( يا أيها النبي ، قل لأزواجك : إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا . وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة ، فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما ) . .
لقد اختار النبي [ صلى الله عليه وسلم ] لنفسه ولأهل بيته معيشة الكفاف ، لا عجزا عن حياة المتاع ، فقد عاش حتى فتحت له الأرض ، وكثرت غنائمها ، وعم فيؤها ، واغتنى من لم يكن له من قبل مال ولا زاد ! ومع هذا فقد كان الشهر يمضي ولا توقد في بيوته نار . مع جوده بالصدقات والهبات والهدايا . ولكن ذلك كان اختيارا للاستعلاء على متاع الحياة الدنيا ورغبة خالصة فيما عند الله . رغبة الذي يملك ولكنه يعف ويستعلي ويختار . . ولم يكن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] مكلفا من عقيدته ولا من شريعته أن يعيش مثل هذه المعيشة التي أخذ بها نفسه وأهل بيته ، فلم تكن الطيبات محرمة في عقيدته وشريعته ؛ ولم يحرمها على نفسه حين كانت تقدم إليه عفوا بلا تكلف ، وتحصل بين يديه مصادفة واتفاقا ، لا جريا وراءها ولا تشهيا لها ، ولا انغماسا فيها ولا انشغالا بها . . ولم يكلف أمته كذلك أن تعيش عيشته التي اختارها لنفسه ، إلا أن يختارها من يريد ، استعلاء على اللذائذ والمتاع ، وانطلاقا من ثقلتها إلى حيث الحرية التامة من رغبات النفس وميولها .
ولكن نساء النبي [ صلى الله عليه وسلم ] كن نساء ، من البشر ، لهن مشاعر البشر . وعلى فضلهن وكرامتهن وقربهن من ينابيع النبوة الكريمة ، فإن الرغبة الطبيعية في متاع الحياة ظلت حية في نفوسهن . فلما أن رأين السعة والرخاء بعدما أفاض الله على رسوله وعلى المؤمنين راجعن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] في أمر النفقة . فلم يستقبل هذه المراجعة بالترحيب ، إنما استقبلها بالأسى وعدم الرضى ؛ إذ كانت نفسه [ صلى الله عليه وسلم ] ترغب في أن تعيش فيما اختاره لها من طلاقة وارتفاع ورضى ؛ متجردة من الانشغال بمثل ذلك الأمر والاحتفال به أدنى احتفال ؛ وأن تظل حياته وحياة من يلوذون به على ذلك الأفق السامي الوضيء المبرأ من كل ظل لهذه الدنيا وأوشابها . لا بوصفه حلالا وحراما - فقد تبين الحلال والحرام - ولكن من ناحية التحرر والانطلاق والفكاك من هواتف هذه الأرض الرخيصة !
ولقد بلغ الأسى برسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] من مطالبة نسائه له بالنفقة أن احتجب عن أصحابه . وكان احتجابه عنهم أمرا صعبا عليهم يهون كل شيء دونه . وجاءوا فلم يؤذن لهم . روى الإمام أحمد - بإسناده - عن جابر - رضي الله عنه - قال : أقبل أبو بكر - رضي الله عنه - يستأذن على رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] والناس ببابه جلوس ، والنبي [ صلى الله عليه وسلم ] جالس ، فلم يؤذن له . ثم أقبل عمر - رضي الله عنه - فاستأذن فلم يؤذن له . ثم أذن لأبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - فدخلا ، والنبي [ صلى الله عليه وسلم ] جالس وحوله نساؤه ، وهو [ صلى الله عليه وسلم ] ساكت . فقال عمر - رضي الله عنه - : لأكلمن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] لعله يضحك . فقال عمر - رضي الله عنه - يا رسول الله لو رأيت ابنة زيد - امرأة عمر - سألتني النفقة آنفا فوجأت عنقها ! فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه ، وقال : " هن حولي يسألنني النفقة " ! فقام أبو بكر - رضي الله عنه - إلى عائشة ليضربها ، وقام عمر - رضي الله عنه - إلى حفصة ، كلاهما يقولان : تسألان النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ما ليس عنده ? ! فنهاهما الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] فقلن : والله لا نسأل رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بعد هذا المجلس ما ليس عنده . . قال : وأنزل الله عز وجل الخيار ، فبدأ بعائشة - رضي الله عنها - فقال : " إني أذكر لك أمرا ما أحب أن تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك " قالت : وما هو ? قال : فتلا عليها ( يا أيها النبي قل لأزواجك ) . . الآية . قالت عائشة - رضي الله عنها - : أفيك أستأمر أبوي ? بل أختار الله تعالى ورسوله . وأسألك ألا تذكر لامرأة من نسائك ما اخترت . فقال [ صلى الله عليه وسلم ] " إن الله تعالى لم يبعثني معنفا ، ولكن بعثني معلما ميسرا . لا تسألني امرأة منهن عما اخترت إلا أخبرتها " .
وفي رواية البخاري - بإسناده - عن أبي سلمة بن عبد الرحمن : أن عائشة - رضي الله عنها - زوج النبي [ صلى الله عليه وسلم ] أخبرته أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] جاءها حين أمره الله تعالى أن يخيرأزواجه . قالت : فبدأ بي رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فقال : " إني ذاكر لك أمرا فلا عليك أن لا تستعجلي حتى تستأمري أبويك " - وقد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه - قالت : ثم قال : " إن الله تعالى قال : ( يا أيها النبي قل لأزواجك )إلى تمام الآيتين " . فقلت له : ففي أي هذا أستأمر أبوي ? فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة .
لقد جاء القرآن الكريم ليحدد القيم الأساسية في تصور الإسلام للحياة . هذه القيم التي ينبغي أن تجد ترجمتها الحية في بيت النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وحياته الخاصة ؛ وأن تتحقق في أدق صورة وأوضحها في هذا البيت الذي كان - وسيبقى - منارة للمسلمين وللإسلام حتى يرث الله الأرض ومن عليها .
ونزلت آيتا التخيير تحددان الطريق . فإما الحياة الدنيا وزينتها ، وإما الله ورسوله والدار الآخرة . فالقلب الواحد لا يسع تصورين للحياة . وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه .
وقد كانت نساء النبي [ صلى الله عليه وسلم ] قد قلن : والله لا نسأل رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بعد هذا المجلس ما ليس عنده . فنزل القرآن ليقرر أصل القضية . فليست المسألة أن يكون عنده أو لا يكون . إنما المسألة هي اختيار الله ورسوله والدار الآخرة كلية ، أو اختيار الزينة والمتاع . سواء كانت خزائن الأرض كلها تحت أيديهن أم كانت بيوتهن خاوية من الزاد . وقد اخترن الله ورسوله والدار الآخرة اختيارا مطلقا بعد هذا التخيير الحاسم . وكن حيث تؤهلن مكانتهن من رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وفي ذلك الأفق العالي الكريم اللائق ببيت الرسول العظيم . وفي بعض الروايات أن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] فرح بهذا الاختيار .
ونحب أن نقف لحظات أمام هذا الحادث نتدبره من بعض زواياه .
إنه يحدد التصور الإسلامي الواضح للقيم ؛ ويرسم الطريق الشعوري للإحساس بالدنيا والآخرة . ويحسم في القلب المسلم كل أرجحة وكل لجلجة بين قيم الدنيا وقيم الآخرة ؛ بين الاتجاه إلى الأرض والاتجاه إلى السماء . ويخلص هذا القلب من كل وشيجة غريبة تحول بينه وبين التجرد لله والخلوص له وحده دون سواه .
هذا من جانب ومن الجانب الآخر يصور لنا هذا الحادث حقيقة حياة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] والذين عاشوا معه واتصلوا به . وأجمل ما في هذه الحقيقة أن تلك الحياة كانت حياة إنسان وحياة ناس من البشر ؛ لم يتجردوا من بشريتهم ومشاعرهم وسماتهم الإنسانية . مع كل تلك العظمة الفريدة البالغة التي ارتفعوا إليها ؛ ومع كل هذا الخلوص لله والتجرد مما عداه . فالمشاعر الإنسانية والعواطف البشرية لم تمت في تلك النفوس . ولكنها ارتفعت ، وصفت من الأوشاب . ثم بقيت لها طبيعتها البشرية الحلوة ، ولم تعوق هذه النفوس عن الارتفاع إلى أقصى درجات الكمال المقدر للإنسان .
وكثيرا ما نخطئ نحن حين نتصور للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] ولصحابته - رضوان الله عليهم - صورة غير حقيقية ، أو غير كاملة ، نجردهم فيها من كل المشاعر والعواطف البشرية ، حاسبين أننا نرفعهم بهذا وننزههم عما نعده نحن نقصا وضعفا !
وهذا الخطأ يرسم لهم صورة غير واقعية ، صورة ملفعة بهالات غامضة لا نتبين من خلالها ملامحهم الإنسانية الأصيلة . ومن ثم تنقطع الصلة البشرية بيننا وبينهم . وتبقى شخوصهم في حسنا بين تلك الهالات أقرب إلى الأطياف التي لا تلمس ولا تتماسك في الأيدي ! ونشعر بهم كما لو كانوا خلقا آخر غيرنا . . ملائكة أو خلقا مثلهم مجردا من مشاعر البشر وعواطفهم على كل حال ! ومع شفافية هذه الصورة الخيالية فإنهاتبعدهم عن محيطنا ، فلا نعود نتأسى بهم أو نتأثر . يأسا من إمكان التشبه بهم أو الاقتداء العملي في الحياة الواقعية . وتفقد السيرة بذلك أهم عنصر محرك ، وهو استجاشة مشاعرنا للأسوة والتقليد . وتحل محلها الروعة والانبهار ، اللذان لا ينتجان إلا شعورا مبهما غامضا سحريا ليس له أثر عملي في حياتنا الواقعية . . ثم نفقد كذلك التجاوب الحي بيننا وبين هذه الشخصيات العظيمة . لأن التجاوب إنما يقع نتيجة لشعورنا بأنهم بشر حقيقيون ، عاشوا بعواطف ومشاعر وانفعالات حقيقية من نوع المشاعر والعواطف والانفعالات التي نعانيها نحن . ولكنهم هم ارتقوا بها وصفوها من الشوائب التي تخالج مشاعرنا .
وحكمة الله واضحة في أن يختار رسله من البشر ، لا من الملائكة ولا من أي خلق آخر غير البشر . كي تبقى الصلة الحقيقية بين حياة الرسل وحياة أتباعهم قائمة ؛ وكي يحس أتباعهم أن قلوبهم كانت تعمرها عواطف ومشاعر من جنس مشاعر البشر وعواطفهم ، وإن صفت ورفت وارتقت . فيحبوهم حب الإنسان للإنسان ؛ ويطمعوا في تقليدهم تقليد الإنسان الصغير للإنسان الكبير .
وفي حادث التخيير نقف أمام الرغبة الطبيعية في نفوس نساء النبي [ صلى الله عليه وسلم ] في المتاع ؛ كما نقف أمام صورة الحياة البيتية للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] ونسائه رضي الله عنهن - وهن أزواج يراجعن زوجهن في أمر النفقة ! فيؤذيه هذا ، ولكنه لا يقبل من أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - أن يضربا عائشة وحفصة على هذه المراجعة . فالمسألة مسألة مشاعر وميول بشرية ، تصفى وترفع ، ولكنها لا تخمد ولا تكبت ! ويظل الأمر كذلك حتى يأتيه أمر الله بتخيير نسائه . فيخترن الله ورسوله والدار الآخرة ، اختيارا لا إكراه فيه ولا كبت ولا ضغط ؛ فيفرح قلب رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بارتفاع قلوب أزواجه إلى هذا الأفق السامي الوضيء .
