قوله تعالى : { يا أيها النبي قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحياة الدنيا } الآية وجه التعلق ( هو ){[43414]} أن مكارم الأخلاق{[43415]} منحصرة في شيئين التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله وإلى هذا أشار عليه ( الصلاة{[43416]} و ) السلام بقوله : «الصَّلاَةَ وَمَا مَلَكَتْ أيْمَانُكُمْ »{[43417]} فاللَّه ( تعالى{[43418]} لما ) أرشد نبيه إلى ما يتعلق بجانب التعظيم لله بقوله : { يأيها النبي اتق الله } ذكره ما يتعلق بجانب الشفقة وبدأ بالزوجات فإنهن أولى الناس{[43419]} بالشفقة ولهذا قَدَّمَهُنَّ في النفقة .
قال المفسرون : سبب نزول هذه الآية نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - ( سَأَلْنَهُ ){[43420]} عن عرض الدنيا ( شيئاً ){[43421]} وطلبن منه زيادة في النفقة وآذينه بغيرة بعضهن على بعض فهجرهن{[43422]} رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وآلى أن لا يقربهن شهراً ولا يخرج إلى أصحابه فقالوا ما شأنه وكانوا يقولون طلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نساءه فقال عمر : لأعلَمنَّ لكم شأنه قال : فدخلت على رسوله الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت يا رسول الله : أطلقتهن قال : لا ، فقلت : يا رسول الله إني دخلت المسجد والمسلمون يقولون طلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نساءه أفأنزل فأخبرهم أنك لم تطلقهن قال : نعم إنْ شِئْتَ فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي لم يطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نساءه ونزلت هذه الآية : { وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأمن أَوِ الخوف أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرسول وإلى أُوْلِي الأمر مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُم } [ النساء : 83 ] فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر وأنزل الله آية التخيير وكانت تحت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ تسعُ نسوة خمسٌ من قريش عائشةُ بنت أبي بكر ، وحفصةُ بنت عمر ، وأمُّ حبيبةَ بنتُ أبي سفيانَ وأمّ سلمةَ بنت أمية ، وسودةُ بنت زَمْعة وغير القرشيات زينب بنتُ جحش الأسدية ، وميمونةُ بنت الحارث الهلالية وصفية بنت حُيَيّ بن أخطب الخَيْبريَّة وجُوَيْرِيةُ بنت الحارث المُصْطَلِقيَّة ، فلما نزلت آية التخيير بدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعائشة وكانت أحبهن إليه فخيرها فقرأ عليها ( القرآن ){[43423]} فاختارت الله ورسوله والدار الآخرة . ورُؤي الفرح في وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتابعنها على ذلك ، قال قتادة فلما اخْتَرْن الله{[43424]} ورسوله شكرهن الله على ذلك وقصره عليهن فقال : { لاَ تَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ } . وعن جابر بن عبد الله قال{[43425]} : «دخل أبو بكر يستأذن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوجد الناس جلوساً ببابه لم يؤذن لواحد{[43426]} منهم قال : فأذن لأبي بكر فدخل ثم أقبل عمر فاستأذن فأذن له فوجد النبي - صلى الله عليه وسلم - جالساً حوله نساؤه واجماً{[43427]} ساكناً قال : فقال : لأقولَنَّ شيئاً أُضْحِكُ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله لو رأيت بنت خارجة سألتني النفقة فقمت إليها فَوَجأْتُ عنقها فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال : هن حولي كما ترى يسألنني النفقة فقام أبو بكر إلى عائشة يَجَأُ عُنُقَها وقام عمر إلى حفصة يَجَأُ عنقها كلاهما يقول{[43428]} : تسألن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً أبداً ليس عنده ثم اعتزلهن شهراً أو تسعاً وعشرين يوماً ثم نزلت هذه الآية : { يا أيها النبي قُل لأَزْوَاجِكَ } حتى بلغ { لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً } قال : فبدأ بعائشة فقال : يا عائشة إني أعرض عليك أمراً لا أحب أن تعجلي حتى تستشيري أبويك ، قالت : وما هو يا رسول الله فتلا عليها الآية فقالت : أفيك يا رسول الله أستشير أَبَويَّ بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة وأسألك أن لا تخبر امرأة من نسائك بالذي{[43429]} قلت ، قال : لا تسألني امرأة منهن إلا أخبرتها إنّ الله لم يبعثني معنتاً{[43430]} ولا متعنتاً ولكن بعثني معلماً مبشراً » .
وروى الزهري «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقسم أن لا يدخل على أزواجه شهراً » قال الزهري : فأخبرني عروة «عن عائشة قالت{[43431]} : فلما مضت تسعٌ وعشرونَ أعُدُّهن دخل عليّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت : بدأ بي فقلت : يا رسول الله إنك أقسمت أن لا تدخل علينا شهراً وإنك دخلت من تسع وعشرين أعدهن فقال : إن الشهر تسع وعشرون » .
