اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لِّأَزۡوَٰجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدۡنَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيۡنَ أُمَتِّعۡكُنَّ وَأُسَرِّحۡكُنَّ سَرَاحٗا جَمِيلٗا} (28)

قوله تعالى : { يا أيها النبي قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحياة الدنيا } الآية وجه التعلق ( هو ){[43414]} أن مكارم الأخلاق{[43415]} منحصرة في شيئين التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله وإلى هذا أشار عليه ( الصلاة{[43416]} و ) السلام بقوله : «الصَّلاَةَ وَمَا مَلَكَتْ أيْمَانُكُمْ »{[43417]} فاللَّه ( تعالى{[43418]} لما ) أرشد نبيه إلى ما يتعلق بجانب التعظيم لله بقوله : { يأيها النبي اتق الله } ذكره ما يتعلق بجانب الشفقة وبدأ بالزوجات فإنهن أولى الناس{[43419]} بالشفقة ولهذا قَدَّمَهُنَّ في النفقة .

فصل :

قال المفسرون : سبب نزول هذه الآية نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - ( سَأَلْنَهُ ){[43420]} عن عرض الدنيا ( شيئاً ){[43421]} وطلبن منه زيادة في النفقة وآذينه بغيرة بعضهن على بعض فهجرهن{[43422]} رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وآلى أن لا يقربهن شهراً ولا يخرج إلى أصحابه فقالوا ما شأنه وكانوا يقولون طلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نساءه فقال عمر : لأعلَمنَّ لكم شأنه قال : فدخلت على رسوله الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت يا رسول الله : أطلقتهن قال : لا ، فقلت : يا رسول الله إني دخلت المسجد والمسلمون يقولون طلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نساءه أفأنزل فأخبرهم أنك لم تطلقهن قال : نعم إنْ شِئْتَ فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي لم يطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نساءه ونزلت هذه الآية : { وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأمن أَوِ الخوف أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرسول وإلى أُوْلِي الأمر مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُم } [ النساء : 83 ] فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر وأنزل الله آية التخيير وكانت تحت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ تسعُ نسوة خمسٌ من قريش عائشةُ بنت أبي بكر ، وحفصةُ بنت عمر ، وأمُّ حبيبةَ بنتُ أبي سفيانَ وأمّ سلمةَ بنت أمية ، وسودةُ بنت زَمْعة وغير القرشيات زينب بنتُ جحش الأسدية ، وميمونةُ بنت الحارث الهلالية وصفية بنت حُيَيّ بن أخطب الخَيْبريَّة وجُوَيْرِيةُ بنت الحارث المُصْطَلِقيَّة ، فلما نزلت آية التخيير بدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعائشة وكانت أحبهن إليه فخيرها فقرأ عليها ( القرآن ){[43423]} فاختارت الله ورسوله والدار الآخرة . ورُؤي الفرح في وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتابعنها على ذلك ، قال قتادة فلما اخْتَرْن الله{[43424]} ورسوله شكرهن الله على ذلك وقصره عليهن فقال : { لاَ تَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ } . وعن جابر بن عبد الله قال{[43425]} : «دخل أبو بكر يستأذن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوجد الناس جلوساً ببابه لم يؤذن لواحد{[43426]} منهم قال : فأذن لأبي بكر فدخل ثم أقبل عمر فاستأذن فأذن له فوجد النبي - صلى الله عليه وسلم - جالساً حوله نساؤه واجماً{[43427]} ساكناً قال : فقال : لأقولَنَّ شيئاً أُضْحِكُ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله لو رأيت بنت خارجة سألتني النفقة فقمت إليها فَوَجأْتُ عنقها فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال : هن حولي كما ترى يسألنني النفقة فقام أبو بكر إلى عائشة يَجَأُ عُنُقَها وقام عمر إلى حفصة يَجَأُ عنقها كلاهما يقول{[43428]} : تسألن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً أبداً ليس عنده ثم اعتزلهن شهراً أو تسعاً وعشرين يوماً ثم نزلت هذه الآية : { يا أيها النبي قُل لأَزْوَاجِكَ } حتى بلغ { لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً } قال : فبدأ بعائشة فقال : يا عائشة إني أعرض عليك أمراً لا أحب أن تعجلي حتى تستشيري أبويك ، قالت : وما هو يا رسول الله فتلا عليها الآية فقالت : أفيك يا رسول الله أستشير أَبَويَّ بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة وأسألك أن لا تخبر امرأة من نسائك بالذي{[43429]} قلت ، قال : لا تسألني امرأة منهن إلا أخبرتها إنّ الله لم يبعثني معنتاً{[43430]} ولا متعنتاً ولكن بعثني معلماً مبشراً » .

