ثم يتكرر النداء إلى ( بني آدم ) في هذه الوقفة كذلك ؛ قبل أن يتابع السياق الرحلة المديدة ؛ في الطريق المرسوم :
( يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد ، وكلوا واشربوا ولا تسرفوا ، إنه لا يحب المسرفين . قل : من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ؟ قل : هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا ، خالصة يوم القيامة . كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون . قل : إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن ؛ والإثم والبغي بغير الحق ، وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً ، وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ) . .
إنه التوكيد بعد التوكيد على الحقائق الأساسية للعقيدة ، في مواجهة ما عليه المشركون العرب في الجاهلية ؛ وذلك في سياق النداء إلى بني آدم كافة ، وفي مواجهة قصة البشرية الكبرى . .
وأظهر هذه الحقائق هو الربط بين ما يحرمونه من الطيبات التي أخرجها الله لعباده دون إذن منه ولا شرع ؛ وبين الشرك الذي هو الوصف المباشر لمن يزاول هذا التحريم ، ويقول على الله ما لا يعلم ، ويزعم من ذلك ما يزعم .
إنه يناديهم أن يأخذوا زينتهم من اللباس الذي أنزله الله عليهم . وهو الرياش . عند كل عبادة ؛ ومنها الطواف الذي يزاولونه عرايا ، ويحرمون اللباس الذي لم يحرمه الله ، بل أنعم به على العباد . فأولى أن يعبدوه بطاعته فيما أنزل لهم ، لا بخلعه ولا بالفحش الذي يزاولونه :
( يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد ) . .
ويناديهم كذلك ليتمتعوا بالطيبات من الطعام والشراب دون إسراف :
( وكلوا واشربوا ولا تسرفوا . إنه لا يحب المسرفين ) .
وقد ورد أنه كان هناك تحريم في الطعام كالتحريم في الثياب . وكان هذا من مبتدعات قريش كذلك !
في صحيح مسلم عن هشام عن عروة عن أبيه قال : " كانت العرب تطوف بالبيت عراة إلا الحمس ، والحمس قريش وما ولدت . كانوا يطوفون بالبيت عراة إلا أن تعطيهم الحمس ثياباً ، فيعطي الرجال الرجال ، والنساء النساء . وكانت الحمس لا يخرجون من المزدلفة ؛ وكان الناس يبلغون عرفات . ويقولون : نحن أهل الحرم ، فلا ينبغي لأحد من العرب أن يطوف إلا في ثيابنا ، ولا يأكل إذا دخل أرضنا إلا من طعامنا . فمن لم يكن له من العرب صديق بمكة يعيره ثوباً ، ولا يسارٌ يستأجره به كان بين أحد أمرين : إما أن يطوف بالبيت عرياناً وإما أن يطوف في ثيابه ، فإذا فرغ من طوافه ألقى ثوبه فلم يمسه أحد . وكان ذلك الثوب يسمى اللقى " . .
وجاء في تفسير القرطبي المسمى " أحكام القرآن " : " وقيل إن العرب في الجاهلية كانوا لا يأكلون دسماً في أيام حجهم ، ويكتفون باليسير من الطعام ، ويطوفون عراة . فقيل لهم : ( خذوا زينتكم عند كل مسجد ، وكلوا واشربوا ، ولا تسرفوا ) أي لا تسرفوا في تحريم ما لم يحرم عليكم " . . والإسراف يكون بتجاوز الحد ، كما قد يكون بتحريم الحلال . كلاهما تجاوز للحد . هذا باعتبار ، وذاك باعتبار .
هذه الآية الكريمة ردٌّ على المشركين فيما كانوا يعتمدونه من الطواف بالبيت عُراة ، كما رواه مسلم والنسائي وابن جرير{[11671]} - واللفظ له - من حديث شعبة ، عن سلمة بن كُهَيْل ، عن مسلم البَطِين ، عن سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس قال : كانوا يطوفون بالبيت عراة ، الرجال والنساء : الرجال بالنهار ، والنساء بالليل . وكانت المرأة تقول :
اليومَ يبدُو بعضُه أو كُلّه *** وما بَدَا مِنْه فلا أحِلّهُ
فقال الله تعالى : { خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ }{[11672]}
وقال العَوْفي ، عن ابن عباس في قوله [ تعالى ]{[11673]} { خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ } الآية ، قال : كان رجال يطوفون بالبيت عراة ، فأمرهم الله بالزينة - والزينة : اللباس ، وهو ما يواري السوأة ، وما سوى ذلك من جَيّد البزِّ والمتاع - فأمروا أن يأخذوا زينتهم عند كل مسجد .