ونقف كذلك أمام تلك العاطفة البشرية الحلوة في قلب رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وهو يحب عائشة حبا ظاهرا ؛ ويحب لها أن ترتفع إلى مستوى القيم التي يريدها الله له ولأهل بيته فيبدأ بها في التخيير ؛ ويريد أن يساعدها على الارتفاع والتجرد ؛ فيطلب إليها ألا تعجل في الأمر حتى تستشير أبويها - وقد علم أنهما لم يكونا يأمرانها بفراقه كما قالت - وهذه العاطفة الحلوة في قلب النبي [ صلى الله عليه وسلم ] لا تخطئ عائشة - رضي الله عنها - من جانبها في إدراكها ؛ فتسرها وتحفل بتسجيلها في حديثها . ومن خلال هذا الحديث يبدو النبي صلى الله عليه وسلم إنسانا يحب زوجه الصغيرة ، فيحب لها أن ترتفع إلى أفقه الذي يعيش فيه ؛ وتبقى معه على هذا الأفق ، تشاركه الشعور بالقيم الأصيلة في حسه ، والتي يريدها له ربه ولأهل بيته . كذلك تبدو عائشة - رضي الله عنها - إنسانة يسرها أن تكون مكينة في قلب زوجها ؛ فتسجل بفرح حرصه عليها ، وحبه لها ، ورغبته في أن تستعين بأبويها على اختيار الأفق الأعلى فتبقى معه على هذا الأفق الوضيء . ثم نلمح مشاعرها الأنثوية كذلك ، وهي تطلب إليه ألا يخبر أزواجه الأخريات أنها اختارته حين يخيرهن ! وما في هذا الطلب من رغبة في أن يظهر تفردها في هذا الاختيار ، وميزتها على بقية نسائه ، أو على بعضهن في هذا المقام ! . . وهنا نلمح عظمة النبوة من جانب آخر في رد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وهو يقول لها : " إن الله تعالى لم يبعثني معنفا ، ولكن بعثني معلما ميسرا . لا تسألني واحدة منهن عما اخترت إلا أخبرتها " . . فهو لا يود أن يحجب عن إحدى نسائه ما قد يعينها على الخير ؛ ولا يمتحنها امتحان التعمية والتعسير ؛ بل يقدم العون لكل من تريد العون . كي ترتفع على نفسها ، وتتخلص من جواذب الأرض ومغريات المتاع !
هذه الملامح البشرية العزيزة ينبغي لنا - ونحن نعرض السيرة - ألا نطمسها ، وألا نهملها ، وألا نقلل منقيمتها . فإدراكها على حقيقتها هو الذي يربط بيننا وبين شخصية الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] وشخصيات أصحابه - رضي الله عنهم - برباط حي ، فيه من التعاطف والتجاوب ما يستجيش القلب إلى التأسي العملي والاقتداء الواقعي .
هذا أمر من الله لرسوله ، صلوات الله وسلامه عليه{[23347]} ، بأن يخَيّر نساءه بين أن يفارقهن ، فيذهبن إلى غيره ممن يَحصُل لهن عنده الحياةُ الدنيا وزينتها ، وبين الصبر على ما عنده من ضيق الحال ، ولهن عند الله في ذلك الثواب الجزيل ، فاخترن ، رضي الله عنهن وأرضاهن ، الله ورسوله والدار الآخرة ، فجمع الله لهن بعد ذلك بين خير الدنيا وسعادة الآخرة .
قال{[23348]} البخاري : حدثنا أبو اليمان ، أخبرنا شعيب ، عن الزهري ، قال : أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن ، أن عائشة ، رضي الله عنها ، زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءها حين أمره الله أن يخير أزواجه ، فبدأ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " إني ذاكر لك أمرا ، فلا عليك أن لا تستعجلي حتى تستأمري أبويك " ، وقد عَلمَ أن أبويّ لم يكونا يأمراني بفراقه . قالت : ثم قال : " وإن الله قال : { يا أيها النبي قل لأزواجك } إلى تمام الآيتين ، فقلت له : ففي أي هذا أستأمر أبوي ؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة{[23349]} .
وكذا رواه معلقا عن الليث : حدثني يونس ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن عائشة ، فذكره وزاد : قالت : ثم فعل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مثل ما فعلت{[23350]} .
وقد حكى البخاري أن مَعْمَرًا اضطرب ، فتارة{[23351]} رواه عن الزهري ، عن أبي سلمة ، وتارة رواه عن الزهري ، عن عُرْوَة ، عن عائشة{[23352]} .
وقال ابن جرير : حدثنا أحمد بن عبدة الضَّبِّي ، حدثنا أبو عَوَانة ، عن عمر بن أبي سلمة ، عن أبيه قال : قالت عائشة : لما نزل الخيار قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني أريد أن أذكر لك أمرا ، فلا تقضي فيه شيئا حتى تستأمري أبويك " . قالت : قلت : وما هو يا رسول الله ؟ قال : فردّه عليها . فقالت : فما هو يا رسول الله ؟ قالت : فقرأ عليها : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا } إلى آخر الآية . قالت : فقلت : بل نختار الله ورسوله والدار الآخرة . قالت : ففرح بذلك النبي صلى الله عليه وسلم{[23353]} وحدثنا ابن وَكِيع ، حدثنا محمد بن بشر ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : لما نزلت آية التخيير ، بدأ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : " يا عائشة ، إني عارض عليك أمرًا ، فلا تُفتياني فيه [ بشيء ]{[23354]} حتى تعرضيه على أبويك أبي بكر وأم رومان " . فقلت : يا رسول الله ، وما هو ؟ قال : " قال الله عز وجل : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا . وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا } . قالت : فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة ، ولا أؤامر في ذلك أبويّ أبا بكر وأم رومان ، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم استقرأ الحُجَر فقال : " إن عائشة قالت كذا وكذا " . فقلن : ونحن نقول مثل ما قالت عائشة ، رضي الله عنهن كلهن{[23355]} .
ورواه ابن أبي حاتم ، عن أبي سعيد الأشَجِّ ، عن أبي أسامة ، عن محمد بن عمرو ، به .
قال ابن جرير : وحدثنا سعيد بن يحيى الأموي ، حدثنا أبي ، عن{[23356]} محمد بن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي بكر ، عن عَمرة ، عن عائشة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل إلى نسائه أمر أن يخيرهن ، فدخل عَليَّ فقال : " سأذكر لك أمرا فلا تعجلي حتى تستشيري أباك " . فقلت : وما هو يا نبي الله ؟ قال : " إني أمرت أن أخيركن " ، وتلا عليها آية التخيير ، إلى آخر الآيتين . قالت : فقلت : وما الذي تقول لا تعجلي حتى تستشيري أباك ؟ فإني اختار الله ورسوله ، فَسُرّ بذلك ، وعَرَض على نسائه فتتابعن كُلّهن ، فاخترنَ الله ورسوله{[23357]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا يزيد بن سنان البصري ، حدثنا أبو صالح عبد الله بن صالح ، حدثني الليث ، حدثني عُقَيل ، عن الزهري ، أخبرنَي عُبيد الله بن عبد الله بن أبي ثَور ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، قال : قالت عائشة ، رضي الله عنها : أنزلت آية التخيير فبدأ بي أَوَّلَ امرأة من نسائه ، فقال : " إني ذاكر لك أمرا ، فلا{[23358]} عليك ألا تعجلي حتى تستأمري أبويك " . قالت : قد عَلِم{[23359]} أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه . قالت : ثم قال : " إن الله قال : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ } الآيتين . قالت عائشة : فقلت : أفي هذا أستأمر أبويّ ؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة . ثم خير نساءه كلهن ، فقلن مثل ما قالت عائشة ، رضي الله عنهن .
وأخرجه البخاري ومسلم جميعا ، عن قتيبة ، عن الليث ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة مثله{[23360]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن مسلم بن صَبِِيح ، عن مسروق ، عن عائشة قالت : خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترناه ، فلم يعدها علينا شيئا . أخرجاه من حديث الأعمش{[23361]}
[ وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو عامر عبد الملك بن عمرو ، حدثنا زكريا بن إسحاق ، عن أبي الزبير ، عن جابر قال : أقبل أبو بكر ، رضي الله عنه ، يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس ببابه جلوس ، والنبي صلى الله عليه وسلم جالس : فلم يؤذن له . ثم أقبل عمر فاستأذن فلم يؤذن له . ثم أذن لأبي بكر وعمر فدخلا والنبي صلى الله عليه وسلم جالس وحوله نساؤه ، وهو ساكت ، فقال عمر : لأكلمن النبي صلى الله عليه وسلم لعله يضحك ، فقال عمر : يا رسول الله ، لو رأيت ابنة زيد - امرأة عمر - سألتني النفقة آنفا ، فوجأت عنقها . فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدا ناجذه{[23362]} وقال : «هن حولي يسألنني النفقة » . فقام أبو بكر ، رضي الله عنه ، إلى عائشة ليضربها ، وقام عمر ، رضي الله عنه ، إلى حفصة ، كلاهما يقولان : تسألان النبي صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده . فنهاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلن نساؤه : والله لا نسأل رسول الله بعد هذا المجلس ما ليس عنده . قال : وأنزل الله ، عز وجل ، الخيار ، فبدأ بعائشة فقال : «إني أذكر لك أمرًا ما أحب أن تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك » . قالت : وما هو ؟ قال : فتلا عليها : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ } الآية ، قالت عائشة ، رضي الله عنها : أفيك أستأمر أبوي ؟ بل أختار الله ورسوله ، وأسألك ألا تذكر لامرأة من نسائك ما اخترت . فقال : " إن الله تعالى لم يبعثني معنفًا ، ولكن بعثني معلمًا ميسرًا{[23363]} ، لا تسألني امرأة منهن عما اخترتِ إلا أخبرتُها " .
انفرد بإخراجه مسلم دون البخاري ، فرواه هو والنسائي ، من حديث زكريا بن إسحاق المكي ، به{[23364]} .
وقال عبد الله بن الإمام أحمد : حدثنا سُرَيْج بن يونس ، حدثنا علي بن هاشم بن البريد ، عن محمد بن عبيد [ الله بن علي ]{[23365]} بن أبي رافع ، عن عثمان بن علي بن الحسين ، عن أبيه ، عن علي ، رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خَيَّر نساءه الدنيا والآخرة ، ولم يخيرهن الطلاق{[23366]} .
وهذا منقطع ، وقد رُوي عن الحسن وقتادة وغيرهما نحو ذلك . وهو خلاف الظاهر من الآية ، فإنه قال : { فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا } أي : أعطيكن حقوقكن وأطلق سراحكن .
وقد اختلف العلماء في جواز تزويج غيره لهن لو طلقهن ، على قولين ، وأصحهما نعم لو وقع ، ليحصل المقصود من السراح ، والله أعلم .
قال عكرمة : وكان تحته يومئذ تسع نسوة ، خمس من قريش : عائشة ، وحفصة ، وأم حبيبة ، وسودة ، وأم سلمة ، وكانت تحته صلى الله عليه وسلم صفية بنت حُيَيّ النَّضَريَّة ، وميمونة بنت الحارث الهلالية ، وزينب بنت جحش الأسدية ، وجويرية بنت الحارث المصطلقية ، رضي الله عنهن وأرضاهن .
