الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي - السيوطي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لِّأَزۡوَٰجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدۡنَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيۡنَ أُمَتِّعۡكُنَّ وَأُسَرِّحۡكُنَّ سَرَاحٗا جَمِيلٗا} (28)

أخرج أحمد ومسلم والنسائي وابن مردويه من طريق أبي الزبير عن جابر قال : «أقبل أبو بكر رضي الله عنه يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والناس ببابه جلوس ، والنبي صلى الله عليه وسلم جالس ، فلم يؤذن له ، ثم أذن لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، فدخلا والنبي صلى الله عليه وسلم جالس وحوله نساؤه وهو ساكت فقال عمر رضي الله عنه : لأكلمن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعله يضحك ، فقال عمر رضي الله عنه : يا رسول الله لو رأيت ابنة زيد امرأة عمر سألتني النفقة آنفاً فوجأت عنقها ، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدا ناجذه ، وقال : هن حولي يسألنني النفقة . فقام أبو بكر رضي الله عنه إلى عائشة رضي الله عنها ليضربها ، وقام عمر إلى حفصة كلاهما يقولان : تسألان النبي صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده . فنهاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا ، فقلن نساؤه : والله لا نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذا المجلس ما ليس عنده . وأنزل الله الخيار فبدأ بعائشة رضي الله عنها فقال " إني ذاكر لك أمراً ما أحب أن تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك . قالت : ما هو ؟ فتلا عليها { يا أيها النبي قل لأزواجك . . . } . قالت عائشة رضي الله عنها : أفيك استأمر أبوي ؟ ! بل اختار الله ورسوله ، وأسألك أن لا تذكر إلى امرأة من نسائك امرأة ما اخترت ، فقال : إن الله لم يبعثني متعنتاً ، وإنما بعثني معلماً مبشراً ، لا تسألني امرأة منهن عما اخترت إلا أخبرتها " .

وأخرج ابن سعد عن أبي سلمة الحضرمي قال « جلست مع أبي سعيد الخدري ، وجابر بن عبد الله رضي الله عنهما ، وهما يتحدثان وقد ذهب بصر جابر رضي الله عنه ، فجاء رجل فجلس ، ثم قال : يا أبا عبد الله أرسلني إليك عروة بن الزبير ، أسألك فيم هجر رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه ؟ ، فقال جابر رضي الله عنه : تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة لم يخرج إلى الصلاة ، فأخذنا ما تقدم وما تأخر ، فاجتمعنا ببابه يسمع كلامنا ويعلم مكاننا ، فأطلنا الوقوف ، فلم يأذن لنا ، ولم يخرج إلينا ، فقلنا : قد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانكم ، ولو أراد أن يأذن لكم لأذن فتفرقوا لا تؤذوه ، فتفرقوا غير عمر بن الخطاب رضي الله عنه يتنحنح ويتكلم ويستأذن حتى أذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال عمر رضي الله عنه : فدخلت عليه وهو واضع يده على خده أعرف به الكآبة ، فقلت له : أي نبي الله - بأبي أنت وأمي يا رسول الله - ما الذي رابك ؟ وما الذي لقي الناس بعدكم من فقدهم لرؤيتك ؟ فقال : يا عمر سألتني الاماء ما ليس عندي - يعني نساءه - فذاك الذي بلغ بي ما ترى . فقلت : يا نبي الله قد صككت جميلة بنت ثابت صكة ألصقت خدها منها بالأرض لأنها سألتني ما ليس عندي ، وأنت يا رسول الله على موعد من ربك ، وهو جاعل بعد العسر يسراً قال : فلم أزل أكلمه حتى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تحلل عنه بعض ذلك ، فخرجت ، فلقيت أبا بكر الصديق رضي الله عنه ، فحدثته الحديث ، فدخل أبو بكر على عائشة رضي الله عنها ، قد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدخر عنكن شيئاً ، فلا تسأليه ما لا يجد ، انظري حاجتك فاطلبيها إلي ، وانطلق عمر رضي الله عنه إلى حفصة ، فذكر لها مثل ذلك ، ثم اتبعا أمهات المؤمنين ، فجعلا يذكران لهن مثل ذلك ، فأنزل الله تعالى في ذلك { يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحاً جميلاً } يعني متعة الطلاق ويعني بتسريحهن : تطليقهن طلاقاً جميلاً { وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجراً عظيماً } .

فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبدأ بعائشة رضي الله عنها فقال : إن الله قد أمرني أن أخيركن بين أن تخترن الله ورسوله والدار الآخرة ، وبين أن تخترن الدنيا وزينتها ، وقد بدأت بك وأنا أخيرك قالت : وهل بدأت بأحد قبلي منهن ؟ قال : لا . قالت : فإني أختار الله ورسوله والدار الآخرة ، فاكتم علي ولا تخبر بذاك نساءك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بل أخبرهن به ، فأخبرهن رسول الله صلى الله عليه وسلم جميعاً ، فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة ، فكان خياره بين الدنيا والآخرة . اتخترن الآخرة أو الدنيا ؟ قال { وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجراً عظيماً } فاخترن أن لا يتزوجن بعده ، ثم قال { يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة } يعني الزنا { يضاعف لها العذاب ضعفين } يعني في الآخرة { وكان ذلك على الله يسيراً ، ومن يقنت منكن لله ورسوله } يعني تطيع الله ورسوله { وتعمل صالحاً نؤتها أجرها مرتين } مضاعفاً لها في الآخرة { وأعتدنا لها رزقاً كريماً } { يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض } يقول فجور { وقلن قولاً معروفاً ، وقرن في بيوتكن } يقول لا تخرجن من بيوتكن { ولا تبرجن } يعني إلقاء القناع فعل الجاهلية الأولى ، ثم قال جابر رضي الله عنه : ألم يكن الحديث هكذا ؟ قال : بلى .

وأخرج البخاري ومسلم والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في سننه عن عائشة رضي الله عنها « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءها حين أمره الله أن يخير أزواجه قالت : فبدأ بي فقال : إني ذاكر لك أمراً فلا عليك أن تستعجلي حتى تستأمري أبويك ، قد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه ، فقال : إن الله قال { يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها } إلى تمام الآيتين . فقلت له : ففي أي هذا استأمر أبوي ، فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة ، وفعل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مثل ما فعلت » .

وأخرج ابن سعد عن عمرو بن سعيد عن أبيه عن جده قال « لما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه بدأ بعائشة رضي الله عنها قال : إن الله خيرك فقالت : اخترت الله ورسوله ، ثم خير حفصة رضي الله عنها فقلن جميعاً : اخترنا الله ورسوله ، غير العامرية اختارت قومها ، فكانت بعد تقول : أنا الشقية ، وكانت تلقط البعر وتبيعه ، وتستأذن على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وتقول : أنا الشقية » .

وأخرج ابن سعد عن أبي جعفر رضي الله عنه قال : قال نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما نساء أغلى مهوراً منا ، فغار الله لنبيه صلى الله عليه وسلم ، فأمره أن يعتزلهن ، فاعتزلهن تسعة وعشرين يوماً ، ثم أمره أن يخيرهن فخيرهن .

وأخرج ابن سعد عن أبي صالح قال : اخترنه صلى الله عليه وسلم جميعاً غير العامرية ، كانت ذاهبة العقل حتى ماتت .

وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن عائشة رضي الله عنها قالت «حلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ليهجرنا شهراً ، فدخل عليَّ صبيحة تسعة وعشرين ، فقلت : يا رسول الله ألم تكن حلفت لتهجرنا شهرا ؟ قال : إن الشهر هكذا وهكذا وهكذا . وضرب بيده جميعاً ، وخنس يقبض أصبعاً في الثالثة ثم قال : يا عائشة إني ذاكر لك أمراً ، فلا عليك أن تعجلي حتى تستشيري أبويك ، وخشي رسول الله صلى الله عليه وسلم حداثة سني قلت : وما ذاك يا رسول الله ؟ قال : إني أمرت أن أخيركن ، ثم تلا هذه الآية { يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها } إلى قوله { أجراً عظيماً } قالت : فيم استشير أبوي يا رسول الله ؟ بل اختار الله ورسوله ، فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ، وسمع نساؤه فتواترن عليه » .

وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : إنما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم أزواجه بين الدنيا والآخرة .

وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة والحسن رضي الله عنهما قالا : أمره الله أن يخيرهن بين الدنيا والآخرة ، والجنة والنار ، قال الحسن رضي الله عنه : في شيء كن أردنه من الدنيا . وقال قتادة رضي الله عنه : في غيرة كانت غارتها عائشة رضي الله عنها ، وكان تحته يومئذ تسع نسوة ، خمس من قريش . عائشة . وحفصة . وأم حبيبة بنت أبي سفيان . وسودة بنت زمعة . وأم سلمة بنت أبي أمية . وكانت تحته صفية بنت حيي الخيبرية . وميمونة بنت الحارث الهلالية . وزينب بنت جحش الأسدية . وجويرية بنت الحارث من بني المصطلق . وبدأ بعائشة رضي الله عنها ، فلما اختارت الله ورسوله والدار الآخرة رؤي الفرح في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتتابعن كلهن على ذلك ، فلما خيرهن واخترن الله ورسوله والدار الآخرة ، شكرهن الله تعالى على ذلك إذ قال { لا تحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن } فقصره الله تعالى عليهن ، وهن التسع اللاتي اخترن الله ورسوله .

وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير رضي الله عنه في قوله { يا أيها النبي قل لأزواجك . . . } . قال أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يخبر نساءه في هذه الآية فلم تختر واحدة منهن نفسها غير الحميرية .