وكذا قال مجاهد ، وعطاء ، وإبراهيم النَّخعي ، وسعيد بن جُبَيْر ، وقتادة ، والسُّدِّي ، والضحاك ، ومالك عن الزهري ، وغير واحد من أئمة السلف في تفسيرها : أنها أنزلت في طوائف المشركين بالبيت عراة .
وقد روى الحافظ بن مَرْدُويه ، من حديث سعيد بن بشير والأوزاعي ، عن قتادة ، عن أنس مرفوعا ؛ أنها أنزلت{[11674]} في الصلاة في النعال . ولكن في صحته نظر{[11675]} والله أعلم .
ولهذه الآية ، وما ورد في معناها من السنة ، يستحب التجمل عند الصلاة ، ولا سيما يوم الجمعة ويوم العيد ، والطيب لأنه من الزينة ، والسواك لأنه من تمام ذلك ، ومن أفضل الثياب{[11676]} البياض ، كما قال الإمام أحمد :
حدثنا علي بن عاصم ، حدثنا عبد الله بن عثمان بن خُثَيم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " البسوا من ثيابكم البياض ، فإنها من خير ثيابكم ، وكَفِّنوا فيها موتاكم ، وإن خير أكحالكم الإثْمِد ، فإنه يجلو البصر ، وينبت الشعر " .
هذا حديث جيد الإسناد ، رجاله{[11677]} على شرط مسلم . ورواه أبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه ، من حديث عبد الله بن عثمان بن خُثَيم ، به{[11678]} وقال الترمذي : حسن صحيح .
وللإمام أحمد أيضا ، وأهل السنن بإسناد جيد ، عن سَمُرَة بن جُنْدَب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عليكم بالثياب البياض فالبسوها ؛ فإنها أطهر وأطيب ، وكفنوا فيها موتاكم " {[11679]}
وروى الطبراني بسند{[11680]} صحيح ، عن قتادة ، عن محمد بن سيرين : أن تميما الداري اشترى رداءً بألف ، فكان يصلي فيه .
وقوله تعالى : { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا [ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ] }{[11681]} الآية . قال بعض السلف : جمع الله الطب كله في نصف آية : { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا }
وقال البخاري : قال ابن عباس : كل ما شئت ، والبس ما شئت ، ما أخطأتك خصلتان : سرَف ومَخِيلة .
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، حدثنا محمد بن ثَوْر ، عن مَعْمَر ، عن
ابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : أحل الله الأكل والشرب ، ما لم يكن سرَفًا أو مَخِيلة . إسناده صحيح .
وقال الإمام أحمد : حدثنا بَهْز ، حدثنا هَمّام ، عن قتادة ، عن عمرو بن شُعَيْب ، عن أبيه ، عن جده ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا ، في غير مَخِيلة ولا سرَف ، فإن الله يحب أن يرى{[11682]} نعمته على عبده " {[11683]}
ورواه النسائي وابن ماجه ، من حديث قتادة ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كلوا وتصدقوا والبسوا في غير إسراف ولا مَخِيلة " {[11684]}
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو المغيرة ، حدثنا سليمان بن سليم الكِناني ، حدثنا يحيى بن جابر الطائي{[11685]} سمعت المقدام بن معد يكرب الكندي{[11686]} قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما ملأ آدمي وعاءً شرًا من بطنه ، حَسْبُ ابن آدم أكلات يُقِمْنَ صُلبه ، فإن كان فاعلا لا محالة ، فثلث طعامٌ ، وثلث شرابٌ ، وثلث لنفسه " .
ورواه النسائي والترمذي ، من طرق ، عن يحيى بن جابر ، به{[11687]} وقال الترمذي : حسن - وفي نسخة : حسن صحيح .
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده : حدثنا سُوَيْد بن عبد العزيز{[11688]} حدثنا بَقِيَّة ، عن يوسف ابن أبي كثير ، عن نوح بن ذَكْوان ، عن الحسن ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن من السَّرف أن تأكل كل ما اشتهيت " .