[ ولم يتزوج واحدة منهن ، إلا بعد أن توفيت خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب ، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ، وهو ابن خمس وعشرين سنة ، وبقيت معه إلى أن أكرمه الله برسالته فآمنت به ونصرته ، وكانت له وزير صدق ، وماتت قبل الهجرة بثلاث سنين ، رضي الله عنها ، في الأصح ، ولها خصائص منها : أنه لم يتزوج عليها غيرها ، ومنها أن أولاده كلهم منها ، إلا إبراهيم ، فإنه من سريته مارية ، ومنها أنها خير نساء الأمة .
واختلف في تفضيلها على عائشة على ثلاثة أقوال ، ثالثها الوقف .
وسئل شيخنا أبو العباس بن تيمية عنهما فقال : اختصت كل واحدة منهما بخاصية ، فخديجة كان تأثيرها في أول الإسلام ، وكانت تُسلِّي رسول الله صلى الله عليه وسلم وتثبته ، وتسكنه ، وتبذل دونه مالها ، فأدركت غُرة الإسلام ، واحتملت الأذى في الله وفي رسوله وكان نصرتها للرسول في أعظم أوقات الحاجة ، فلها من النصرة والبذل ما ليس لغيرها . وعائشة تأثيرها في آخر الإسلام ، فلها من التفقه في الدين وتبليغه إلى الأمة ، وانتفاع بنيها بما أدَّت إليهم من العلم ، ما ليس لغيرها . هذا معنى كلامه ، رضي الله عنه .
ومن خصائصها : أن الله ، سبحانه ، بعث إليها السلام مع جبريل ، فبلغها رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك . روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : أتى جبريل ، عليه السلام ، النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، هذه خديجة ، قد أتت معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب ، فإذا هي أتتك فأقرأها السلام من ربها ومني ، وبشرها ببيت في الجنة ، من قَصَب ، لا صَخَب فيه ولا نَصَب{[23367]} وهذه لعَمْر الله خاصة ، لم تكن لسواها . وأما عائشة ، رضي الله عنها ، فإن جبريل سلَّم عليها على لسان النبي صلى الله عليه وسلم ، فروى البخاري بإسناده أن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا : " يا عائشة ، هذا جبريل يقرئك السلام " . فقلت : وعليه السلام ورحمة الله وبركاته ، ترى ما لا أرى ، تريد رسول الله صلى الله عليه وسلم{[23368]} . ومن خواص خديجة ، رضي الله عنها : أنه لم تسوءه قط ، ولم تغاضبه ، ولم ينلها منه إيلاءً ، ولا عتب قط ، ولا هجر ، وكفى بهذه منقبة وفضيلة .
ومن خواصها : أنها أول امرأة آمنت بالله ورسوله من هذه الأمة .
فلمَّا توفاها الله تزوج بعدها سودة بنت زمعة ، رضي الله عنها ، وهي سودة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن جبل بن عامر بن لؤي ، وكبرت عنده ، وأراد طلاقها فوهبت يومها لعائشة ، فأمسكها . وهذا من خواصها : أنها آثرت بيومها حب النبي صلى الله عليه وسلم تقربًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحبا له ، وإيثارا لمقامها معه ، فكان يقسم لعائشة يومها ويوم سودة ، ويقسم لنسائه ، ولا يقسم لها وهي راضية بذلك مؤثرة ، لترضي رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وتزوج الصديقة بنت الصديق عائشة بنت أبي بكر ، رضي الله عنهما ، وهي بنت ست سنين قبل الهجرة بسنتين ، وقيل : بثلاث ، وبنى بها بالمدينة أول مقدمه في السنة الأولى ، وهي بنت تسع ، ومات عنها وهي بنت ثمان عشرة ، وتوفيت بالمدينة ، ودفنت بالبقيع ، وأوصت أن يصلي عليها أبو هريرة سنة ثمان وخمسين ، ومن خصائصها : أنها كانت أحب أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه ، كما ثبت ذلك عنه في البخاري وغيره ، أنه سئل أي الناس أحب إليك ؟ قال : " عائشة " . قيل : فمن الرجال ؟ قال : " أبوها " {[23369]} .
ومن خصائصها أيضا : أنه لم يتزوج بكرا غيرها ، ومن خصائصها : أنه كان ينزل عليه الوحي وهو في لحافها دون غيرها .
ومن خصائصها : أن الله ، عز وجل ، لما أنزل عليه آية التخيير بدأ بها فخيرها ، فقال : " ولا عليك ألا تعجلي حتى تستأمري أبويك " . فقالت : أفي هذا أستأمر أبويَّ ، فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة . فاستن بها بقية أزواجه صلى الله عليه وسلم ، وقلن كما قالت .
ومن خصائصها : أن الله ، سبحانه ، برأها مما رماها به أهل الإفك ، وأنزل في عذرها ، وبراءتها ، وحيا يتلى في محاريب المسلمين ، وصلواتهم إلى يوم القيامة ، وشهد لها أنها من الطيبات ، ووعدها المغفرة والرزق الكريم ، وأخبر سبحانه ، أن ما قيل فيها من الإفك كان خيرًا لها ، ولم يكن بذلك الذي قيل فيها شر لها ، ولا عيب لها ، ولا خافض من شأنها ، بل رفعها الله بذلك ، وأعلى قدرها وعظم شأنها ، وأصار لها ذكرًا بالطيب والبراءة بين أهل الأرض والسماء ، فيا لها من منقبة ما أجلها . وتأمل هذا التشريف والإكرام الناشئ عن فرط تواضعها واستصغارها لنفسها ، حيث قالت : ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيَّ بوحي يتلى ، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا يبرئني الله بها ، فهذه صديقة الأمة ، وأم المؤمنين ، وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهي تعلم أنها بريئة مظلومة ، وأن قاذفيها ظالمون مفترون عليها ، قد بلغ أذاهم إلى أبويها ، وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا كان احتقارها لنفسها وتصغيرها لشأنها ، فما ظنك بمن قد صام يوما أو يومين ، أو شهرا أو شهرين ، قد قام ليلة أو ليلتين ، فظهر عليه شيء من الأحوال ، ولاحظوا أنفسهم بعين استحقاق الكرامات ، وأنهم ممن يتبرك بلقائهم ، ويُغتنم بصالح دعائهم ، وأنهم يجب على الناس احترامهم وتعظيمهم وتعزيزهم وتوقيرهم ، فيتمسح بأثوابهم ، ويقبل ثرى أعتابهم ، وأنهم من الله بالمكانة التي تنتقم لهم لأجلها من تنقصهم في الحال ، وأن يؤخذ من أساء الأدب عليهم من غير إمهال ، وإن إساءة الأدب عليهم ذنب لا يكفره شيء إلا رضاهم .
ولو كان هذا من وراء كفاية لهان ، ولكن من وراء تخلف ، وهذه الحماقات والرعونات نتاج الجهل الصميم ، والعقل غير المستقيم ، فإن ذلك إنما يصدر من جاهل معجب بنفسه ، غافل عن جرمه وعيوبه وذنوبه ، مغتر بإمهال الله له عن أخذه بما هو فيه من الكبر والازدراء على من لعله عند الله خير منه . نسأل الله العافية في الدنيا والآخرة . وينبغي للعبد أن يستعيذ بالله أن يكون عند نفسه عظيما ، وهو عند الله حقير ، ومن خصائص عائشة ، رضي الله عنها : أن الأكابر من الصحابة ، رضي الله عنهم ، كان إذا أشكل الأمر عليهم من الدين ، استفتوها فيجدون علمه عندها .
ومن خصائصها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي في بيتها . ومن خصائصها : أن الملك أرى صورتها للنبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يتزوجها في خرقة حرير ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إن يكن هذا من عند الله يمضه »{[23370]} . ومن خصائصها : أن الناس كانوا يتحرون هداياهم يومها من رسول الله صلى الله عليه وسلم تقربًا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، فيتحفونه بما يحب في منزل أحب نسائه إليه ، رضي الله عنهم أجمعين ، وتكنى أم عبد الله ، وروي أنها أسقطت من النبي صلى الله عليه وسلم سقطًا ، ولا يثبت ذلك .
وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة بنت عمر بن الخطاب ، وكانت قبله عند حبيش بن حذافة ، وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وممن شهد بدرا ، توفيت سنة سبع ، وقيل : ثمان وعشرين ، ومن خواصها : ما ذكره الحافظ أبو محمد المقدسي في مختصره في السيرة : أن النبي صلى الله عليه وسلم طلقها ، فأتاه جبريل فقال : إن الله يأمرك أن تراجع حفصة ، فإنها صوامة قوامة وإنها زوجتك في الجنة .
وقال الطبراني في المعجم الكبير : حدثنا أحمد بن طاهر بن حرملة بن يحيى ، حدثنا جدي حرملة ، حدثنا ابن وهب ، حدثنا عمرو بن صالح الحضرمي ، عن موسى بن علي بن رباح ، عن أبيه ، عن عقبة بن عامر ، أن النبي صلى الله عليه وسلم طلق حفصة ، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب ، فوضع التراب على رأسه ، وقال : ما يعبأ الله بابن الخطاب بعد هذا . فنزل جبريل ، عليه السلام ، على النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن الله يأمرك أن تراجع حفصة رحمة لعمر . {[23371]}
وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان ، واسمها رملة بنت صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف ، هاجرت مع زوجها عبد الله بن جحش إلى أرض الحبشة ، فتنصر بالحبشة ، وأتم الله لها الإسلام ، وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي بأرض الحبشة ، وأصدقها عند النجاشي أربعمائة دينار ، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري بها إلى أرض الحبشة ، وولى نكاحها عثمان بن عفان ، وقيل : خالد بن سعيد بن العاص ، وهي التي أكرمت فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجلس عليه أبوها لما قدم أبو سفيان المدينة ، وقالت له : إنك مشرك ، ومنعته الجلوس عليه .
وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم سلمة واسمها هند بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب ، وكانت قبله عند أبي سلمة بن عبد الأسد ، توفيت سنة اثنتين وستين ، ودفنت بالبقيع ، وهي آخر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم موتًا ، وقيل : بل ميمونة ، ومن خصائصها : أن جبريل دخل على النبي صلى الله عليه وسلم ، وهي عنده فرأته في صورة دحية الكلبي . ففي صحيح مسلم عن أبي عثمان قال : أنبئت أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم ، وعنده أم سلمة ، فقال : فجعل يتحدث ، ثم قام فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم لأم سلمة : " من هذا ؟ " أو كما قال . قالت : هذا دحية الكلبي . قالت : وايم الله ، ما حسبته إلا إياه ، حتى سمعت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم ، يخبر أنه جبريل ، أو كما قال ، قال سليمان التيمي : فقلت لأبي عثمان : ممن سمعت هذا الحديث ؟ قال : من أسامة بن زيد{[23372]} وزوَّجها ابنها - عمر - من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وردت طائفة ذلك بأن ابنها لم يكن له من السن حينئذ ما يعقد التزويج ، ورد الإمام أحمد ذلك ، وأنكر على من قاله ، ويدل على صحة قول أحمد ما رواه مسلم في صحيحه أن عمر بن أبي سلمة - ابنها - سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن القبلة للصائم ؟ فقال : " سل هذه " يعني : أم سلمة فأخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله ، فقال : لسنا كرسول الله صلى الله عليه وسلم ، يحل الله لرسوله ما شاء . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني أتقاكم لله وأعلمكم به " {[23373]} أو كما قال . ومثل هذا لا يقال لصغير جدا ، وعمر ولد بأرض الحبشة قبل الهجرة . وقال البيهقي : وقول من زعم أنه كان صغيرا ، دعوى ولم يثبت صغره بإسناد صحيح .
وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش من بني خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر ، وهي بنت عمته أميمة بنت عبد المطلب ، وكانت قبل عند مولاه زيد بن حارثة ، فطلقها فزوجه الله إياها من فوق سبع سموات ، وأنزل عليه : { فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا } فقام فدخل عليها بلا استئذان ، وكانت تفخر بذلك على سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، وتقول : زوَّجكن أهاليكن وزوَّجني الله من فوق سبع سمواته ، وهذا من خصائصها . توفيت بالمدينة سنة عشرين ، ودفنت بالبقيع .
وتزوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت خزيمة الهلالية ، وكانت تحت عبد الله بن جحش ، تزوجها سنة ثلاث من الهجرة ، وكانت تسمى أم المساكين ، ولم تلبث عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا يسيرا ، شهرين أو ثلاثة ، وتوفيت ، رضي الله عنها .
وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم جويرية بنت الحارث من بني المصطلق ، وكانت سبيت في غزوة بني المصطلق ، فوقعت في سهم ثابت بن قيس ، فكاتبها ، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابتها ، وتزوجها سنة ست من الهجرة ، وتوفيت سنة ست وخمسين ، وهي التي أعتق المسلمون بسببها مائة أهل بيت من الرقيق ، وقالوا : أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان ذلك من بركتها على قومها .
وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية بنت حيي ، من ولد هارون بن عمران أخي موسى ، سنة سبع ، فإنها سبيت من خيبر ، وكانت قبله تحت كنانة بن أبي الحقيق ، فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، توفيت سنة ست وثلاثين ، وقيل : سنة خمسين . ومن خصائصها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتقها وجعل عتقها صداقها . قال أنس : أمهرها نفسها ، وصار ذلك سنة للأمة إلى يوم القيامة ، ويجوز للرجل أن يجعل عتق جاريته صداقها ، وتصير زوجته على منصوص الإمام أحمد ، رحمه الله . قال الترمذي : حدثنا إسحاق بن منصور ، وعبد بن حميد ، قالا حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر ، عن ثابت ، عن أنس قال : بلغ صفية أن حفصة قالت : صفية بنت يهودي ، فبكت ، فدخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم وهي تبكي فقال : " ما يبكيك ؟ " قالت : قالت لي حفصة : إني ابنة يهودي . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إنك لابنة نبي وإن عمك لنبي ، وإنك لتحت نبي ، فبما تفخر عليك ؟ » ثم قال : «اتق الله يا حفصة » . {[23374]} قال الترمذي : هذا حديث صحيح غريب من هذا الوجه . وهذا من خصائصها ، رضي الله عنها .
وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة بنت الحارث الهلالية ، تزوجها بسَرَف وهو على تسعة أميال من مكة ، وهي آخر من تزوج من أمهات المؤمنين ، توفيت سنه ثلاث وستين ، وهي خالة خالد بن الوليد ، وخالة ابن عباس ، فإن أمه أم الفضل بنت الحارث وهي التي اختلف في نكاح النبي صلى الله عليه وسلم لها . هل نكحها حلالا أو مُحرمًا ؟ والصحيح إنما تزوجها حلالا كما قال أبو رافع الشفير في نكاحها .
قال الحافظ أبو محمد المقدسي وغيره : وعقد على سبع ولم يدخل بهن ، فالصلاة على أزواجه تابعة لاحترامهن وتحريمهن على الأمة ، وأنهن نساؤه صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة ، فمن فارقها في حياتها ولم يدخل ، لا يثبت لها أحكام زوجاته اللاتي دخل بهن صلى الله عليه وعلى أزواجه وآله وذريته وسلم تسليما ] . {[23375]}
اختلف الناس في سبب هذه الآية ، فقالت فرقة سببها غيرة غارتها عائشة ، وقال ابن زيد وقع بين أزواجه عليه السلام تغاير ونحوه مما شقي هو به فنزلت الآية بسبب ذلك ، ويسر الله له أن يصرف إرادته في أن يؤوي إليه من يشاء ، وقال ابن الزبير : نزل ذلك بسبب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله أزواجه النفقة وتشططن في تكليفه منها فوق وسعه ، وقالت فرقة بل سبب ذلك أنهن طلبن منه ثياباً وملابس وقالت واحدة : لو كنا عند غير النبي لكان لنا حلي ومتاع . وقال بعض الناس : هذه الآية أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتلاوتها عليهن وتخييرهن بين الدنيا والآخرة وأمر الطلاق مرجاً فلو اخترن أنفسهن نظر هو كيف يسرحهن وليس فيها تخييرهن في الطلاق ، لأن التخيير يتضمن ثلاث تطليقات وهو قد قال { وأسرحكن سراحاً جميلاً } وليس مع بت الطلاق سراح جميل ، وقالت فرقة : بل هي آية تخيير فاخترته ولم يعد ذلك طلاقاً وهو قول عائشة أيضاً . واختلف الناس في التخيير إذا اختارت المرأة نفسها ، فقال مالك : هي طالق ثلاثاً ولا مناكرة للزوج بخلاف التمليك ، وقال غيره هي طلقة بائنة ، وقال بعض الصحابة إذا خير الرجل امرأته فاختارته فهي طلقة وهذا مخالف جداً .
يستخلص مما ذكره ابن عطية رواية عن ابن الزبير ومما ذكره أبو حيان في « البحر المحيط » وغير ذلك : أن وجه اتصال هذه الآيات بما قبلها أنه لما فُتحت على المسلمين أرض قريظة وغنموا أموالهم وكانت أرض النضير قُبيل ذلك فَيْئاً للنبيء صلى الله عليه وسلم حسب أزواج رسول الله أن مثَلَه مَثَل أحد من الرجال إذا وُسّع عليهم الرزق توسَّعوا فيه هم وعيالهم فلم يكن أزواج النبي عليه الصلاة والسلام يسألنَه توسعة قبل أن يفيء الله عليه من أهل النضير وقبل أن يكون له الخمس من الغنائم ، فلما رأين النبي صلى الله عليه وسلم جعل لنفسه ولأزواجه أقواتهم من مال الله ورأين وفرة ما أفاءَ الله عليه من المال حسبْنَ أنه يوسِّع في الإنفاق فصار بعضهُنّ يستكثرنه من النفقة كما دل عليه قول عمر لحفصة ابنته أمّ المؤمنين : « لا تستكثري النبي ولا تُراجعيه في شيء وسَلِيني ما بَدا لكِ » . ولكن الله أقام رسوله صلى الله عليه وسلم مقاماً عظيماً فلا يتعلق قلبه بمتاع الدنيا إلا بما يقتضيه قوام الحياة وقد كان يقول : " ما لي وللدنيا " وقال : " حُبِّبَ إليّ من دنياكم النساء والطيب " . وقد بينتُ وجه استثناء هذين في رسالة كتبتُها في الحكمة الإلهية من رياضة الرسول عليه الصلاة والسلام نفسه بتقليل الطعام .
وقال عمر : « كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يُوجِف المسلمون عليه من خَيْل ولا رِكاب فكانت لرسول الله خالصة ينفق منها على أهله نفقة سنتهم ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عُدة للمسلمين » . وقد علمتَ أن أرض قريظة قسمت على المهاجرين بحُكْم سعد بن معاذ ، فلعل المهاجرين لما اتسعت أرزاقهم على أزواجهم أمّل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يكنَّ كالمهاجرين فأراد الله أن يعلمهُنّ سِيرة الصالحات في العيش وغيره . وقد روي أن بعضهن سألْنَه أشياء من زينة الدنيا فأوحى إلى رسوله بهذه الآيات المتتابعات . وهذا مما يؤذن به وقعُ هذه الآيات عقب ذكر وقعة قريظة وذكر الأرض التي لم يَطؤوها وهي أرض بني النضير .
وإذ قد كان شأن هذه السيرة أن يشق على غالب الناس وخاصة النساء أمَر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن ينبىء أزواجه بها ويخيّرهُنّ عن السّيْر عليها تبعاً لحاله وبين أن يفارقَهُنّ . لذا فافتتاحُ هذه الأحكام بنداء النبي صلى الله عليه وسلم ب : { يا أيها النبي } تنبيه على أن ما سيذكر بعد النداء له مزيد اختصاص به وهو غرض تحديد سيرة أزواجه معه سيرة تناسب مرتبة النبوءة ، وتحديد تزوجه وهو الغرض الثاني من الأغراض التي تقدم ذكرها في قوله { يا أيها النبي اتق الله } [ الأحزاب : 1 ] .
والأزواج المعنيات في هذه الآية هن أزواجه التسع اللاتي تُوفّي عليهن . وهن : عائشة بنت أبي بكر الصديق ، وحفصة بنت عمر بن الخطاب ، وأم حبيبة بنت أبي سفيان ، وأم سَلَمة بنت أمية المخزومية ، وجويرية بنت الحارث الخزاعية ، وميمونة بنت الحارث الهلالية من بني عامر بن صعصعة ، وسَوْدة بنت زَمعة العامرية القرشية ، وزينبُ بنت جَحْش الأسدية ، وصفية بنت حُيَيّ النضيرية . وأما زينب بنت خزيمة الهلالية الملقبة أمّ المساكين فكانت متوفاة وقت نزول هذه الآية .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن} يقول كما يمتع الرجل امرأته إذا طلقها سوى المهر {وأسرحكن سراحا جميلا} يقول: حسنا في غير ضرار.
ابن العربي: قال ابن القاسم، وابن وهب: قال مالك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة: (ابعثي إلى أبويك). فقالت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم؟ فقال: (إن الله أمرني أن أخيركن) فقالت: إني أختار الله ورسوله، فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك. فقالت له عائشة: يا رسول الله، إن لي إليك حاجة، لا تخير من نسائك تحب أن تفارقني، فخيرهن رسول الله صلى الله عليه وسلم جميعا، فكلهن اخترنه، قالت عائشة: خيرنا فاخترناه، فلم يكن طلاقا.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: "قُلْ "يا محمد لأزْوَاجِكَ إنْ كُنْتنّ تُرِدْنَ الحَياةَ الدّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمّتّعْكُنّ "يقول فإني أمتعكن ما أوجب الله على الرجال للنساء من المتعة عند فراقهم إياهنّ بالطلاق بقوله: "وَمَتّعُوهُنّ على المُوسِعِ قَدَرُهُ، وَعلى المُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعا بالمَعْرُوفِ حَقّا على المُحْسِنِينَ"، وقوله: "وأُسَرّحْكُنّ سَراحا جَمِيلاً" يقول: وأطلقكنّ على ما أذن الله به، وأدّب به عباده بقوله: "إذَا طَلّقْتُمُ النّساءَ فَطَلّقُوهُنّ لِعِدّتِهِنّ". "وَإنْ كُنْتُنّ تُرِدْنَ اللّهَ وَرَسُولَهُ" يقول: وإن كنتنّ تردن رضا الله ورضا رسوله وطاعتهما فأطعنهما، "فإنّ اللّهَ أعَدّ للْمُحْسِناتِ مِنْكُنّ" وهن العاملات منهنّ بأمر الله وأمر رسوله "أجْرا عَظِيما"...