وروى الزهري «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقسم أن لا يدخل على أزواجه شهراً » قال الزهري : فأخبرني عروة «عن عائشة قالت{[43431]} : فلما مضت تسعٌ وعشرونَ أعُدُّهن دخل عليّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت : بدأ بي فقلت : يا رسول الله إنك أقسمت أن لا تدخل علينا شهراً وإنك دخلت من تسع وعشرين أعدهن فقال : إن الشهر تسع وعشرون » .

فصل :

اختلف العلماء في هذا الخيار هل كان ذلك تفويض الطلاق إليهن حتى يقع بنفس الاختيار أم لا ؟ فذهب الحَسَنُ وَقَتَادة{[43432]} وأكثر أهل العلم إلى أنه لم يكن تفويض للطلاق ، وإنما خيرهن على أنهن إذا اخترن الدنيا فارقهن لقوله تعالى : { فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ } ويدل عليه أنه لم يكن جوابهن على الفور فإنه قال لعائشة : «لا تعجلي حتى تَسْتَشِيري أبوَيْك » وفي تفويض الطلاق يكون الجواب على الفور . وذهب آخرون إلى أنه كان تفويضَ طلاق ولو اخترن أنفسهن كان طلاقاً ، واختلف العلماء في حكم التخيير فقال عمر وابن مسعود وابن عباس إذا خير رجلٌ امرأته فاختارت زوجها لا يقع شيء{[43433]} ، ولو اختارت نفسها وقع طلقة واحدة وهو قول عمر بن عبد العزيز وابنُ أبي ليلى{[43434]} وسفيان والشافعي وأصحاب الرأي إلا أن عند أصحاب الرأي تقع طلقةً بائنةً{[43435]} إذا اختارت نفسها ، وعند الآخرين رجعيةً ، وقال زيد بن ثابت : إذا اختارت الزوج يقع طلقة واحدةً وإذا اختارت نفسها فثلاثٌ وهو قول الحسن ، وروايةٌ عن مالك{[43436]} .

وروي عن علي أيضاً أنها إذا اختارت زوجها يقع طلقة{[43437]} واحدة وإذا اختارت نفسها فطلقة ثانية ، وأكثر العلماء{[43438]} على أنها إذا اختارت زوجها لا يقع شيء لما روت عائشة قالت : «خيرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاخترنا الله ورسوله فلم يعد ذلك شيئاً » .

قوله : «أُمَتِّعْكُنَّ وأُسَرِّحْكُنَّ » العامة على جزمهما ، وفيه وجهان :

أحدهما : أنه مجزوم على جواب الشرط ، وما بين الشرط وجوابه{[43439]} معترض ، ولا يضر دخول الفاء على جملة الاعتراض ومثله في دخول الفاء قوله :

4084 - وَاعْلَمْ فَعِلْمُ المَرْءِ يَنْفَعهُ *** أَنْ سَوْفَ يَأْتِي كُلُّ مَا قُدِرَا{[43440]}

يريد : واعلم أن سوف يأتي .

والثاني : أن الجواب قوله «فتعالين » و «أمتعكن » جواب لهذا الأمر ، وقرأ زيد بن علي «أُمْتِعْكُنَّ » ، بتخفيف التاء من «أمتعه »{[43441]} وقرأ حُمَيْد الحَزَّاز{[43442]} «أُمَتِّعُكُنَّ وَأُسَرِّحُكُنَّ » بالرفع فيهما على الاستئناف{[43443]} و «سَرَاحاً » قائم مقام التَّسريح .

فصل :

قال ابن الخطيب : وههنا{[43444]} مسائل منها هل كان هذا التخيير واجباً على النبي ( صلى الله عليه وسلم{[43445]} ) أم لا والجواب أن التخيير كان قولاً واجباً من غير شك لأنه إبلاغ للرسالة لأن الله تعالى لما قال ( له{[43446]} ) : «قل لهم » صار من الرسالة ، وأما التخيير معنى فمبني على أن الأمر للوجوب أم لا ، والظاهر أنه للوجوب ومنه أن واحدة منهم لو اختارت الفراق هل كان يصير اختيارها فراقاً . والظاهر أنه لا يصير فراقاً وإنما تبين المختارة نفسها فإنه من جهة النبي عليه{[43447]} السلام لقوله : { فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً } ومنها أن واحدة منهن لو اختارت نفسها وقلنا إنها لا تبين إلا بإبانة النبي - صلى الله عليه وسلم - فهل كان يجب على النبي عليه ( الصلاة{[43448]} و ) السلام الطلاق أم لا ؟ الظاهر نظراً إلى منصبه عليه ( الصلاة{[43449]} و ) السلام أنه كان طلاقاً لأن الخُلْفَ في الوعد من النبي غير جائز بخلاف أحدنا فإنه لا يلزمه شرعاً الوفاء بما يعد ، ومنها أن المطلقة بعد البينونة هل كانت تحرم على غيره أم لا ؟ والظاهر أنها لا تحرم وإلا لم يكن التخيير ممكناً لها من التمتع بزينة الدنيا ومنها أن من اختارت الله ورسوله هل كان يحرم على النبي عليه ( الصلاة{[43450]} و ) السلام طلاقها أم لا ؟ الظاهر الحرمة نظراً إلى منصب الرسول عليه السلام على معنى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يمتنع منه أصلاً لا بمعنى أنه لو أتى به لعُوقِب أو لعُوتِبَ .


