النكت و العيون للماوردي - الماوردي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لِّأَزۡوَٰجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدۡنَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيۡنَ أُمَتِّعۡكُنَّ وَأُسَرِّحۡكُنَّ سَرَاحٗا جَمِيلٗا} (28)

قوله تعالى : { يَأَيُّها النَبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِن كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا وَزِينَتَهَا } الآية .

وهذا أمر من الله لنبيه أن يخبر أزواجه . واختلف أهل التأويل في تخييره لهن على قولين :

أحدهما : خيرهن بين اختيار الدنيا فيفارقهن واختيار الآخرة فيمسكهن ، ولم يخيرهن في الطلاق ، قاله الحسن وقتادة .

الثاني : أنه خيّرهن بين الطلاق أو المقام معه ، وهذا قول عائشة رضي الله عنها وعكرمة والشعبي ومقاتل .

روى عبد الله بن أبي ثور عن ابن عباس قال : قالت عائشة رضي الله عنها : أنزلت آية التخيير فبدأني أول امرأة من نسائه ، فقال : " إنّي ذَاكَرٌ أَمْراً َلاَ عَلَيك أَلاَّ تَعْجَلِي حَتَّى تَسْتَأمِرِي أَبُوَيكِ " ، وقد علم أن أبويّ لم يكونا يأمراني بفراقه{[2215]} قالت : ثم تلا آية التخيير فقلت أفي هذا استأمر أبويّ ؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة . ثم خير نساءه كلهن فقلن مثل قولي . وقال سعيد بن جبير : إلا الحميرية فإنها اختارت نفسها .

واختلف في السبب الذي لأجله خير رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه على خمسة أقاويل :

أحدها : لأن الله تعالى خير نبيه بين ملك الدنيا ونعيم الآخرة ، فاختار الآخرة على الدنيا وقال : " اللَّهُمَّ احْيِنِي مِسْكِيناً وَأمِتْنِي مِسْكِينَاً وَاحْشْرْنِي فِي زُمْرَةِ المَساكِين " . فلما اختار ذلك أمره الله تعالى بتخيير نسائه ليكنَّ على مثل حاله إن كان اختيارهن مثل ما اختاره . حكاه أبو القاسم الصيمري .

الثاني : لأنهن تغايرن عليه ، فروت عمرة عن عائشة رضي الله عنها قالت : حلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ليهجرنَنّا شهراً فدخل عليّ بعد صبيحة تسعة وعشرين ، فقلت يا رسول الله : ألم تكن حلفت لتهجرننا شهراً ؟ فقال : " إن الشهر هكذا وهكذا وهكذا " ، ثم خنس الإبهام ، ثم قال يا عائشة : " إِنّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْراً وَلاَ عَلَيْكِ أَن لاَّ تَعْجَلِي حَتَّى تَسْتَشِيري أَبُويكِ " ، وخشي حداثة سني . قلت : وما ذاك ؟ قال " أُمِرْتُ أَن أَخَيِّرَكُنَّ " .

الثالث : أن أزواجه طالبنه وكان غير مستطيع فكان أوّلهن أم سلمة فسألته ستراً معلماً ، فلم يقدر عليه ، وسألته ميمونة حلة يمانية ، وسألته زينب بنت جحش ثوباً مخططاً وهو البرد اليماني ، وسألته أم حبيبة ثوباً سحولياً ، وسألته حفصة ثوباً من ثياب مصر ، وسألته جويرية معجراً ، وسألته سودة قطيفة خيبرية ، وكل واحدة منهن طلبت نصيباً إلاّ عائشة لم تطلب شيئاً ، فأمر الله تعالى بتخييرهن ، حكاه النقاش .

الرابع : لأن أزواجه اجتمعن يوماً فقلن : نريد ما تريد النساء من الحلي والثياب حتى قال بعضهن : لو كنا عند غير النبي صلى الله عليه وسلم إذن لكان لنا شأن وثياب وحلي ، فأنزل الله تعالى آية التخيير ، حكاه النقاش .

الخامس : لأن الله تعالى صان خلوة نبيه فخيّرهن على ألا يتزوجن بعده ، فلما أجَبْنَ إلى ذلك أمسكهن .

قال مقاتل بن حيان : قاله الحسن وقتادة : وكان تحته يومئذ تسع سوى الحميرية ، خمس من قريش : عائشة وحفصة وأم حبيبة بنت أبي سفيان وأم سلمة بنت أبي أمية وسودة بنت زمعة ، هؤلاء خمس من قريش ، وكان تحته صفية بنت حيي بن أخطب الحميرية{[2216]} ، وميمونة بنت الحارث الهلالية ، وزينب بنت جحش الأسدية ، وجويرية بنت الحارث المصطلقية . فلما اخترنه والصبر معه على ما يلاقيه من شدة ورخاء عوّضهن الله تعالى على صبرهن أمرين :

أحدهما : بأن يجعلهن أمهات المؤمنين فقال تعالى : { وَأَزْوَاجُهُ أَمَّهَاتُهُمْ } تعظيماً لحقوقهن وتأكيداً لحرمتهن .

الثاني : أن حظر عليهن طلاقهن والاستبدال بهن فقال { لاَ يَحِلُّ لك النِّسَاءُ مِن بَعد . . . } الآية . فكان تحريم طلاقهن مستداماً . وأما تحريم التزويج عليهن فقد كان ذلك لما كان النبي صلى الله عليه وسلم في شدته وقلة مكنته .

ثم اختلف الناس بعد سعة الدنيا عليه هل أحل الله له النساء على قولين :

أحدهما : أنه كان تحريمه [ التزوّج ] عليهن باقياً لأن الله تعالى جعله جزاء لصبرهن .

الثاني : أن الله تعالى أحل له النساء أن يتزوج عليهن عند اتساع الدنيا عليه ، لأن علة التحريم الضيق والشدة ، فإذا زالت زال موجبها . قالت عائشة رضي الله عنها ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحلّ له النساء ، يعني اللاتي حظرن عليه . وقيل إن الناسخ لتحريمهن قوله عز وجل : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ } الآية .

فأما غير رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يلزمهم تخيير نسائهم فإن خيّروهن فقد اختلف الفقهاء في حكمهن على ثلاثة مذاهب .

أحدها : إن اخترن الزوج فلا فرقة ، وإن اخترن أنفسهن كانت تطليقة رجعية ، وهذا قول الزهري وعائشة والشافعي .

الثاني : إن اخترن الزوج فهي تطليقة وله الرجعة ، وإن اخترن أنفسهن فهي تطليقة بائن والزوج كأحد الخطاب ، وهذا قول عليّ رضي الله عنه .

الثالث : إن اخترن الزوج فهي تطليقة [ بائن ] والزوج كأحد الخطاب ، وإن اخترن أنفسهن فهي ثلاث ولا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره ، وهذا قول زيد بن ثابت .


[2215]:رواه البخاري في التفسير 8/ 399، ومسلم في الطلاق رقم 1478، والترمذي رقم 3202 تفسير، والنسائي 6/ 159 و 160 طلاق.
[2216]:الحميرية: هكذا وردت في الأصول الثلاثة ولعل الصواب النضرية نسبة إلى بني النضير من يهود المدينة.