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن أبي الزبير، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخرج صلوات، فقالوا: ما شأنه؟ فقال عمر: إن شئتم لأعلمنّ لكم شأنه فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فجعل يتكلم ويرفع صوته، حتى أذن له. قال: فجعلت أقول في نفسي: أيّ شيء أكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم لعله يضحك، أو كلمة نحوها؟ فقلت: يا رسول الله لو رأيت فلانة وسألتني النفقة فصككتها صكة، فقال: «ذلكَ حَبَسَنِي عَنكُمْ» قال: فأتى حفصة، فقال: لا تسألي رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا، ما كانت لك من حاجة فإليّ ثم تتبع نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم، فجعل يكلمهنّ، فقال لعائشة: أيغرّك أنك امرأة حسناء، وأن زوجك يحبك؟ لتنتهينّ، أو لينزلنّ فيك القرآن قال: فقالت أمّ سلمة: يا ابن الخطّاب، أو مَا بقي لك إلاّ أن تدخل بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين نسائه، ولن تسأل المرأة إلا لزوجها قال: ونزل القرآن "يا أيّها النّبِيّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إنْ كُنْتنّ تُرِدْنَ الحَياةَ الدّنْيا وَزِينَتَهَا..." إلى قوله "أجْرا عَظِيما" قال: فبدأ بعائشة فخيرها، وقرأ عليها القرآن، فقالت: هل بدأت بأحد من نسائك قبلي؟ قال: «لا»، قالت: فإني أختار الله ورسوله، والدار الآخرة، ولا تخبرهنّ بذلك قال: ثم تتبعهنّ فجعل يخيرهنّ ويقرأ عليهنّ القرآن، ويخبرهن بما صنعت عائشة، فتتابعن على ذلك...
حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا محمد بن بشر، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن عائشة، قالت: لما نزلت آية التخيير، بدأ النبيّ صلى الله عليه وسلم بعائشة، فقال: «يا عائِشَةُ إنّي عارضٌ عَلَيْكِ أمْرا فَلا تَفْتاتِي فِيهِ بشَيْءٍ حتى تَعْرِضِيهِ على أبَوَيْكِ، أبي بَكْر وأُمّ رُومانَ» فقالت: يا رسول الله وما هو؟ قال: قال الله "يا أيّها النّبِي قُلْ لأَزْوَاجكَ إنْ كُنْتُنّ تُرِدْنَ الحَياةَ الدّنْيا وَزينَتَها" إلى "عَظِيما"، فقلت: إني أريد الله ورسوله والدار الآخرة، ولا أؤامر في ذلك أبويّ أبا بكر وأمّ رومان، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم استقرأ الحُجَرَ فقال: «إن عائشة قالت كذا»، فقلن: ونحن نقول مثل ما قالت عائشة.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
لم يُرِدْ أن يكونَ قلبُ أحد من المؤمنين والمؤمنات منه في شُغل، أو يعود إلى أحد منه أذى أو تعب.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
أردن شيئاً من الدنيا من ثياب وزيادة نفقة وتغايرن، فغم ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت. فبدأ بعائشة رضي الله عنها -وكانت أحبهنّ إليه- فخيرها وقرأ عليها القرآن، فاختارت الله ورسوله والدار الآخرة، فرؤي الفرح في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم اختارت جميعهنّ اختيارها، فشكر لهنّ الله ذلك، فأنزل {لاَّ يَحِلُّ لَكَ النساء مِن بَعْدُ وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} [الأحزاب: 52].
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
وَفِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ صَانَ خَلْوَةَ نَبِيِّهِ، وَخَيَّرَهُنَّ أَلَّا يَتَزَوَّجْنَ بَعْدَهُ؛ فَلَمَّا اخْتَرْنَهُ أَمْسَكَهُنَّ؛ قَالَهُ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ.
الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَيَّرَ نَبِيَّهُ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ فَجَاءَهُ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِخَزَائِنِ الْأَرْضِ بِمَفَاتِحِهَا، وَقَالَ لَهُ: إنَّ اللَّهَ خَيَّرَك بَيْنَ أَنْ تَكُونَ نَبِيًّا مَلَكًا، وَبَيْنَ أَنْ تَكُونَ عَبْدًا نَبِيًّا. فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى جِبْرِيلَ كَالْمُسْتَشِيرِ، فَأَشَارَ إلَيْهِ أَنْ تَوَاضَعْ فَقُلْت: بَلْ نَبِيًّا عَبْدًا، أَجُوعُ يَوْمًا وَأَشْبَعُ يَوْمًا. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا، وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا، وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ). فَلَمَّا اخْتَارَ ذَلِكَ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِتَخْيِيرِ أَزْوَاجِهِ لِيَكُنَّ عَلَى مِثَالِهِ؛ قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ.
الثَّالِثُ:... مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: جَاءَ أَبُو بَكْرٍ يَسْتَأْذِنُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدَ النَّاسَ جُلُوسًا عِنْدَ بَابِهِ لَمْ يَأْذَنْ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ قَالَ: فَأَذِنَ لِأَبِي بَكْرٍ، فَدَخَلَ، ثُمَّ أَقْبَلَ عُمَرُ فَاسْتَأْذَنَ فَأُذِنَ لَهُ بِالدُّخُولِ، فَوَجَدَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا وَحَوْلَهُ نِسَاؤُهُ، وَاجِمًا سَاكِتًا قَالَ: فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَأَقُولَنَّ شَيْئًا يُضْحِكُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ: أَرَأَيْت يَا رَسُولَ اللَّهِ بِنْتُ خَارِجَةَ، سَأَلَتْنِي النَّفَقَةَ فَقُمْت إلَيْهَا فَوَجَأْت عُنُقَهَا، فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: (هُنَّ حَوْلِي كَمَا تَرَى يَسْأَلْنَنِي النَّفَقَةَ. فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ إلَى عَائِشَةَ يَجَأُ عُنُقَهَا، وَقَامَ عُمَرُ إلَى حَفْصَةَ يَجَأُ عُنُقَهَا، كِلَاهُمَا يَقُولُ: تَسْأَلْنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ، ثُمَّ اعْتَزَلَهُنَّ شَهْرًا، ثُمَّ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ آيَةُ التَّخْيِيرِ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِك إنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} ).
الرَّابِعُ: أَنَّ أَزْوَاجَهُ اجْتَمَعْنَ يَوْمًا فَقُلْنَ: نُرِيدُ مَا تُرِيدُ النِّسَاءُ من الْحُلِيِّ وَالثِّيَابِ، حَتَّى قَالَ بَعْضُهُنَّ: لَوْ كُنَّا عِنْدَ غَيْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكَانَ لَنَا حُلِيٌّ وَثِيَابٌ وَشَأْنٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى تَخْيِيرَهُنَّ؛ قَالَهُ النَّقَّاشُ.
الْخَامِسُ: أَنَّ أَزْوَاجَهُ اجْتَمَعْنَ فِي الْغَيْرَةِ عَلَيْهِ، فَحَلَفَ أَلَّا يَدْخُلَ عَلَيْهِنَّ شَهْرًا، وَنَصُّهُ مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي ثَوْرٍ عن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمْ أَزَلْ حَرِيصًا عَلَى أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ عن الْمَرْأَتَيْنِ من أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّتَيْنِ فِيهِمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنْ تَتُوبَا إلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} فَمَكَثْت سَنَةً مَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَسْأَلَهُ هَيْبَةً لَهُ، حَتَّى حَجَّ عُمَرُ وَحَجَجْت مَعَهُ، فَلَمَّا كَانَ بِمَرِّ الظَّهْرَانِ عَدَلَ عُمَرُ إلَى الْأَرَاك، فَقَالَ: أَدْرِكْنِي بِإِدَاوَةٍ من مَاءٍ، فَأَتَيْته بِهَا وَعَدَلْت مَعَهُ بِالْإِدَاوَةِ، فَتَبَرَّزَ عُمَرُ ثُمَّ أَتَانِي، فَسَكَبْت عَلَى يَدِهِ الْمَاءَ فَتَوَضَّأَ، فَقُلْت: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؛ مَنْ الْمَرْأَتَانِ من أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّتَانِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنْ تَتُوبَا إلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا}، فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَك عن هَذَا مُنْذُ سَنَةٍ فَمَا أَسْتَطِيعُ هَيْبَةً لَك. فَقَالَ عُمَرُ: وَاعجَبَا لَك يَا ابْنَ عَبَّاسٍ لَا تَفْعَلْ، مَا ظَنَنْت أَنَّ عِنْدِي فِيهِ عِلْمًا فَسَلْنِي عَنْهُ، فَإِنْ كُنْت أَعْلَمُهُ أَخْبَرْتُك. قَالَ الزُّهْرِيُّ: كَرِهَ وَاَللَّهِ مَا سَأَلَهُ عَنْهُ وَلَمْ يَكْتُمْهُ؛ قَالَ: هُمَا وَاَللَّهِ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ، ثُمَّ أَخَذَ يَسُوقُ الْحَدِيثَ. قَالَ: كُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَغْلِبُ النِّسَاءَ فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، فَوَجَدْنَا قَوْمًا تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ، فَطَفِقَ نِسَاؤُنَا يَتَعَلَّمْنَ من نِسَائِهِمْ؛ قَالَ: وَكَانَ مَنْزِلِي فِي بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ بِالْعَوَالِي فَتَغَيَّظْتُ يَوْمًا عَلَى امْرَأَتِي، وَذَلِكَ أَنِّي كُنْت فِي أَمْرٍ أُرِيدُهُ قَالَتْ لِي: لَوْ صَنَعْت كَذَا. فَقُلْت لَهَا: مَالَك أَنْتِ وَلِهَذَا وَتَكَلُّفُك فِي أَمْرٍ أُرِيدُهُ، فَإِذَا هِيَ تُرَاجِعُنِي، فَقَالَتْ: مَا تُنْكِرُ أَنْ أُرَاجِعَك، فَوَاَللَّهِ إنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُرَاجِعْنَهُ، وَتَهْجُرُهُ إحْدَاهُنَّ يَوْمَهَا إلَى اللَّيْلِ. فَأَخَذْت رِدَائِي، وَشَدَدْت عَلَيَّ ثِيَابِي، فَانْطَلَقْت، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ الْحِجَابُ، فَدَخَلْت