التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لِّأَزۡوَٰجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدۡنَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيۡنَ أُمَتِّعۡكُنَّ وَأُسَرِّحۡكُنَّ سَرَاحٗا جَمِيلٗا} (28)

ثم عادت السورة الكريمة مرة أخرى - بعد هذا الحديث عن غزة الخندق - إلى بيان التوجيهات الحكيمة التى وجهها الله - تعالى - إلى نبيه صلى الله عليه وسلم وإلى أزواجه ، فقال - { ياأيها النبي قُل لأَزْوَاجِكَ . . . . أَجْراً عَظِيماً } .

ففى هاتين الآيتين يأمر الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم أن يخير أزواجه بين أن يعشن معه معيشة الكفاف والزهد فى زينة الحياة الدنيا وبين أن يفارقهن ليحصلن على ما يشتهينه من زينة الحياة الدنيا .

قال الإِمام القرطبى ما ملخصه : قال علماؤنا : هذه الآية متصلة بمعنى ما تقدم من المنع من إيذاء النبى صلى الله عليه وسلم وكان قد تأذى ببعض الزوجات . قيل : سألنه شيئا عن عرض الدنيا . وقيل : سألنه زيادة فى النفقة .

روى البخارى ومسلم - واللفظ لمسلم - " عن جابر بن عبد الله قال : دخل ابو بكر يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد الناس جلوسنا ببابه لم يؤذن لأحد منهم ، قال : فأذن لأبى بكر فدخل ، ثم جاء عمر فاستأذن فأذن له ، فوجد النبى صلى الله عليه وسلم جالسنا حوله نساؤه .

قال : فقال عمر ، والله لأقولن شيئا يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، لو رأيت بنت زيد - زوجة عمر - سألتنى النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها : فضحك رسول الله صلى الله علي وسلم وقال : " هن حولى كما ترى يسألننى النفقة " .

فقام أبو بكر إلى ابنته عائشة ليضربها ، وقام عمر إلى ابنته حفصة ليضربها وكلاهما يقول : تسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده .

فقلت : والله لا نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا أبدا ليس عنده .

ثمن زلت هاتان الآيتان . فبدأ صلى الله عليه وسلم بعائشة فقال لها : " يا عائشة ، إنى أريد أن أعرض عليك أمرا ، أحب أن لا تعجلى فيه حتى تشتشيرى أبويك " .

قالت : وما هو يا رسول الله ؟ فتلا عليها هاتين الآيتين . فقالت : أفيك يا رسول الله أستشير أبوى ! ! بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة .

وفعل أزواج النبى صلى الله عليه وسلم ما فعلت عائشة " .

وقال الإِمام ابن كثير - بعد أن ساق جملة من الأحاديث فى هذا وكان تحته يومئذ تسع نسوة ، خمس من قريش : عائشة وحفصة ، وأم حبيبة وسودة ، وأم سلمة .

وأربع من غير قريش - وهن صفية بنت حيى النضرية ، وميمونة بنت الحارث الهلالية ، وزينب بنت جحش الأسدية ، وجويرية بنت الحارث المُصْطَلَقِيَّة - رضى الله عنهن .

وقال الإِمام الآلوسى : فلما خيرهن واخترن الله ورسوله والدار الآخرةن مدحهن الله - تعالى - على ذلك ، إذ قال - سبحانه - : { لاَّ يَحِلُّ لَكَ النسآء مِن بَعْدُ وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ } فقصره الله - تعالى - عليهن ، وهن التسع اللاتى اخترن الله ورسوله والدار الآخرة .

والمعنى : { ياأيها النبي قُل لأَزْوَاجِكَ } اللائى فى عصمتك { إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا } .

أى : إن كنتن تردن سعة الحياة الدنيا وبهجتها وزخارفها ومتها من مأكل ومشرب وملبس ، فوق ما أنتن فيه عندى من معيشة مقصورة على ضروريات الحياة ، وقائمة على الزهد فى زينتها .

إن كنتن تردن ذلك : { فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً } .

قال الجمل : وقوله : { فَتَعَالَيْنَ } فعل أمر مبنى على السكون ، ونون النسوة فاعل . وأصل هذا الأمر أن يكون الآمر أعلى مكانا من المأمور ، فيدعوه أن يرفع نفسه إليه ، ثم كثر استعماله حتى صرا معناه أقبل . وهو هنا كناية عن الاختيار والإِرادة . والعلاقة هى أن المخبر يدنو إلى من يخبره .

وقوله : { أُمَتِّعْكُنَّ } مجزوم فى جواب الأمر . والمتعة : ما يعطيه الرجل للمرأة التى طلقها ، زيادة على الحقوق المقررة لها شرعا ، وقد جعلها - سبحانه - حقا على المحسنين الذين يبغون رضا الله - تعالى - وحسن ثوابه .

وقوله { وَأُسَرِّحْكُنَّ } معطوف على ما قبله ، والتسريح : إرسال الشئ ، ومنه تسريح الشعر ليخلص بعضه من بعض . ويقال : سرح فلان الماشية ، إذا أرسلها لترعى والمراد به هنا : طلاق الرجل للمرأة ، وتركها لعصمته .

أى : ما قل - أيها الرسول الكريم - لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها ، ولا تستطعن الصبر على المعيشة ، معى ، فلكن أن تخترن مفارقنى ، وإنى على استعداد أن أعطيكن المتعة التى ترضينها ، وأن أطلقكن طلاقا لا ضرر فيه ، ولا ظلم معه ، لأنى سأعطيكن ما هو فوق حقكن .