في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَٱلَّتِيٓ أَحۡصَنَتۡ فَرۡجَهَا فَنَفَخۡنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلۡنَٰهَا وَٱبۡنَهَآ ءَايَةٗ لِّلۡعَٰلَمِينَ} (91)

48

أخيرا يذكر مريم بمناسبة ذكر ابنها عليه السلام :

( والتي أحصنت فرجها ، فنفخنا فيها من روحنا ، وجعلناها وابنها آية للعالمين ) . .

ولا يذكر هنا اسم مريم ، لأن المقصود في سلسلة الأنبياء هو ابنها - عليه السلام - وقد جاءت هي تبعا له في السياق . إنما يذكر صفتها المتعلقة بولدها : ( والتي أحصنت فرجها ) . أحصنته فصانته من كل مباشرة . والإحصان يطلق عادة على الزواج بالتبعية ، لأن الزواج يحصن من الوقوع في الفاحشة . أما هنا فيذكر في معناه الأصيل ، وهو الحفظ والصون أصلا من كل مباشرة شرعية أو غير شرعية . وذلك تنزيها لمريم عن كل ما رماها به اليهود مع يوسف النجار الذي كان معها في خدمة الهيكل . والذي تقول عنه الأناجيل المتداولة ، إنه كان قد تزوجها ولكنه لم يدخل بها ولم يقربها .

لقد أحصنت فرجها ( فنفخنا فيها من روحنا )والنفخ هنا شائع لا يحدد موضعه كما في سورة التحريم - وقد سبق الحديث عن هذا الأمر في تفسير سورة مريم - ومحافظة على أن نعيش في ظلال النص الذي بين أيدينا فإننا لا نفصل ولا نطول ، فنمضي مع النص إلى غايته :

( وجعلناها وابنها آية للعالمين ) . .

وهي آية غير مسبوقة ولا ملحوقة . آية فذة واحدة في تاريخ البشرية جميعا . ذلك أن المثل الواحد من هذا النوع يكفي لتتأمله البشرية في أجيالها جميعا ؛ وتدرك يد القدرة الطليقة التي تخلق النواميس ، ولكنها لا تحتبس داخل النواميس .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَٱلَّتِيٓ أَحۡصَنَتۡ فَرۡجَهَا فَنَفَخۡنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلۡنَٰهَا وَٱبۡنَهَآ ءَايَةٗ لِّلۡعَٰلَمِينَ} (91)

هكذا قَرَن تعالى{[19848]} قصة مريم وابنها عيسى ، عليه السلام ، بقصة زكريا وابنه يحيى ، عليهما السلام ، فيذكر أولا قصة زكريا ، ثم يتبعها بقصة مريم ؛ لأن تلك مُوَطّئة لهذه ، فإنها إيجاد ولد من شيخ كبير قد طَعَن في السن ، ومن امرأة عجوز عاقر لم تكن تلد في حال شبابها ، ثم يذكر قصة مريم وهي أعجب ، فإنها إيجاد ولد من أنثى بلا ذكر . هكذا وقع في سورة " آل عمران " ، وفي سورة " مريم " ، وهاهنا ذكر قصة زكريا ، ثم أتبعها بقصة مريم ، فقوله : { وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا } يعني : مريم ، عليها السلام ، كما قال في سورة التحريم : { وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا } [ التحريم : 12 ] .

وقوله : { وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ } أي : دلالة على أن الله على كل شيء قدير ، وأنه يخلق ما يشاء ، و { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ يس : 82 ] . وهذا كقوله : { وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ } [ مريم : 21 ] .

قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عَمْرو بن علي ، حدثنا أبو عاصم الضحاك بن مُخَلَّد عن شَبِيب{[19849]} - يعني ابن بشر{[19850]} - عن عكرمة ، عن ابن عباس ، في قوله : { لِلْعَالَمِينَ } قال : العالمين : الجن والإنس .