عَلَى عَائِشَةَ، فَقُلْت لَهَا: يَا بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ، قَدْ بَلَغَ من شَأْنِك أَنْ تُؤْذِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَتْ: مَالِي وَلَك يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، عَلَيْك بِعَيْبَتِك. فَدَخَلْت عَلَى حَفْصَةَ، فَقُلْت: قَدْ بَلَغَ من شَأْنِك أَنْ تُؤْذِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَتُرَاجِعِينَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ: نَعَمْ. فَقُلْت: أَتَهْجُرُهُ إحْدَاكُنَّ الْيَوْمَ إلَى اللَّيْلِ، فَقَالَتْ: نَعَمْ. قُلْت: قَدْ خَابَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْكُنَّ وَخَسِرَتْ، أَفَتَأْمَنُ إحْدَاكُنَّ أَنْ يَغْضَبَ اللَّهُ عَلَيْهَا لِغَضَبِ رَسُولِ اللَّهِ، فَإِذَا هِيَ قَدْ هَلَكَتْ، لَا تُرَاجِعِي رَسُولَ اللَّهِ وَلَا تَسْأَلِيهِ شَيْئًا، وَاسْأَلِينِي مَا بَدَا لَك، وَلَا يَغُرَّنَّكِ أَنْ كَانَتْ جَارَتُك هَذِهِ الَّتِي أَعْجَبَهَا حُسْنُهَا وَحُبُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيَّاهَا؛ هِيَ أَوْسَمُ مِنْك، وَأَحَبُّ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْك يُرِيدُ عَائِشَةَ، لَقَدْ عَلِمْت أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُحِبُّك، وَلَوْلَا أَنَا لَطَلَّقَك؛ فَبَكَتْ أَشَدَّ الْبُكَاءِ، وَدَخَلْت عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ لِقَرَابَتِي مِنْهَا فَكَلَّمْتهَا، فَقَالَتْ لِي: وَاعْجَبَا لَك يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، قَدْ دَخَلْت فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى تَبْغِي أَنْ تَدْخُلَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ أَزْوَاجِهِ؛ وَإِنَّهُ كَسَرَنِي ذَلِكَ عن بَعْضِ مَا كُنْت أَجِدُ، وَكَانَ لِي جَارٌ من الْأَنْصَارِ، فَكُنَّا نَتَنَاوَبُ فِي النُّزُولِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَنْزِلُ يَوْمًا وَأَنْزِلُ يَوْمًا، وَيَأْتِينِي بِخَبَرِ الْوَحْيِ، وَآتِيهِ بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَكُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّ غَسَّانَ تُنْعِلُ الْخَيْلَ تَغْزُونَا، فَنَزَلَ صَاحِبِي ثُمَّ أَتَانِي عَشِيًّا، فَضَرَبَ بَابِي، وَنَادَانِي، فَخَرَجْت إلَيْهِ، فَقَالَ: حَدَثَ أَمْرٌ عَظِيمٌ. فَقُلْت: مَاذَا؟ أَجَاءَتْ غَسَّانُ؟ فَقَالَ: بَلْ أَعْظَمُ من ذَلِكَ. فَقُلْت: مَا تَقُولُ، طَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ؟ فَقُلْت: قَدْ خَابَتْ حَفْصَةُ، وَخَسِرَتْ، قَدْ كُنْت أَظُنُّ هَذَا يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ؛ حَتَّى إذَا صَلَّيْت الصُّبْحَ شَدَدْت عَلَيَّ ثِيَابِي، ثُمَّ نَزَلْت، فَدَخَلْت عَلَى حَفْصَةَ، وَهِيَ تَبْكِي. فَقُلْت: طَلَّقَكُنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَتْ: لَا أَدْرِي، هُوَ هَذَا مُعْتَزِلٌ فِي هَذِهِ الْمَشْرُبَةِ. فَأَتَيْت غُلَامًا أَسْوَدَ قَاعِدًا عَلَى أُسْكُفَّةِ الْبَابِ مُدْلِيًا رِجْلَيْهِ عَلَى نَقِيرٍ من خَشَبٍ وَهُوَ جَذَعٌ يَرْقَى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَنْحَدِرُ، فَقُلْت: اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ، فَدَخَلَ، ثُمَّ خَرَجَ، فَقَالَ: قَدْ ذَكَرْتُك لَهُ فَصَمَتَ، فَانْطَلَقْت، حَتَّى أَتَيْت الْمِنْبَرَ، فَإِذَا عِنْدَهُ رَهْطٌ جُلُوسٌ يَبْكِي بَعْضُهُمْ، فَجَلَسْت قَلِيلًا، ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَجِدُ، فَأَتَيْت الْغُلَامَ، فَقُلْت: اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ، فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ إلَيَّ فَقَالَ: قَدْ ذَكَرْتُك لَهُ فَصَمَتَ، فَخَرَجْت فَجَلَسْت إلَى الْمِنْبَرِ، ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَجِدُ، فَأَتَيْت الْغُلَامَ، فَقُلْت: اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ، فَإِنِّي أَظُنُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظَنَّ أَنِّي جِئْت من أَجْلِ حَفْصَةَ، وَاَللَّهِ لَئِنْ أَمَرَنِي أَنْ أَضْرِبَ عُنُقَهَا لَأَضْرِبَنَّ عُنُقَهَا. قَالَ: وَرَفَعْت صَوْتِي، فَدَخَلَ، ثُمَّ خَرَجَ، فَقَالَ: قَدْ ذَكَرْتُك لَهُ فَصَمَتَ، فَوَلَّيْت مُدْبِرًا، فَإِذَا الْغُلَامُ يَدْعُونِي قَالَ: اُدْخُلْ فَقَدْ أَذِنَ لَك، فَدَخَلْت، فَسَلَّمْت عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا هُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى رِمَالِ حَصِيرٍ، قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ، مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ شَيْءٌ، وَتَحْتَ رَأْسِهِ وِسَادَةٌ من أَدَمٍ، حَشْوُهَا لِيفٌ. فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَطَلَّقْت نِسَاءَك؟ مَا يَشُقُّ عَلَيْك من أَمْرِ النِّسَاءِ؟ فَإِنْ كُنْت طَلَّقْتهنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مَعَك وَمَلَائِكَتَهُ وَجِبْرِيلَ، وَأَنَا وَأَبَا بَكْرٍ وَالْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: وَقَلَّمَا تَكَلَّمْت وَأَحْمَدُ اللَّهَ بِكَلَامٍ إلَّا رَجَوْت أَنَّ اللَّهَ يُصَدِّقُ قَوْلِي الَّذِي أَقُولُ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ آيَةُ التَّخْيِيرِ: {عَسَى رَبُّهُ إنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ}. فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسَهُ إلَيَّ فَقَالَ: لَا. فَقُلْت: اللَّهُ أَكْبَرُ، لَوْ رَأَيْتنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَغْلِبُ النِّسَاءَ، فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَوَجَدْنَا قَوْمًا تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ، فَطَفِقَ نِسَاؤُنَا يَتَعَلَّمْنَ من نِسَائِهِمْ فَتَغَضَّبْتُ عَلَى امْرَأَتِي يَوْمًا، فَإِذَا هِيَ تُرَاجِعُنِي، فَأَنْكَرْت أَنْ تُرَاجِعَنِي. قَالَتْ: مَا تُنْكِرُ أَنْ أُرَاجِعَك. فَوَاَللَّهِ إنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيُرَاجِعْنَهُ وَتَهْجُرُهُ إحْدَاهُنَّ الْيَوْمَ إلَى اللَّيْلِ. فَقُلْت: قَدْ خَابَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْهُنَّ وَخَسِرَ، أَفَتَأْمَنُ إحْدَاهُنَّ أَنْ يَغْضَبَ اللَّهُ عَلَيْهَا لِغَضَبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا هِيَ قَدْ هَلَكَتْ. فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ دَخَلْت عَلَى حَفْصَةَ فَقُلْت: لَا يَغُرَّنَّكِ أَنْ كَانَتْ جَارَتُك هِيَ أَوْسَمُ وَأَحَبُّ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْك فَتَبَسَّمَ أُخْرَى؛ وَإِنِّي لَمَّا قَصَصْت عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثَ أُمِّ سَلَمَةَ تَبَسَّمَ، وَلَمْ أَزَلْ أُحَدِّثُهُ حَتَّى انْحَسَرَ الْغَضَبُ عن وَجْهِهِ وَكَشَّرَ، وَكَانَ من أَحْسَنِ النَّاسِ ثَغْرًا. فَقُلْت: أَسْتَأْنِسُ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَيْك، قَالَ: نَعَمْ. فَجَلَسْت فَرَفَعْت بَصَرِي فِي الْبَيْتِ، فَوَاَللَّهِ مَا رَأَيْت فِيهِ شَيْئًا يَرُدُّ الْبَصَرَ، إلَّا أُهُبًا ثَلَاثَةً، وَإِلَّا قَبْضَةً من شَعِيرٍ نَحْوِ الصَّاعِ، وَقَرَظٌ مَصْبُورٌ فِي نَاحِيَةِ الْغُرْفَةِ وَإِذَا أَفِيقٌ مُعَلَّقٌ؛ فَابْتَدَرَتْ عَيْنَايَ، فَقَالَ: مَا يُبْكِيك يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟ فَقُلْت: وَمَا لِي لَا أَبْكِي، وَهَذَا الْحَصِيرُ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِك، وَهَذِهِ خَزَائِنُك لَا أَرَى فِيهَا شَيْئًا إلَّا مَا أَرَى، وَذَلِكَ كِسْرَى وَقَيْصَرُ فِي الْأَنْهَارِ وَالثِّمَارِ، وَأَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ وَصَفْوَتُهُ؟ وَقُلْت: اُدْعُ اللَّهَ أَنْ يُوَسِّعَ لِأُمَّتِك، فَقَدْ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَى فَارِسَ وَالرُّومِ، وَهُمْ لَا يَعْبُدُونَ اللَّهَ. فَاسْتَوَى جَالِسًا، وَقَالَ: أَفِي شَكٍّ أَنْتَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. فَقُلْت: اسْتَغْفِرْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ. وَإِنَّ عُمَرَ اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَنْ يُخْبِرَ النَّاسَ أَنَّهُ لَمْ يُطَلِّقْ نِسَاءَهُ، فَأَذِنَ لَهُ، فَقَامَ عُمَرُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ يُنَادِي: لَمْ يُطَلِّقْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ من الْأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} فَكُنْت أَنَا الَّذِي اسْتَنْبَطْت ذَلِكَ الْأَمْرَ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى آيَةَ التَّخْيِيرِ. وَكَانَ أَقْسَمَ لَا يَدْخُلُ عَلَيْهِنَّ شَهْرًا، يَعْنِي من أَجْلِ ذَلِكَ الْحَدِيثِ يَعْنِي قِصَّةَ شُرْبِ الْعَسَلِ فِي بَيْتِ زَيْنَبَ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ. هَذَا نَصُّ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ جَمِيعًا، وَهُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى سِوَاهُ.
