فتح فهو من المساءة .
ولما كان من أعظم الفوز إقرار العين بالانتقام من العدو وكان العدو-{[60158]} المكاتم{[60159]} أشد من العدو{[60160]} المجاهر المراغم{[60161]} قال تعالى : { ويعذب المنافقين } أي يزيل كل ما لهم من العذوبة { والمنافقات } بما غاظهم من ازدياد الإيمان { والمشركين والمشركات } بصدهم الذي كان سبباً للمقام الدحض{[60162]} الذي كان سبباً لإنزال السكينة {[60163]}الذي كان{[60164]} سبباً لقوة أهل الإسلام بما تأثر عنه من كثرة الداخلين فيه ، الذي كان سبباً لتدمير أهل الكفران ، ثم بعد ذلك عذاب النيران .
ولما أخبر بعذابهم ، أتبعه وصفهم بما سبب لهم ذلك فقال تعالى : { الظانين بالله } أي المحيط بجميع صفات الكمال { ظن السوء } من أنه لا يفي بوعده في أنه ينصره رسوله صلى الله عليه وسلم وأتباعه المؤمنين أو أنه {[60165]}لا يبعثهم . أو أنه{[60166]} لا يبعثهم أو أنه لايعذبهم لمخالفة رسوله{[60167]} صلى الله عليه وسلم . ومشاققة أتباعه . ولما أخبر سبحانه وتعالى بعذابهم فسره بقوله : { عليهم } أي في الدنيا والآخرة بما يخزيهم الله به من كثرة جنوده وغيظهم منهم وقهرهم بهم { دائرة السوء } التي دبروها أوقدروها للمسلمين لا خلاص لهم منها ، فهم مخذولون في كل موطن خذلاناً ظاهراً يدركه كل أحد ، وباطناً يدركه من أراد الله تعالى من أرباب البصائر كما اتفق في هذه العمرة ، والسوء - بالفتح والضم : ما يسوء كالكره إلا أنه غلب في أن يضاف إلى ما يراد ذمه ، والمضموم جار{[60168]} مجرى الشر الذي هو ضد الخير - قاله في الكشاف .
ولما كان من دار عليه السوء قد لا يكون مغضوباً عليه ، قال : { وغضب الله } أي الملك الأعظم بما له من صفات الجلال والجمال فاستعلى غضبه { عليهم } ، وهو عبارة عن أنه{[60169]} يعاملهم معاملة الغضبان بما لا طاقة لهم به . ولما كان الغضب قد لا يوجب الإهانة والإبعاد قال{[60170]} : { ولعنهم } أي طردهم طرداً سفلوا به أسفل سافلين ، فبعدوا به عن كل خير .
ولما قرر ما لهم في الدارين ، وكان قد يظن أنه يخص الدنيا فلا يوجب عذاب الآخرة ، أتبعه بما يخصها فقال : { وأعد } أي هيأ الآن { لهم جهنم } تلقاهم بالعبوسة والغيظ والزفير والتجهم كما كانوا يتجهمون عباد الله مع ما فيها من العذاب بالحر والبرد والإحراق ، وغير ذلك من أنواع المشاق . ولما كان التقدير : فساءت معداً ، عطف عليه قوله : { وساءت مصيراً * } .
قوله : { ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات } معطوف على قوله : { ليدخل } يعني وليعذب النافقين والمنافقات الذين يتكلفون المودة ويصطنعونها في الظاهر اصطناعا فيظهرون لرسول الله والمؤمنين الإسلام ويخفون في أنفسهم الضغينة والكفر ويتربصون بالإسلام والمسلمين الدوائر . وكذلك يعذب الله المشركين والمشركات الذين يحادون الله ورسوله ويصدون الناس عن دين الله ، أولئك جميعا سيعذبهم الله ، بقهرهم وكبتهم وإذلالهم ، وبإظهار الحق عليهم وإعلاء شأن الإسلام والمسلمين في الآفاق ليذوقوا في أنفسهم مرارة الهوان والاغتمام .
قوله : { الظانّين بالله ظن السّوء } وذلك وصف للفريقين من أهل النفاق والشرك الذين كان ظنهم أن النبي والذين آمنوا معه لن يرجعوا إلى المدينة بل يستأصلهم المشريكون فلا تبقى منهم باقية . وذلك هو السوء من ظنهم الخبيث الكاذب { عليهم دائرة السّوء } و { السوء } معناه العذاب والهلاك ، أي تحيق بهم دائرة العذاب والهوان والخسران في الدنيا حيث الذل والهزيمة والقهر ، وفي الآخرة حيث النار وبئس القرار .
قوله : { وغضب الله عليهم ولعنهم } لقد نالهم الله بمقته الشديد وأبعدهم من رحمته وفضله { وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا } أعد الله لهم النار يوم القيامة ليصلوها وساءت لهم منزلا مقاما يصيرون إليه .