[43414]:زيادة من "أ" عن "ب".
[43415]:ذكره الفخر الرازي في تفسيره 25/205.
[43416]:زيادة من "ب".
[43417]:المرجع السابق.
[43418]:ساقط من "ب".
[43419]:المرجع السابق.
[43420]:ساقط من "ب".
[43421]:ساقط من "ب".
[43422]:ذكره الإمام أبو الفرج ابن الجوزي في زاد المسير 6/376.
[43423]:سقط من "ب".
[43424]:قاله ابن الجوزي في تفسيره 6/378.
[43425]:رواه الإمامان البخاري ومسلم واللفظ للإمام مسلم انظر: صحيح مسلم "باب الإيلاء واعتزال النساء وتخييرهن" 2/1105 و 1106 وانظر: الدر المنثور للسيوطي 5/194 وقد زاد نسبته للإمام أحمد والنسائي وابن مردويه عن جابر، وانظر القرطبي 4/162 و 163.
[43426]:في صحيح مسلم "لأحد منهم" وهو ما في "ب".
[43427]:في "ب" ورجع ساكتاً وهو خلاف ما في مسلم وغيره.
[43428]:في "ب" لا تسألن بالنفي وهو بخلاف ما في المراجع.
[43429]:في "ب" و "أ" ما الذي بصيغة الاستفهام.
[43430]:في "ب" مفتناً ولا متفتناً.
[43431]:في "ب" قال.
[43432]:ذكره الإمام القرطبي في تفسيره الجامع لأحكام القرآن 14/170 وقال: ومن الصحابة علي فيما رواه عنه أحمد بن حنبل أنه قال: لم يخير رسول الله- صلى الله عليه وسلم- نساءه إلا بين الدنيا والآخرة.
[43433]:هذا رأي علماء الصحابة ومن علماء التابعين الذين اختاروا هذا الرأي عطاء ومسروق، وسليمان بن يسار وربيعة وابن شهاب وانظر: المرجع السابق 14/171.
[43434]:ابن أبي ليلى: عبد الرحمن الأنصاري الأوسي أبو عيسى الكوفي عن عمر ومعاذ وبلال وأبي ذر، أدرك مائة وعشرين من الصحابة الأنصاريين وعنه ابنه عيسى ومجاهد وعمرو بن ميمون مات سنة 83 هـ، انظر: الخلاصة 234.
[43435]:وهو قول أبي حنيفة وأصحابه ورواه ابن خويز منداد عن مالك. القرطبي 14/171.
[43436]:هو الإمام مالك بن أنس أحد أئمة المذاهب الأربعة الذين كان لهم فضل في معرفة الدِّين وأحكامه الفقهية وانظر المرجع السابق وحجة مالك ومن معه أن الملك إنما يكون بذلك.
[43437]:رجعية كما روي عنه أنها إذا اختارت نفسها فليس بشيء، انظر: المرجع السابق.
[43438]:وهو الصحيح، لقول عائشة الأعلى الذي أخرجه الصحيحان البخاري ومسلم، وقد قال ابن المنذر: وحديث عائشة يدل على أن المخيرة إذا اختارت نفسها أنها تطليقة يملك زوجها رجعتها إذ غير جائز أن يطلق رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بخلاف ما أمره الله. الجامع 14/171.
[43439]:ذكرها السمين في الدر 4/381 وفيه "وجزائه" بدلاً من "وجوابه".
[43440]:البيت من تام الكامل وهو مجهول القائل. وانظر: البحر المحيط 7/227 وشذور الذهب 347، ومعاهد التنصيص 1/128 والأشموني 1/292 والهمع 1/148 وشرح شواهد المغني 828 والمغني 398 وشواذ القرآن "193" و "194".
[43441]:ذكرها أبو حيان في بحره 7/227 وانظر: شواذ القرآن 194 للكرماني.
[43442]:هو حميد بن ربيع أبو القاسم السابوري الحزّاز، روى القراءة عن الكسائي وعنه محمد بن إسحاق السراج غاية النهاية 1/265.
[43443]:ذكرها ابن خالويه في المختصر 119 وانظر ما سبق من المراجع.
[43444]:الرازي 25/205 و 206.
[43445]:ساقط من "ب".
[43446]:كذلك.
[43447]:في "ب" صلى الله عليه وسلم.
[43448]:زيادة من نسخة "ب".
[43449]:زيادة من نسخة "ب".
[43450]:زيادة من نسخة "ب".