[19848]:- في ت : "يقرن الله تعالى" وفي ف ، أ : "يقرن تعالى".
[19849]:- في ف : "عن مجلز".
[19850]:- في ف : "بشير".
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَٱلَّتِيٓ أَحۡصَنَتۡ فَرۡجَهَا فَنَفَخۡنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلۡنَٰهَا وَٱبۡنَهَآ ءَايَةٗ لِّلۡعَٰلَمِينَ} (91)

المعنى واذكر { التي أحصنت } وهي مريم بنت عمران أم عيسى ، و «الفرج » فيما قال الجمهور وهو ظاهر القرآن الجارحة المعروفة وفي إحصانها هو المدح ، وقالت فرقة الفرج هنا هو فرج ثوبها الذي منه نفخ الملك وهو ضعيف ، وأما نفخ الولد فيها فقال كثير من العلماء إنما نفخ في جيب درعها وأخاف الروح إضافة الملك إلى المالك ، { وابنها } هو عيسى ابن مريم عليه السلام ، وأراد تعالى أَنه جعل مجموع قصة عيسى وقصة مريم من أولها إلى آخرها { آية } لمن اعتبر ذلك ، و { للعالمين } يريد لمن عاصره فيما بعد ذلك .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَٱلَّتِيٓ أَحۡصَنَتۡ فَرۡجَهَا فَنَفَخۡنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلۡنَٰهَا وَٱبۡنَهَآ ءَايَةٗ لِّلۡعَٰلَمِينَ} (91)

لما انتهى التنويه بفضل رجال من الأنبياء أعقب بالثناء على امرأة نبيئة إشارة إلى أن أسباب الفضل غير محجورة ، كما قال الله تعالى : { إن المسلمين والمسلمات } [ الأحزاب : 35 ] الآية . هذه هي مريم ابنة عمران . وعبر عنها بالموصول دلالة على أنها قد اشتهرت بمضمون الصلة كما هو شأن طريق الموصولية غالباً ، وأيضاً لما في الصلة من معنى تسفيه اليهود الذين تقوّلوا عنها إفكاً وزُوراً ، وليبنى على تلك الصلة ما تفرع عليها من قوله تعالى : { فنفخنا فيها من روحنا } الذي هو في حكم الصلة أيضاً ، فكأنه قيل : والتي نفخنا فيها من روحنا ، لأن كلا الأمرين مُوجب ثناء . وقد أراد الله إكرامها بأن تكون مظهر عظيممِ قدرته في مخالفة السنة البشرية لحصول حَمل أنثى دون قربان ذكر ، ليرى الناس مثالاً من التكوين الأوّل كما أشار إليه قوله تعالى : { إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له { كن فيكون } [ آل عمران : 59 ] .

والنفخ ، حقيقته : إخراج هواء الفم بتضييق الشفتين . وأطلق هنا تمثيلاً لإلقاء روح التكوين للنسل في رحم المرأة دفعة واحدة بدون الوسائل المعتادة تشبيهاً لِهيئة التكوين السريع بهيئة النفخ . وقد قيل : إن الملَك نفخَ مما هو لَه كالفم .

والظرفية المفادة ب ( في ) كونُ مريم ظرفاً لحلول الروح المنفوخ فيها إذ كانت وعاءه ، ولذلك قيل { فيها } ولم يقل ( فيه ) للإشارة إلى أن الحمل الذي كُوّن في رحمها حمل من غير الطريق المعتاد ، كأنه قيل : فنفخنا في بطنها . وذلك أعرق في مخالفة العادة لأن خرق العادة تقوى دلالته بمقدار ما يضمحل فيه من الوسائل المعتادة .

والروح : هو القوة التي بها الحياة ، قال تعالى : { فإذا سويته ونفخت فيه من روحي } [ الحجر : 29 ] ، أي جعلت في آدم روحاً فصار حَياً . وحَرف ( مِن ) تبعيضي ، والمنفوخ رُوح لأنه جعل بعض روح الله ، أي بعض جنس الروح الذي به يجعل الله الأجسام ذات حياة .

وإضافة الروح إلى الله إضافة تشريف لأنه روح مبعوث من لدن الله تعالى بدون وساطة التطورات الحيوانية للتكوين النسلي .

وجعلها وابنها آية هو من أسباب تشريفهما والتنويه بهما إذ جعلهما الله وسيلة لليقين بقدرته ومعجزات أنبيائه كما قال في [ سورة المؤمنين : 50 ] { وجعلنا ابن مريم وأمه آية } وبهذا الاعتبار حصل تشريف بعض المخلوقات فأقسم الله بها نحو : { والليل إذا يغشى } [ الليل : 1 ] ، { والشمس وضحاها والقمر إذا تلاها } [ الشمس : 12 ] .

وإفراد الآية لأنه أريد بها الجنس . وحيث كان المذكور ذاتين فأخبر عنهما بأنهما آية عُلِم أن كل واحد آيةٌ خاصة . ومن لطائف هذا الإفراد أن بين مريم وابنها حالة مشتركة هي آية واحدة ، ثم في كل منهما آية أخرى مستقلة باختلاف حال الناظر المتأمل .