الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لِّأَزۡوَٰجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدۡنَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيۡنَ أُمَتِّعۡكُنَّ وَأُسَرِّحۡكُنَّ سَرَاحٗا جَمِيلٗا} (28)

أردن شيئاً من الدنيا من ثياب وزيادة نفقة وتغايرن ، فغم ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت . فبدأ بعائشة رضي الله عنها - وكانت أحبهنّ إليه - فخيرها وقرأ عليها القرآن ، فاختارت الله ورسوله والدار الآخرة ، فرؤي الفرح في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم اختارت جميعهنّ اختيارها ، فشكر لهنّ الله ذلك ، فأنزل { لاَّ يَحِلُّ لَكَ النساء مِن بَعْدُ وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ } [ الأحزاب : 52 ] . روي أنه قال لعائشة : " إنِّي ذاكرٌ لكَ أمراً ، ولا عليك أنْ لا تعجلي فيه حتّى تستأمري أبويْكَ " ثم قرأَ عليها القرآنَ فقالَت : أفي هذا أستأمر أبويَّ ، فإنِّي أريدُ الله ورسولَهُ والدارَ الآخرةَ .

وروي أنها قالت : لا تخبر أزواجك أنِّي اخترتك ، فقال : " إنما بعثني الله مبلغاً ولم يبعثني متعنتاً "

فإن قلت : ما حكم التخيير في الطلاق ؟ قلت : إذا قال لها اختاري ، فقالت : اخترت نفسي . أو قال : اختاري نفسك ، فقالت : اخترت ، لا بد من ذكر النفس في قول المخير أو المخيرة - وقعت طلقة بائنة عند أبي حنيفة وأصحابه ، واعتبروا أن يكون ذلك في المجلس قبل القيام أو الاشتغال بما يدل على الإعراض ، واعتبر الشافعي اختيارها على الفور وهي عنده طلقة رجعية وهو مذهب عمر وابن مسعود . وعن الحسن وقتادة الزهري رضي الله عنهم : أمرها بيدها في ذلك المجلس وفي غيره ، وإذا اختارت زوجها لم يقع شيء بإجماع فقهاء الأمصار . وعن عائشة رضي الله عنها : خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترناه ولم يعده طلاقاً . وروي : أفكان طلاقاً . وعن عليّ رضي الله عنه . إذا اختارت زوجها فواحدة رجعية ، وإن اختارت نفسها فواحدة بائنة وروي عنه أيضاً أنها إن اختارت زوجها فليس بشيء . أصل تعال : أن يقوله من في المكان المرتفع ، لمن في المكان المستوطيء ، ثم كثر حتى استوت في استعماله الأمكنة . ومعنى تعالين : أقبلن بإرادتكن واختياركن لأحد أمرين ، ولم يرد نهوضهنّ إليه بأنفسهنّ . كما تقول : أقبل يخاصمني ، وذهب يكلمني . وقام يهددني { أُمَتّعْكُنَّ } أعطكنّ متعة الطلاق .

فإن قلت : المتعة في الطلاق واجبة أم لا ؟ قلت : المطلقة التي لم يدخل بها ولم يفرض لها في العقد ، متعتها واجبة عند أبي حنيفة وأصحابه ، وأما سائر المطلقات فمتعتهن مستحبة وعن الزهري رضي الله عنه : متعتان ، إحداهما : يقضي بها السلطان : من طلق قبل أن يفرض ويدخل بها . والثانية : حق على المتقين من طلق بعد ما يفرض ويدخل ، وخاصمت امرأة إلى شريح في المتعة فقال : متعها إن كنت من المتقين ولم يجبره . وعن سعيد بن جبير رضي الله عنه : المتعة حق مفروض . وعن الحسن رضي الله عنه : لكل مطلقة متعة إلا المختلعة والملاعنة ، والمتعة : درع وخمار وملحفة على حسب السعة والإقتار ، إلا أن يكون نصف مهرها أقل من ذلك ، فيجب لها الأقل منهما . ولا تنقص من خمسة دراهم ؛ لأن أقل المهر عشرة دراهم فلا ينقص من نصفها .

فإن قلت : ما وجه قراءة من قرأ : «أمتعكنّ وأسرحكنّ » بالرفع ؟ قلت : وجهه الاستئناف { سَرَاحاً جَمِيلاً } من غير ضرار طلاقاً بالسنة .