وجه التعلق هو أن مكارم الأخلاق منحصرة في شيئين التعظيم لأمر الله، والشفقة على خلق الله، وإلى هذا أشار عليه السلام بقوله: « الصلاة وما ملكت أيمانكم» ثم إن الله تعالى لما أرشد نبيه إلى ما يتعلق بجانب التعظيم لله بقوله: {يا أيها النبي اتق الله} ذكر ما يتعلق بجانب الشفقة وبدأ بالزوجات فإنهن أولى الناس بالشفقة، ولهذا قدمهن في النفقة وفيها لطائف لفظية منها تقديم اختيار الدنيا، إشارة إلى أن النبي عليه الصلاة والسلام غير ملتفت إلى جانبهن غاية الالتفات، وكيف وهو مشغول بعبادة ربه، ومنها قوله عليه السلام: {وأسرحكن سراحا جميلا} إشارة إلى ما ذكرنا، فإن السراح الجميل مع التأذي القوي لا يجتمع في العادة، فعلم أن النبي عليه الصلاة والسلام ما كان يتأثر من اختيارهن فراقه بدليل أن التسريح الجميل منه ومنها.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
سبب نزولها أن أزواجه، صلى الله عليه وسلم، تغايرن وأردن زيادة في كسوة ونفقة، فنزلت؛ ولما نصر الله نبيه وفرق عنه الأحزاب وفتح عليه قريظة والنضير، ظن أزواجه أنه اختص بنفائس اليهود وذخائرهم، فقعدن حوله وقلن: يا رسول الله، بنات كسرى وقيصر في الحلى والحلل والإماء والخول، ونحن على ما تراه من الفاقة والضيق، وآلمن قلبه بمطالبتهن له بتوسعة الحال، وأن يعاملهن بما يعامل به الملوك والأكابر أزواجهم، فأمره الله أن يتلو عليهن ما نزل في أمرهن...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما تقرر بهذه الوقائع -التي نصر فيها سبحانه وحده بأسباب باطنه سببها، وأمور خفية رتبها، تعجز عنها الجيوش المتخيرة المستكثرة، والملوك المتجبرة المستكبرة- ما قدم من أنه كافي من توكل عليه، وأقبل بكليته إليه، وختم بصفة القدرة العامة الدائمة، تحرر أنه قادر على كل ما يريده، وأنه لو شاء أجرى مع وليه كنوز الأرض، وأنه لا يجوز لأحد أن يراعي غيره ولا أن يرمق بوجه ما سواه، وعلم أن من أقبل إلى هذا الدين فإنما نفع نفسه والفضل لصاحب الدين عليه، ومن أعرض عنه فإنما وبال إعراضه على نفسه، ولا ضرر على الدين بإعراض هذا المعرض، كما أنه لا نفع له بإقبال ذلك المقبل، وكان قد قضى سبحانه أن من انقطع إليه حماه من الدنيا إكراماً له ورفعاً لمنزلته عن خسيسها إلى نفيس ما عنده، لأن كل أمرها إلى زوال وتلاش واضمحلال، ولا يعلق همته بذلك إلا قاصر ضال، فأخذ سبحانه يأمر أحب الخلق إليه، وأعزهم منزلة لديه، المعلوم امتثاله للأمر بالتوكل والإعراض عن كل ما سواه سبحانه وأنه لا يختار من الدنيا غير الكفاف، والقناعة والعفاف، بتخيير ألصق الناس به تأديباً لكافة الناس، فقال على طريق الاستنتاج مما تقدم: {يا أيها النبي} ذاكراً صفة رفعته واتصاله به سبحانه والإعلام بأسرار القلوب، وخفايا الغيوب، المقتضية لأن يفرغ فكره لما يتلقاه من المعارف، ولا يعاق عن شيء من ذلك بشيء من أذى: {قل لأزواجك إن كنتن} أي كوناً راسخاً {تردن} أي اختياراً عليّ {الحياة} ووصفها بما يزهد فيها ذوي الهمم ويذكر من له عقل بالآخرة فقال: {الدنيا} أي ما فيها من السعة والرفاهية والنعمة {وزينتها} أي المنافية لما أمرني به ربي من الإعراض عنه واحتقاره من أمرها لأنها أبغض خلقه إليه، لأنها قاطعة عنه {فتعالين} أصله أن الآمر يكون أعلى من المأمور، فيدعوه أن يرفع نفسه إليه ثم كثر حتى صار معناه: أقبل، وهو هنا كناية عن الإخبار والإرادة بعلاقة أن المخبر يدنو إلى من يخبره {أمتعكن} أي بما أحسن به إليكن {وأسرحكن} أي من حبالة عصمتي {سراحاً جميلاً *} أي ليس فيه مضارة، ولا نوع حقد ولا مقاهرة.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
وتقديمُ التَّمتيعِ على التَّسريحِ من بابِ الكرمِ وفيه قطعٌ لمعاذيرهنَّ من أولِ الأمرِ.
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
فيه إشارة إلى أن حب الدنيا وزينتها يكون سبباً لمفارقة رسول الله صلى الله عليه وسلم والبعد عن حضرته الشريفة، وأن محبته عليه الصلاة والسلام تكون سبباً للأجر العظيم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذا الدرس الثالث في سورة الأحزاب خاص بأزواج النبي [صلى الله عليه وسلم] فيما عدا الاستطراد الأخير لبيان جزاء المسلمين كافة والمسلمات -ولقد سبق في أوائل السورة تسميتهن (أمهات المؤمنين). ولهذه الأمومة تكاليفها. و للمرتبة السامية التي استحققن بها هذه الصفة تكاليفها. و لمكانتهن من رسول الله [صلى الله عليه وسلم] تكاليفها. وفي هذا الدرس بيان لشيء من هذه التكاليف؛ وإقرار للقيم التي أراد الله لبيت النبوة الطاهر أن يمثلها، وأن يقوم عليها، وأن يكون فيها منارة يهتدي بها السالكون.
(يا أيها النبي، قل لأزواجك: إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا. وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة، فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما)..
لقد اختار النبي [صلى الله عليه وسلم] لنفسه ولأهل بيته معيشة الكفاف، لا عجزا عن حياة المتاع، فقد عاش حتى فتحت له الأرض، وكثرت غنائمها، وعم فيؤها، واغتنى من لم يكن له من قبل مال ولا زاد! ومع هذا فقد كان الشهر يمضي ولا توقد في بيوته نار. مع جوده بالصدقات والهبات والهدايا. ولكن ذلك كان اختيارا للاستعلاء على متاع الحياة الدنيا ورغبة خالصة فيما عند الله. رغبة الذي يملك ولكنه يعف ويستعلي ويختار.. ولم يكن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] مكلفا من عقيدته ولا من شريعته أن يعيش مثل هذه المعيشة التي أخذ بها نفسه وأهل بيته، فلم تكن الطيبات محرمة في عقيدته وشريعته؛ ولم يحرمها على نفسه حين كانت تقدم إليه عفوا بلا تكلف، وتحصل بين يديه مصادفة واتفاقا، لا جريا وراءها ولا تشهيا لها، ولا انغماسا فيها ولا انشغالا بها.. ولم يكلف أمته كذلك أن تعيش عيشته التي اختارها لنفسه، إلا أن يختارها من يريد، استعلاء على اللذائذ والمتاع، وانطلاقا من ثقلتها إلى حيث الحرية التامة من رغبات النفس وميولها.
ولكن نساء النبي [صلى الله عليه وسلم] كن نساء، من البشر، لهن مشاعر البشر. وعلى فضلهن وكرامتهن وقربهن من ينابيع النبوة الكريمة، فإن الرغبة الطبيعية في متاع الحياة ظلت حية في نفوسهن. فلما أن رأين السعة والرخاء بعدما أفاض الله على رسوله وعلى المؤمنين راجعن النبي [صلى الله عليه وسلم] في أمر النفقة. فلم يستقبل هذه المراجعة بالترحيب، إنما استقبلها بالأسى وعدم الرضى؛ إذ كانت نفسه [صلى الله عليه وسلم] ترغب في أن تعيش فيما اختاره لها من طلاقة وارتفاع ورضى؛ متجردة من الانشغال بمثل ذلك الأمر والاحتفال به أدنى احتفال؛ وأن تظل حياته وحياة من يلوذون به على ذلك الأفق السامي الوضيء المبرأ من كل ظل لهذه الدنيا وأوشابها. لا بوصفه حلالا وحراما- فقد تبين الحلال والحرام -ولكن من ناحية التحرر والانطلاق والفكاك من هواتف هذه الأرض الرخيصة!
ولقد بلغ الأسى برسول الله [صلى الله عليه وسلم] من مطالبة نسائه له بالنفقة أن احتجب عن أصحابه. وكان احتجابه عنهم أمرا صعبا عليهم يهون كل شيء دونه. وجاءوا فلم يؤذن لهم. روى الإمام أحمد- بإسناده -عن جابر- رضي الله عنه -قال: أقبل أبو بكر- رضي الله عنه -يستأذن على رسول الله [صلى الله عليه وسلم] والناس ببابه جلوس، والنبي [صلى الله عليه وسلم] جالس، فلم يؤذن له. ثم أقبل عمر- رضي الله عنه -فاستأذن فلم يؤذن له. ثم أذن لأبي بكر وعمر- رضي الله عنهما -فدخلا، والنبي [صلى الله عليه وسلم] جالس وحوله نساؤه، وهو [صلى الله عليه وسلم] ساكت. فقال عمر- رضي الله عنه -: لأكلمن النبي [صلى الله عليه وسلم] لعله يضحك. فقال عمر -رضي الله عنه- يا رسول الله لو رأيت ابنة زيد -امرأة عمر- سألتني النفقة آنفا فوجأت عنقها! فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، وقال:"هن حولي يسألنني النفقة" ! فقام أبو بكر -رضي الله عنه- إلى عائشة ليضربها، وقام عمر -رضي الله عنه- إلى حفصة، كلاهما يقولان: تسألان النبي [صلى الله عليه وسلم] ما ليس عنده؟! فنهاهما الرسول [صلى الله عليه وسلم] فقلن: والله لا نسأل رسول الله [صلى الله عليه وسلم] بعد هذا المجلس ما ليس عنده.. قال: وأنزل الله عز وجل الخيار، فبدأ بعائشة -رضي الله عنها- فقال: "إني أذكر لك أمرا ما أحب أن تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك "قالت: وما هو؟ قال: فتلا عليها (يا أيها النبي قل لأزواجك).. الآية. قالت عائشة -رضي الله عنها -: أفيك أستأمر أبوي؟ بل أختار الله تعالى ورسوله. وأسألك ألا تذكر لامرأة من نسائك ما اخترت. فقال [صلى الله عليه وسلم] "إن الله تعالى لم يبعثني معنفا، ولكن بعثني معلما ميسرا. لا تسألني امرأة منهن عما اخترت إلا أخبرتها".
وفي رواية البخاري- بإسناده -عن أبي سلمة بن عبد الرحمن: أن عائشة- رضي الله عنها -زوج النبي [صلى الله عليه وسلم] أخبرته أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] جاءها حين أمره الله تعالى أن يخير أزواجه. قالت: فبدأ بي رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فقال: "إني ذاكر لك أمرا فلا عليك أن لا تستعجلي حتى تستأمري أبويك"- وقد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه -قالت: ثم قال: "إن الله تعالى قال: (يا أيها النبي قل لأزواجك) إلى تمام الآيتين". فقلت له: ففي أي هذا أستأمر أبوي؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة.
لقد جاء القرآن الكريم ليحدد القيم الأساسية في تصور الإسلام للحياة. هذه القيم التي ينبغي أن تجد ترجمتها الحية في بيت النبي [صلى الله عليه وسلم] وحياته الخاصة؛ وأن تتحقق في أدق صورة وأوضحها في هذا البيت الذي كان- وسيبقى -منارة للمسلمين وللإسلام حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
ونزلت آيتا التخيير تحددان الطريق. فإما الحياة الدنيا وزينتها، وإما الله ورسوله والدار الآخرة. فالقلب الواحد لا يسع تصورين للحياة. وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه.