ورواه الدارقطني في الأفراد ، وقال : هذا حديث غريب تفرد به بقية . {[11689]}
وقال السُّدِّي : كان الذين يطوفون بالبيت عراة ، يحرمون عليهم الودَكَ ما أقاموا في الموسم ؛ فقال الله [ تعالى ]{[11690]} لهم : { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا [ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ] }{[11691]} يقول : لا تسرفوا في التحريم .
وقال مجاهد : أمرهم أن يأكلوا ويشربوا مما رزقهم الله .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : { وَلا تُسْرِفُوا } يقول : ولا تأكلوا حرامًا ، ذلك الإسراف .
وقال عطاء الخراساني ، عن ابن عباس قوله : { وَكُلُوا{[11692]} وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } في الطعام والشراب .
وقال ابن جرير : وقوله : { إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } يقول الله : إن الله [ تعالى ]{[11693]} لا يحب المتعدين{[11694]} حَدَّه في حلال أو حرام ، الغالين فيما أحل أو حَرّم ، بإحلال الحرام وبتحريم الحلال ، ولكنه يحب أن يحلل ما أحل ، ويحرم ما حرم ، وذلك العدل الذي أمر به .
هذا خطاب عام لجميع العالم وأمروا بهذه الأشياء بسبب عصيان حاضري ذلك الوقت من مشركي العرب فيها ، والزينة ها هنا الثياب الساترة قاله مجاهد والسدي ، وقال طاوس : الشملة من الزينة .
قال القاضي أبو محمد : ويدخل فيها ما كان من الطيب للجمعة والسواك وبدل الثياب وكل ما وجد استحسانه في الشريعة ولم يقصد به مستعملة الخيلاء ، و { عند كل مسجد } عند كل موضع سجود فهي إشارة إلى الصلوات وستر العورة فيها هذا هو مهم الأمر ، ويدخل مع الصلاة مواطن الخير كلها ، ومع ستر العورة ما ذكرناه من الطيب للجمعة وغير ذلك ، وذكر مكي حديثاً أن معنى { خذوا زينتكم } صلوا في النعال ، وما أحسبه يصح .
وقوله تعالى : { وكلوا واشربوا } نهي عما كانوا التزموه من تحريم اللحم والودك في أيام الموسم ، قال السدي وابن زيد ، وتدخل مع ذلك أيضاً البحيرة والسائبة ونحو ذلك ، وقد نص على ذلك قتادة وقال إن البحيرة وما جانسها هي المراد بقوله تعالى : { والطيبات من الرزق } ، وقوله تعالى : { ولا تسرفوا } معناه ولا تفرطوا ، قال أهل التأويل : يريد ولا تسرفوا بأن تحرموا على أنفسكم ما لم يحرم الله عز وجل ، قال ابن عباس : ليس في الحلال سرف إنما السرف في ارتكاب المعاصي .
قال القاضي أبو محمد : يريد في الحلال القصد ، واللفظ يقتضي النهي عن السرف مطلقاً فمن تلبس بفعل حرام فتأول تلبسه به حصل من المسرفين وتوجه النهي عليه ، ومن تلبس بفعل مباح فإن مشى فيه على القصد وأوساط الأمور فحسن ، وإن أفرط حتى دخل الضرر حصل أيضاً من المسرفين وتوجه النهي عليه ، مثل ذلك أن يفرط الإنسان في شراء ثياب ونحوها ويستنفد في ذلك جل ماله أو يعطي ماله أجمع ويكابد بعياله الفقر بعد ذلك ونحوه ، فالله عز وجل لا يحب شيئاً من هذا ، وقد نهت الشريعة عنه ، ولذلك وقف النبي عليه السلام بالموصي عند الثلث ، وقال بعض العلماء : لو حط الناس إلى الربع لقول النبي عليه السلام «والثلث كثير » ، وقد قال ابن عباس في هذه الآية ، أحل الله الأكل والشرب مالم يكن سرفاً أو مخيلة .
وأمر الله عز وجل نبيه عليه السلام أن يسألهم عمن حرم ما أحل الله على جهة التوبيخ والتقرير وليس يقتضي هذا السؤال جواباً ، وإنما المراد منه التوقيف على سوء الفعل ، وذكر بعض الناس أن السؤال والجواب جاء في هذه الآية من جهة واحدة وتخيل قوله : { قل هي للذين آمنوا } جواباً .
قال القاضي أبو محمد : وهذا نظر فاسد ليس ذلك بجواب السؤال ولا يقتضي هذا النوع من الأسئلة جواباً .