اختلف العلماء في هذا الخيار هل كان ذلك تفويض الطلاق إليهن حتى يقع بنفس الاختيار أم لا ؟ فذهب الحَسَنُ وَقَتَادة{[43432]} وأكثر أهل العلم إلى أنه لم يكن تفويض للطلاق ، وإنما خيرهن على أنهن إذا اخترن الدنيا فارقهن لقوله تعالى : { فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ } ويدل عليه أنه لم يكن جوابهن على الفور فإنه قال لعائشة : «لا تعجلي حتى تَسْتَشِيري أبوَيْك » وفي تفويض الطلاق يكون الجواب على الفور . وذهب آخرون إلى أنه كان تفويضَ طلاق ولو اخترن أنفسهن كان طلاقاً ، واختلف العلماء في حكم التخيير فقال عمر وابن مسعود وابن عباس إذا خير رجلٌ امرأته فاختارت زوجها لا يقع شيء{[43433]} ، ولو اختارت نفسها وقع طلقة واحدة وهو قول عمر بن عبد العزيز وابنُ أبي ليلى{[43434]} وسفيان والشافعي وأصحاب الرأي إلا أن عند أصحاب الرأي تقع طلقةً بائنةً{[43435]} إذا اختارت نفسها ، وعند الآخرين رجعيةً ، وقال زيد بن ثابت : إذا اختارت الزوج يقع طلقة واحدةً وإذا اختارت نفسها فثلاثٌ وهو قول الحسن ، وروايةٌ عن مالك{[43436]} .
وروي عن علي أيضاً أنها إذا اختارت زوجها يقع طلقة{[43437]} واحدة وإذا اختارت نفسها فطلقة ثانية ، وأكثر العلماء{[43438]} على أنها إذا اختارت زوجها لا يقع شيء لما روت عائشة قالت : «خيرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاخترنا الله ورسوله فلم يعد ذلك شيئاً » .
قوله : «أُمَتِّعْكُنَّ وأُسَرِّحْكُنَّ » العامة على جزمهما ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه مجزوم على جواب الشرط ، وما بين الشرط وجوابه{[43439]} معترض ، ولا يضر دخول الفاء على جملة الاعتراض ومثله في دخول الفاء قوله :
4084 - وَاعْلَمْ فَعِلْمُ المَرْءِ يَنْفَعهُ *** أَنْ سَوْفَ يَأْتِي كُلُّ مَا قُدِرَا{[43440]}
والثاني : أن الجواب قوله «فتعالين » و «أمتعكن » جواب لهذا الأمر ، وقرأ زيد بن علي «أُمْتِعْكُنَّ » ، بتخفيف التاء من «أمتعه »{[43441]} وقرأ حُمَيْد الحَزَّاز{[43442]} «أُمَتِّعُكُنَّ وَأُسَرِّحُكُنَّ » بالرفع فيهما على الاستئناف{[43443]} و «سَرَاحاً » قائم مقام التَّسريح .
قال ابن الخطيب : وههنا{[43444]} مسائل منها هل كان هذا التخيير واجباً على النبي ( صلى الله عليه وسلم{[43445]} ) أم لا والجواب أن التخيير كان قولاً واجباً من غير شك لأنه إبلاغ للرسالة لأن الله تعالى لما قال ( له{[43446]} ) : «قل لهم » صار من الرسالة ، وأما التخيير معنى فمبني على أن الأمر للوجوب أم لا ، والظاهر أنه للوجوب ومنه أن واحدة منهم لو اختارت الفراق هل كان يصير اختيارها فراقاً . والظاهر أنه لا يصير فراقاً وإنما تبين المختارة نفسها فإنه من جهة النبي عليه{[43447]} السلام لقوله : { فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً } ومنها أن واحدة منهن لو اختارت نفسها وقلنا إنها لا تبين إلا بإبانة النبي - صلى الله عليه وسلم - فهل كان يجب على النبي عليه ( الصلاة{[43448]} و ) السلام الطلاق أم لا ؟ الظاهر نظراً إلى منصبه عليه ( الصلاة{[43449]} و ) السلام أنه كان طلاقاً لأن الخُلْفَ في الوعد من النبي غير جائز بخلاف أحدنا فإنه لا يلزمه شرعاً الوفاء بما يعد ، ومنها أن المطلقة بعد البينونة هل كانت تحرم على غيره أم لا ؟ والظاهر أنها لا تحرم وإلا لم يكن التخيير ممكناً لها من التمتع بزينة الدنيا ومنها أن من اختارت الله ورسوله هل كان يحرم على النبي عليه ( الصلاة{[43450]} و ) السلام طلاقها أم لا ؟ الظاهر الحرمة نظراً إلى منصب الرسول عليه السلام على معنى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يمتنع منه أصلاً لا بمعنى أنه لو أتى به لعُوقِب أو لعُوتِبَ .