وقد كانت نساء النبي [صلى الله عليه وسلم] قد قلن: والله لا نسأل رسول الله [صلى الله عليه وسلم] بعد هذا المجلس ما ليس عنده. فنزل القرآن ليقرر أصل القضية. فليست المسألة أن يكون عنده أو لا يكون. إنما المسألة هي اختيار الله ورسوله والدار الآخرة كلية، أو اختيار الزينة والمتاع. سواء كانت خزائن الأرض كلها تحت أيديهن أم كانت بيوتهن خاوية من الزاد. وقد اخترن الله ورسوله والدار الآخرة اختيارا مطلقا بعد هذا التخيير الحاسم. وكن حيث تؤهلن مكانتهن من رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وفي ذلك الأفق العالي الكريم اللائق ببيت الرسول العظيم. وفي بعض الروايات أن النبي [صلى الله عليه وسلم] فرح بهذا الاختيار.
ونحب أن نقف لحظات أمام هذا الحادث نتدبره من بعض زواياه.
إنه يحدد التصور الإسلامي الواضح للقيم؛ ويرسم الطريق الشعوري للإحساس بالدنيا والآخرة. ويحسم في القلب المسلم كل أرجحة وكل لجلجة بين قيم الدنيا وقيم الآخرة؛ بين الاتجاه إلى الأرض والاتجاه إلى السماء. ويخلص هذا القلب من كل وشيجة غريبة تحول بينه وبين التجرد لله والخلوص له وحده دون سواه.
هذا من جانب ومن الجانب الآخر يصور لنا هذا الحادث حقيقة حياة رسول الله [صلى الله عليه وسلم] والذين عاشوا معه واتصلوا به. وأجمل ما في هذه الحقيقة أن تلك الحياة كانت حياة إنسان وحياة ناس من البشر؛ لم يتجردوا من بشريتهم ومشاعرهم وسماتهم الإنسانية. مع كل تلك العظمة الفريدة البالغة التي ارتفعوا إليها؛ ومع كل هذا الخلوص لله والتجرد مما عداه. فالمشاعر الإنسانية والعواطف البشرية لم تمت في تلك النفوس. ولكنها ارتفعت، وصفت من الأوشاب. ثم بقيت لها طبيعتها البشرية الحلوة، ولم تعوق هذه النفوس عن الارتفاع إلى أقصى درجات الكمال المقدر للإنسان.
وكثيرا ما نخطئ نحن حين نتصور للنبي [صلى الله عليه وسلم] ولصحابته- رضوان الله عليهم -صورة غير حقيقية، أو غير كاملة، نجردهم فيها من كل المشاعر والعواطف البشرية، حاسبين أننا نرفعهم بهذا وننزههم عما نعده نحن نقصا وضعفا!
وهذا الخطأ يرسم لهم صورة غير واقعية، صورة ملفعة بهالات غامضة لا نتبين من خلالها ملامحهم الإنسانية الأصيلة. ومن ثم تنقطع الصلة البشرية بيننا وبينهم. وتبقى شخوصهم في حسنا بين تلك الهالات أقرب إلى الأطياف التي لا تلمس ولا تتماسك في الأيدي! ونشعر بهم كما لو كانوا خلقا آخر غيرنا.. ملائكة أو خلقا مثلهم مجردا من مشاعر البشر وعواطفهم على كل حال! ومع شفافية هذه الصورة الخيالية فإنها تبعدهم عن محيطنا، فلا نعود نتأسى بهم أو نتأثر. يأسا من إمكان التشبه بهم أو الاقتداء العملي في الحياة الواقعية. وتفقد السيرة بذلك أهم عنصر محرك، وهو استجاشة مشاعرنا للأسوة والتقليد. وتحل محلها الروعة والانبهار، اللذان لا ينتجان إلا شعورا مبهما غامضا سحريا ليس له أثر عملي في حياتنا الواقعية.. ثم نفقد كذلك التجاوب الحي بيننا وبين هذه الشخصيات العظيمة. لأن التجاوب إنما يقع نتيجة لشعورنا بأنهم بشر حقيقيون، عاشوا بعواطف ومشاعر وانفعالات حقيقية من نوع المشاعر والعواطف والانفعالات التي نعانيها نحن. ولكنهم هم ارتقوا بها وصفوها من الشوائب التي تخالج مشاعرنا.
وحكمة الله واضحة في أن يختار رسله من البشر، لا من الملائكة ولا من أي خلق آخر غير البشر. كي تبقى الصلة الحقيقية بين حياة الرسل وحياة أتباعهم قائمة؛ وكي يحس أتباعهم أن قلوبهم كانت تعمرها عواطف ومشاعر من جنس مشاعر البشر وعواطفهم، وإن صفت ورفت وارتقت. فيحبوهم حب الإنسان للإنسان؛ ويطمعوا في تقليدهم تقليد الإنسان الصغير للإنسان الكبير.
وفي حادث التخيير نقف أمام الرغبة الطبيعية في نفوس نساء النبي [صلى الله عليه وسلم] في المتاع؛ كما نقف أمام صورة الحياة البيتية للنبي [صلى الله عليه وسلم] ونسائه رضي الله عنهن- وهن أزواج يراجعن زوجهن في أمر النفقة! فيؤذيه هذا، ولكنه لا يقبل من أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- أن يضربا عائشة وحفصة على هذه المراجعة. فالمسألة مسألة مشاعر وميول بشرية، تصفى وترفع، ولكنها لا تخمد ولا تكبت! ويظل الأمر كذلك حتى يأتيه أمر الله بتخيير نسائه. فيخترن الله ورسوله والدار الآخرة، اختيارا لا إكراه فيه ولا كبت ولا ضغط؛ فيفرح قلب رسول الله [صلى الله عليه وسلم] بارتفاع قلوب أزواجه إلى هذا الأفق السامي الوضيء.
ونقف كذلك أمام تلك العاطفة البشرية الحلوة في قلب رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وهو يحب عائشة حبا ظاهرا؛ ويحب لها أن ترتفع إلى مستوى القيم التي يريدها الله له ولأهل بيته فيبدأ بها في التخيير؛ ويريد أن يساعدها على الارتفاع والتجرد؛ فيطلب إليها ألا تعجل في الأمر حتى تستشير أبويها -وقد علم أنهما لم يكونا يأمرانها بفراقه كما قالت- وهذه العاطفة الحلوة في قلب النبي [صلى الله عليه وسلم] لا تخطئ عائشة -رضي الله عنها- من جانبها في إدراكها؛ فتسرها وتحفل بتسجيلها في حديثها. ومن خلال هذا الحديث يبدو النبي صلى الله عليه وسلم إنسانا يحب زوجه الصغيرة، فيحب لها أن ترتفع إلى أفقه الذي يعيش فيه؛ وتبقى معه على هذا الأفق، تشاركه الشعور بالقيم الأصيلة في حسه، والتي يريدها له ربه ولأهل بيته. كذلك تبدو عائشة -رضي الله عنها- إنسانة يسرها أن تكون مكينة في قلب زوجها؛ فتسجل بفرح حرصه عليها، وحبه لها، ورغبته في أن تستعين بأبويها على اختيار الأفق الأعلى فتبقى معه على هذا الأفق الوضيء. ثم نلمح مشاعرها الأنثوية كذلك، وهي تطلب إليه ألا يخبر أزواجه الأخريات أنها اختارته حين يخيرهن! وما في هذا الطلب من رغبة في أن يظهر تفردها في هذا الاختيار، وميزتها على بقية نسائه، أو على بعضهن في هذا المقام!.. وهنا نلمح عظمة النبوة من جانب آخر في رد رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وهو يقول لها:"إن الله تعالى لم يبعثني معنفا، ولكن بعثني معلما ميسرا. لا تسألني واحدة منهن عما اخترت إلا أخبرتها".. فهو لا يود أن يحجب عن إحدى نسائه ما قد يعينها على الخير؛ ولا يمتحنها امتحان التعمية والتعسير؛ بل يقدم العون لكل من تريد العون. كي ترتفع على نفسها، وتتخلص من جواذب الأرض ومغريات المتاع!
هذه الملامح البشرية العزيزة ينبغي لنا -ونحن نعرض السيرة- ألا نطمسها، وألا نهملها، وألا نقلل من قيمتها. فإدراكها على حقيقتها هو الذي يربط بيننا وبين شخصية الرسول [صلى الله عليه وسلم] وشخصيات أصحابه -رضي الله عنهم- برباط حي، فيه من التعاطف والتجاوب ما يستجيش القلب إلى التأسي العملي والاقتداء الواقعي.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
يستخلص مما ذكره ابن عطية رواية عن ابن الزبير ومما ذكره أبو حيان في « البحر المحيط» وغير ذلك: أن وجه اتصال هذه الآيات بما قبلها أنه لما فُتحت على المسلمين أرض قريظة وغنموا أموالهم وكانت أرض النضير قُبيل ذلك فَيْئاً للنبيء صلى الله عليه وسلم حسب أزواج رسول الله أن مثَلَه مَثَل أحد من الرجال إذا وُسّع عليهم الرزق توسَّعوا فيه هم وعيالهم فلم يكن أزواج النبي عليه الصلاة والسلام يسألنَه توسعة قبل أن يفيء الله عليه من أهل النضير وقبل أن يكون له الخمس من الغنائم، فلما رأين النبي صلى الله عليه وسلم جعل لنفسه ولأزواجه أقواتهم من مال الله ورأين وفرة ما أفاءَ الله عليه من المال حسبْنَ أنه يوسِّع في الإنفاق فصار بعضهُنّ يستكثرنه من النفقة كما دل عليه قول عمر لحفصة ابنته أمّ المؤمنين: « لا تستكثري النبي ولا تُراجعيه في شيء وسَلِيني ما بَدا لكِ». ولكن الله أقام رسوله صلى الله عليه وسلم مقاماً عظيماً فلا يتعلق قلبه بمتاع الدنيا إلا بما يقتضيه قوام الحياة وقد كان يقول:"ما لي وللدنيا" وقال: "حُبِّبَ إليّ من دنياكم النساء والطيب". وقد بينتُ وجه استثناء هذين في رسالة كتبتُها في الحكمة الإلهية من رياضة الرسول عليه الصلاة والسلام نفسه بتقليل الطعام.
وقال عمر: « كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يُوجِف المسلمون عليه من خَيْل ولا رِكاب فكانت لرسول الله خالصة ينفق منها على أهله نفقة سنتهم ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عُدة للمسلمين». وقد علمتَ أن أرض قريظة قسمت على المهاجرين بحُكْم سعد بن معاذ، فلعل المهاجرين لما اتسعت أرزاقهم على أزواجهم أمّل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يكنَّ كالمهاجرين فأراد الله أن يعلمهُنّ سِيرة الصالحات في العيش وغيره. وقد روي أن بعضهن سألْنَه أشياء من زينة الدنيا فأوحى إلى رسوله بهذه الآيات المتتابعات. وهذا مما يؤذن به وقعُ هذه الآيات عقب ذكر وقعة قريظة وذكر الأرض التي لم يَطؤوها وهي أرض بني النضير.
وإذ قد كان شأن هذه السيرة أن يشق على غالب الناس وخاصة النساء أمَر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن ينبئ أزواجه بها ويخيّرهُنّ عن السّيْر عليها تبعاً لحاله وبين أن يفارقَهُنّ. لذا فافتتاحُ هذه الأحكام بنداء النبي صلى الله عليه وسلم ب: {يا أيها النبي} تنبيه على أن ما سيذكر بعد النداء له مزيد اختصاص به وهو غرض تحديد سيرة أزواجه معه سيرة تناسب مرتبة النبوءة، وتحديد تزوجه وهو الغرض الثاني من الأغراض التي تقدم ذكرها في قوله {يا أيها النبي اتق الله} [الأحزاب: 1].