إعادة النّداء في صدر هذه الجملة للاهتمام ، وتعريف المنادَى بطريق الإضافة بوصف كونهم بني آدم متابعة للخطاب المتقدّم في قوله : { يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً } [ الأعراف : 26 ] .
وهذه الجملة تتنزّل ، من التي بَعدها ، وهي قوله : { قل من حرم زينة الله } [ الأعراف : 32 ] منزلة النّتيجة من الجدل ، فقدمت على الجدل فصارت غرضاً بمنزلة دعوى وجعل الجدل حجّة على الدّعوى ، وذلك طريق من طرق الإنشاء في ترتيب المعاني ونتائجها .
فالمقصد من قوله : { خذوا زينتكم } إبطال ما زعمه المشركون من لزوم التّعرّي في الحجّ في أحوال خاصّة ، وعند مساجد معيّنة ، فقد أخرج مسلم عن ابن عبّاس ، قال : كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة وتقول من يُعيرني تِطْوافاً تجعله على فرجها وتقول :
اليومَ يبدو بعضُه أو كلُّه *** وما بَدا منه فلا أُحِلُّه
وأخرج مسلم عن عروة بن الزبير ، قال : كانت العرب تطوف بالبيت عراة إلاّ الحُمْس ، والحُمْس قريشٌ وما ولدتْ فكان غيرهم يطوفون عراة إلاّ أن يعطيهم الحُمْس ثياباً فيعطِي الرّجالُ الرّجالَ والنّساءُ النّساءَ ، وعنه : أنّهم كانوا إذا وصلوا إلى منى طرحوا ثيابهم وأتوا المسجد عُراة . وروي أنّ الحُمْس كانوا يقولون نحن أهل الحرم فلا ينبغي لأحد من العرب أن يطوف إلاّ في ثيابنا ولا يأكل إذا دَخل أرضنا إلاّ من طعامنا . فمن لم يكن له من العرب صديق بمكّة يعيره ثوباً ولا يجد من يستأجر به كان بين أحد أمرين إمّا أن يطوف بالبيت عُرياناً ، وإمّا أن يطوف في ثيابه فإذا فرغ من طوافه ألقى ثوبه عنه فلم يمسّه أحد وكان ذلك الثّوب يسمّى : اللَّقَى بفتح اللام قال شاعرهم :
كفى حزناً كَري عليه كأنّه *** لقى بين أيدي الطائفين حَرامُ
وفي « الكشاف » ، عن طاووس : كان أحدهم يطوف عرياناً ويدع ثيابه وراء المسجد وإن طاف وهي عليه ضُرِب وانتُزِعَت منه لأنّهم قالوا : لا نعبد الله في ثياببٍ أذنَبْنا فيها ، وقد أبطله النبي صلى الله عليه وسلم إذ أمر أبا بكر رضي الله عنه ، عام حجّته سنة تسع ، أن ينادي في الموسم : " أنْ لا يحج بعد العام مُشرك ولا يطوفَ بالبيت عُريان " .
وعن السدي وابن عبّاس كان أهل الجاهليّة التزموا تحريمَ اللّم والودك في أيام الموسم ، ولا يأكلون من الطّعام إلاّ قُوتاً ، ولا يأكلون دَسماً ، ونسب في « الكشاف » ذلك إلى بني عامر ، وكان الحُمْس يقولون : لا ينبغي لأحد إذا دخل أرضَنا أن يأكل إلاّ من طعامنا ، وفي « تفسير الطبري » عن جابر بن زيد كانوا إذا حجوا حرّموا الشاة ولبنها وسمْنها . وفيه عن قتادة : أنّ الآية أرادت ما حرّموه على أنفسهم من البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي .
فالأمر في قوله : { خذوا زينتكم } للوجوب ، وفي قوله : { وكلوا واشربوا } للإباحه لبني آدم الماضين والحاضرين .
والمقصود من توجيه الأمر أو من حكايته إبطالُ التّحريم الذي جعله أهل الجاهليّة بأنهم نقضوا به ما تقرّر في أصل الفطرة ممّا أمر الله به بني آدم كلّهم ، وامتن به عليهم ، إذ خلق لهم ما في الأرض جميعاً . وهو شبيه بالأمر الوارد بعد الحَظر . فإنّ أصله إبطال التّحريم وهو الإباحة كقوله تعالى : { وإذا حللتم فاصطادوا } [ المائدة : 2 ] بعد قوله : { غير محلي الصيد وأنتم حرم } [ المائدة : 1 ] وقد يعرض لما أبطل به التّحريم أن يكون واجباً . فقد ظهر من السّياق والسّباق في هذه الآيات أن كشف العورة من الفواحش ، فلا جرم يكون اللّباس في الحجّ منه واجبٌ ، وهو ما يستْر العورة ، وما زاد على ذلك مباح مأذون فيه إبطالاً لتحريمه ، وأمّا الأمر بالأكل والشّرب فهو للإباحة إبطالاً للتّحريم ، وليس يجب على أحد أكل اللّحم والدّسم .
وقوله : { عند كل مسجد } تعميم أي لا تخصّوا بعض المساجد بالتّعري مثل المسجد الحرام ومسجد مِنَى ، وقد تقدّم نظيره في قوله : { وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد } [ الأعراف : 29 ] . وقد ظهرت مناسبة عطف الأمر بالأكل والشّرب على الأمر بأخذ الزّينة ممّا مضى آنفاً .
والإسراف تقدّم عند قوله تعالى : { ولا تأكلوها إسرافاً } في سورة النّساء ( 6 ) ، وهو تجاوز الحدّ المتعارف في الشّيء أي : ولا تسرفوا في الأكل بكثرة أكل اللّحوم والدّسم لأنّ ذلك يعود بأضرار على البدن وتنشأ منه أمراض معضلة .
وقد قيل إنّ هذه الآية جمعت أصول حفظ الصّحة من جانب الغذاء فالنّهي عن السرف نهيُ إرشاد لا نهي تحريم بقرينة الإباحة اللاّحقة في قوله : { قل من حرم زينة الله } إلى قوله { والطيبات من الرزق } [ الأعراف : 32 ] ، ولأنّ مقدار الإسراف لا ينضبط فلا يتعلّق به التّكليف ، ولكن يوكل إلى تدبير النّاس مصالحهم ، وهذا راجع إلى معنى القسط الواقع في قوله سابقاً : { قل أمر ربي بالقسط } [ الأعراف : 29 ] فإن ترك السّرف من معنى العدل .
وقوله : { إنه لا يحب المسرفين } تذييل ، وتقدّم القول في نظيره في سورة الأنعام .
411- ابن كثير: قال مالك، عن الزهري في تفسيرها: أنها نزلت في طواف المشركين بالبيت عراة.
- ابن رشد: سئل مالك عن مساجد القبائل يصلى فيها بغير أردية فكرهه وقال: قال الله تعالى: {خذوا زينتكم عند كل مسجد}.
محمد العتبي: قال ابن القاسم: كره مالك الصلاة بغير أردية في المساجد، وقال: يقول الله سبحانه: {خذوا زينتكم عند كل مسجد}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لهؤلاء الذين يتعرّون عند طوافهم ببيته الحرام ويبدون عوراتهم هنالك من مشركي العرب، والمحرّمين منهم أكل ما لم يحرّمه الله عليهم من حلال رزقه تبرّرا عند نفسه لربه:"يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ" من الكساء واللباس، "عِنْدَ كُلْ مَسْجِد وكُلُوا "من طيبات ما رزقتكم، وحللته لكم، "وَاشْرَبُوا" من حلال الأشربة، ولا تحرّموا إلا ما حرّمت عليكم في كتابي أو على لسان رسولي محمد صلى الله عليه وسلم...
عن الزهريّ: أن العرب كانت تطوف بالبيت عراة، إلا الحمس (قريش وأحلافهم) فمن جاء من غيرهم وضع ثيابه وطاف في ثياب أحمس، فإنه لا يحلّ له أن يلبس ثيابه، فإن لم يجد من يعيره من الحمس فإنه يلقي ثيابه ويطوف عريانا، وإن طاف في ثياب نفسه ألقاها إذا قضى طوافه يحرمها فيجعلها حراما عليه، فلذلك قال: "خُذُوا زِينَتَكُمْ عَنْدَ كُلّ مَسْجِد".
"وَكُلُوا وَاشْرِبُوا وَلا تُسْرِفُوا"...عن ابن عباس، قال: أحلّ الله الأكل والشرب ما لم يكن سرفا أو مخيلة...
وقوله "إنّهُ لا يُحِبّ المُسْرِفِينَ" يقول: إن الله لا يحبّ المتعدّين حدّه في حلال أو حرام، الغالين فيما أحلّ الله أو حرّم بإحلال الحرام وبتحريم الحلال، ولكنه يحب أن يحلل ما أحلّ ويحرّم ما حرّم، وذلك العدل الذي أمر به.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{خُذُواْ زِينَتَكُمْ} أي ريشكم ولباس زينتكم. وقيل: الزينة: الطيب. والسنّة أن يأخذ الرجل أحسن هيئته للصلاة.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
هذا خطاب عام لجميع العالم وأمروا بهذه الأشياء بسبب عصيان حاضري ذلك الوقت من مشركي العرب فيها، والزينة ها هنا الثياب الساترة قاله مجاهد والسدي، وقال طاوس: الشملة من الزينة. قال القاضي أبو محمد: ويدخل فيها ما كان من الطيب للجمعة والسواك وبدل الثياب وكل ما وجد استحسانه في الشريعة ولم يقصد به مستعملة الخيلاء،
و {عند كل مسجد} عند كل موضع سجود فهي إشارة إلى الصلوات وستر العورة فيها، هذا هو مهم الأمر، ويدخل مع الصلاة مواطن الخير كلها، ومع ستر العورة ما ذكرناه من الطيب للجمعة وغير ذلك، وقوله تعالى: {وكلوا واشربوا} نهي عما كانوا التزموه من تحريم اللحم والودك في أيام الموسم، قال السدي وابن زيد، وتدخل مع ذلك أيضاً البحيرة والسائبة ونحو ذلك، وقد نص على ذلك قتادة وقال إن البحيرة وما جانسها هي المراد بقوله تعالى: {والطيبات من الرزق}،
وقوله تعالى: {ولا تسرفوا} معناه ولا تفرطوا، قال أهل التأويل: يريد ولا تسرفوا بأن تحرموا على أنفسكم ما لم يحرم الله عز وجل، قال ابن عباس: ليس في الحلال سرف إنما السرف في ارتكاب المعاصي. قال القاضي أبو محمد: يريد في الحلال القصد، واللفظ يقتضي النهي عن السرف مطلقاً، فمن تلبس بفعل حرام فتأول تلبسه به حصل من المسرفين وتوجه النهي عليه، ومن تلبس بفعل مباح فإن مشى فيه على القصد وأوساط الأمور فحسن، وإن أفرط حتى دخل الضرر حصل أيضاً من المسرفين وتوجه النهي عليه، مثل ذلك أن يفرط الإنسان في شراء ثياب ونحوها ويستنفد في ذلك جل ماله أو يعطي ماله أجمع ويكابد بعياله الفقر بعد ذلك ونحوه، فالله عز وجل لا يحب شيئاً من هذا، وقد نهت الشريعة عنه.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{يا بني آدم} أي الذي زيناه فغره الشيطان ثم وقيناه شره بما أنعمنا عليه به من حسن التوبة وعظيم الرغبة {خذوا زينتكم} أي التي تقدم التعبير عنها بالريش لستر العورة والتجمل عند الاجتماع للعبادة {عند كل مسجد} وأكد ذلك كونُهم كانوا قد شرعوا أن غير الحمس يطوفون عراة. ولما أمر بكسوة الظاهر بالثياب لأن صحة الصلاة متوقفة عليها، أمر بكسوة الباطن بالطعام والشراب لتوقف القدرة عادة عليها فقال: {وكلوا واشربوا} وحسَّن ذلك أن بعضهم كان يتدين في الحج بالتضييق في ذلك...
ولما أمر بالملبس والمطعم، نهى عن الاعتداء فيهما فقال: {ولا تسرفوا} بوضع شيء من ذلك فيما لا يكون أحق مواضعه ولو بالزيادة على المعاء،... ثم علل ذلك بقوله: {إنه لا يحب المسرفين*} أي لا يكرمهم، ولا شك أن من لا يحبه لا يحصل له شيء من الخير فيحيط به كل شر...
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :
{كُلُواْ واشربوا وَلاَ تُسْرِفُواْ} أمر الله سبحانه عباده بالأكل والشرب، ونهاهم عن الإسراف، فلا زهد في ترك مطعم ولا مشرب، وتاركه بالمرّة قاتل لنفسه، وهو من أهل النار، كما صح في الأحاديث الصحيحة، والمقلل منه على وجه يضعف به بدنه ويعجز عن القيام بما يجب عليه القيام به من طاعة أو سعي على نفسه، وعلى من يعول مخالفاً لما أمر الله به وأرشد إليه، والمسرف في إنفاقه على وجه لا يفعله إلا أهل السفه، والتبذير مخالف لما شرعه الله لعباده واقع في النهي القرآني؛ وهكذا من حرّم حلالاً أو حلل حراماً، فإنه يدخل في المسرفين ويخرج عن المقتصدين. ومن الإسراف الأكل لا لحاجة، وفي وقت شبع...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِد} يقال في هذا النداء ما قلنا في مثله قبله، ونزيد أنه يشمل النساء بالتبع للرجال شرعا لا لغة،
هذا الأمر بالزينة عند كل مسجد لا المسجد الحرام وحده أصل من أصول الإصلاح الدينية والمدنية يعرف بعض قيمته مما روي في سبب نزول هذه الآيات، وإنما يعرفها حق المعرفة من قرأ تواريخ الأمم والملل وعلم أن أكثر المتوحشين الذين يعيشون في الحرجات والغابات أفرادا وجماعات يأوون إلى الكهوف والمغارات، والقبائل الكثيرة الوثنية، في بعض جزائر البحار وجبال إفريقية، كلهم يعيشون عراة الأجسام نساء ورجالا، وإن الإسلام ما وصل إلى قوم منهم إلا وعلمهم لبس الثياب بإيجابه للستر وللزينة إيجابا شرعيا،... أقول: إن بعض الأمم الوثنية ذات الحضارة والعلوم والفنون كان يغلب فيها معيشة العري حتى إذا ما اهتدى بعضهم بالإسلام صاروا يلبسون ويتجملون. ثم صاروا يصنعون الثياب، وقلدهم جيرانهم من الوثنيين بعض التقليد. هذه بلاد الهند على ارتقاء حضارة الوثنيين فيها قديما وحديثا لا يزال ألوف الألوف من نسائهم ورجالهم عراة أو أنصاف أو أرباع عراة فترى بعض رجالهم في معاهد تجارتهم وصناعتهم بين عار لا يستر السوءتين ويسمونهما "سبيلين "وهي الكلمة العربية التي يستعملها الفقهاء في باب نواقض الوضوء أو ساتر لنصفه الأسفل فقط، وامرأة مكشوفة البطن والفخذين أو النصف الأعلى من الجسم كله أو بعضه، وقد اعترف بعض علمائهم المنصفين بأن المسلمين هم الذين علموهم لبس الثياب والأكل في الأواني. ولا يزال أكثر فقرائهم يضعون طعامهم على ورق الشجر ويأكلون منه، ولكنهم خير من كثير من سائر الوثنين سترا وزينة، لأن المسلمين كانوا حكامهم، وقد كانوا ولا يزالون من أرقى مسلمي الأرض علما وعملا وتأثيرا في وثنيي بلادهم. وأما المسلمون في بلاد الشرق التي يغلب عليها الجهل فهم أقرب إلى الوثنية منهم إلى الإسلام في اللباس وكثير من الأعمال الدينية، ومنهم نساء مسلمي (سيام) اللاتي لا يرين في أنفسهم عورة سوى السوءتين كما تقدم آنفا فحيث يقوى الإسلام يكون الستر والزينة اللائقة بكرامة البشر ورقيهم. فمن عرف مثل هذا عرف قيمة هذا الأصل الإصلاحي في الإسلام، ولولا أن جعل هذا الدين المدني الأعلى أخذ الزينة من شرع الله أوجبه على عباده لما نقل أمما وشعوبا كثيرة من الوحشية الفاحشة، إلى الحضارة الراقية، وإنما يجهل هذا الفضل له من يجهل التاريخ وإن كان من أهله، بل لا يبعد أن يوجد في متحذلقة المتفرنجين منهم من يجلس في ملهى أو مقهى أو حانة متكئا مميلا طربوشه على رأسه يقول: ما معنى جعل أخذ زينة الناس من أمور الدين وهو من لوازم البشر لا يحتاجون فيه إلى وحي إلهي ولا شرع ديني؟ ويدل على بعثة النبي صلى الله عليه وسلم إلى جميع البشر.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إنه التوكيد بعد التوكيد على الحقائق الأساسية للعقيدة، في مواجهة ما عليه المشركون العرب في الجاهلية؛ وذلك في سياق النداء إلى بني آدم كافة، وفي مواجهة قصة البشرية الكبرى.. وأظهر هذه الحقائق هو الربط بين ما يحرمونه من الطيبات التي أخرجها الله لعباده دون إذن منه ولا شرع؛ وبين الشرك الذي هو الوصف المباشر لمن يزاول هذا التحريم، ويقول على الله ما لا يعلم، ويزعم من ذلك ما يزعم. إنه يناديهم أن يأخذوا زينتهم من اللباس الذي أنزله الله عليهم. وهو الرياش. عند كل عبادة؛ ومنها الطواف الذي يزاولونه عرايا، ويحرمون اللباس الذي لم يحرمه الله، بل أنعم به على العباد. فأولى أن يعبدوه بطاعته فيما أنزل لهم، لا بخلعه ولا بالفحش الذي يزاولونه...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
إعادة النّداء في صدر هذه الجملة للاهتمام، وتعريف المنادَى بطريق الإضافة بوصف كونهم بني آدم متابعة للخطاب المتقدّم في قوله: {يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً} [الأعراف: 26].
وهذه الجملة تتنزّل، من التي بَعدها، وهي قوله: {قل من حرم زينة الله} [الأعراف: 32] منزلة النّتيجة من الجدل، فقدمت على الجدل فصارت غرضاً بمنزلة دعوى وجعل الجدل حجّة على الدّعوى، وذلك طريق من طرق الإنشاء في ترتيب المعاني ونتائجها.
فالمقصد من قوله: {خذوا زينتكم} إبطال ما زعمه المشركون من لزوم التّعرّي في الحجّ في أحوال خاصّة، وعند مساجد معيّنة ...
فالأمر في قوله: {خذوا زينتكم} للوجوب، وفي قوله: {وكلوا واشربوا} للإباحة لبني آدم الماضين والحاضرين.
والمقصود من توجيه الأمر أو من حكايته إبطالُ التّحريم الذي جعله أهل الجاهليّة بأنهم نقضوا به ما تقرّر في أصل الفطرة ممّا أمر الله به بني آدم كلّهم، وامتن به عليهم، إذ خلق لهم ما في الأرض جميعاً. وهو شبيه بالأمر الوارد بعد الحَظر. فإنّ أصله إبطال التّحريم وهو الإباحة كقوله تعالى: {وإذا حللتم فاصطادوا} [المائدة: 2] بعد قوله: {غير محلي الصيد وأنتم حرم} [المائدة: 1] وقد يعرض لما أبطل به التّحريم أن يكون واجباً. فقد ظهر من السّياق والسّباق في هذه الآيات أن كشف العورة من الفواحش، فلا جرم يكون اللّباس في الحجّ منه واجبٌ، وهو ما يستْر العورة، وما زاد على ذلك مباح مأذون فيه إبطالاً لتحريمه، وأمّا الأمر بالأكل والشّرب فهو للإباحة إبطالاً للتّحريم، وليس يجب على أحد أكل اللّحم والدّسم.
وقوله: {عند كل مسجد} تعميم أي لا تخصّوا بعض المساجد بالتّعري مثل المسجد الحرام ومسجد مِنَى، وقد تقدّم نظيره في قوله: {وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد} [الأعراف: 29]. وقد ظهرت مناسبة عطف الأمر بالأكل والشّرب على الأمر بأخذ الزّينة ممّا مضى آنفاً.
والإسراف تقدّم عند قوله تعالى: {ولا تأكلوها إسرافاً} في سورة النّساء (6)، وهو تجاوز الحدّ المتعارف في الشّيء أي: ولا تسرفوا في الأكل بكثرة أكل اللّحوم والدّسم لأنّ ذلك يعود بأضرار على البدن وتنشأ منه أمراض معضلة.
وقد قيل إنّ هذه الآية جمعت أصول حفظ الصّحة من جانب الغذاء فالنّهي عن السرف نهيُ إرشاد لا نهي تحريم بقرينة الإباحة اللاّحقة في قوله: {قل من حرم زينة الله} إلى قوله {والطيبات من الرزق} [الأعراف: 32]، ولأنّ مقدار الإسراف لا ينضبط فلا يتعلّق به التّكليف، ولكن يوكل إلى تدبير النّاس مصالحهم، وهذا راجع إلى معنى القسط الواقع في قوله سابقاً: {قل أمر ربي بالقسط} [الأعراف: 29] فإن ترك السّرف من معنى العدل.
وقوله: {إنه لا يحب المسرفين} تذييل، وتقدّم القول في نظيره في سورة الأنعام.