والآن نأتي إلى قصة سليمان مع الهدهد وملكة سبأ وهي مقطعة إلى ستة مشاهد ، بينها فجوات فنية ، تدرك من المشاهد المعروضة ، وتكمل جمال العرض الفني في القصة ، وتتخللها تعقيبات على بعض المشاهد تحمل التوجيه الوجداني المقصود بعرضها في السورة ؛ وتحقق العبرة التي من أجلها يساق القصص في القرآن الكريم . وتتناسق التعقيبات مع المشاهد والفجوات تنسيقا بديعا ، من الناحيتين : الفنية الجمالية ، والدينية الوجدانية .
ولما كان افتتاح الحديث عن سليمان قد تضمن الإشارة إلى الجن والإنس والطير ، كما تضمن الإشارة إلى نعمة العلم ، فإن القصة تحتوي دورا لكل من الجن والإنس والطير . ويبرز فيها دور العلم كذلك . وكأنما كانت تلك المقدمة إشارة إلى أصحاب الأدوار الرئيسية في القصة . . وهذه سمة فنية دقيقة في القصص القرآني .
كذلك تتضح السمات الشخصية والمعالم المميزة لشخصيات القصة : شخصية سليمان ، وشخصية الملكة ، وشخصية الهدهد ، وشخصية حاشية الملكة . كما تعرض الانفعالات النفسية لهذه الشخصيات في شتى مشاهد القصة ومواقفها .
يبدأ المشهد الأول في مشهد العرض العسكري العام لسليمان وجنوده ، بعدما أتوا على وادي النمل ، وبعد مقالة النملة ، وتوجه سليمان إلى ربه بالشكر والدعاء والإنابة :
وتفقد الطير فقال : مالي لا أرى الهدهد ? أم كان من الغائبين ? لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه ، أو ليأتيني بسلطان مبين . .
فها هو ذا الملك النبي . سليمان . في موكبه الفخم الضخم . ها هو ذا يتفقد الطير فلا يجد الهدهد . ونفهم من هذا أنه هدهد خاص ، معين في نوبته في هذا العرض . وليس هدهدا ما من تلك الألوف أو الملايين التي تحويها الأرض من أمة الهداهد . كما ندرك من افتقاد سليمان لهذا الهدهد سمة من سمات شخصيته : سمة اليقظة والدقة والحزم . فهو لم يغفل عن غيبة جندي من هذا الحشر الضخم من الجن والإنس والطير ، الذي يجمع آخره على أوله كي لا يتفرق وينتكث .
وهو يسأل عنه في صيغة مترفعة مرنة جامعة : ( ما لي لا أرى الهدهد ? أم كان من الغائبين ? ) .
قال مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وغيرهما ، عن ابن عباس وغيره : كان الهدهد مهندسا ، يدل سليمان ، عليه السلام ، على الماء ، إذا كان بأرض فلاة طلبه فنظر له الماء في تخوم الأرض ، كما يرى الإنسان الشيء الظاهر على وجه الأرض ، ويعرف كم مساحة بعده من وجه الأرض ، فإذا دلهم عليه أمر سليمان ، عليه السلام ، الجان فحفروا له ذلك المكان ، حتى يستنبط{[22006]} الماء من قراره ، فنزل سليمان ، عليه السلام [ يوما ]{[22007]} ، بفلاة من الأرض ، فتفقد الطير ليرى الهدهد ، فلم يره ، { فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ } .
حدَّث يوما عبد الله بن عباس بنحو هذا ، وفي القوم رجل من الخوارج ، يقال له : " نافع بن الأزرق " ، وكان كثير الاعتراض على ابن عباس ، فقال له : قف يا بن عباس ، غُلبت اليوم ! قال : وَلِمَ ؟ قال : إنك تخبر عن الهدهد أنه يرى الماء في تخوم الأرض ، وإن الصبي ليضع له الحبة في الفخ ، ويحثو على الفخ ترابًا ، فيجيء الهدهد ليأخذها فيقع في الفخ ، فيصيده الصبي . فقال ابن عباس : لولا أن يذهب هذا فيقول : رددت على ابن عباس ، لما أجبته . فقال{[22008]} له : ويحك ! إنه إذا نزل القَدَر عَمي البصر ، وذهب الحَذَر . فقال له نافع : والله لا أجادلك في شيء من القرآن أبدًا{[22009]} .
وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة أبي عبد الله البَرْزيّ - من أهل " بَرْزَةَ " من غوطة دمشق ، وكان من الصالحين يصوم [ يوم ]{[22010]} الاثنين والخميس ، وكان أعور قد بلغ الثمانين - فروى ابن عساكر بسنده إلى أبي سليمان بن زيد : أنه سأله عن سبب عَوَره ، فامتنع عليه ، فألح عليه شهورًا ، فأخبره أن رجلين من أهل خراسان نزلا عنده جمعة في قرية برزة ، وسألاه عن وادٍ بها ، فأريتهما إياه ، فأخرجا مجامر وأوقدا فيها بخورًا كثيرًا ، حتى عجعج الوادي بالدخان ، فأخذا يَعْزمان والحيات تقبل من كل مكان إليهما ، فلا يلتفتان إلى شيء منها ، حتى أقبلت حية نحو الذراع ، وعيناها توقدان مثل الدينار . فاستبشرا بها عظيما ، وقالا الحمد لله الذي لم يُخَيب سفرنا من سنة ، وكسرا المجامر ، وأخذا الحية فأدخلا في عينها ميلا فاكتحلا به ، فسألتهما أن يكحلاني ، فأبيا ، فألححت عليهما وقلت : لا بد من ذلك ، وتوعدتهما بالدولة ، فكحلا عيني الواحدة اليمنى ، فحين وقع في عيني نظرت إلى الأرض تحتي مثل المرآة ، أنظر ما تحتها كما تُري المرآة ، ثم قالا لي : سر معنا قليلا فسرت معهما وهما يحدثان ، حتى إذا بعدت عن القرية ، أخذاني فكتفاني ، وأدخل أحدهما يده في عيني ففقأها ، ورمى بها ومضيا . فلم أزل كذلك ملقى مكتوفًا ، حتى مر بي نفر ففَكَّ وَثَاقي . فهذا ما كان من خبر عيني{[22011]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا صدقة بن عمرو الغساني ، حدثنا عَبّاد بن مَيْسَرة المِنْقَرِيّ ، عن الحسن قال : اسم هدهد سليمان عليه السلام : عنبر .
وقال محمد بن إسحاق : كان سليمان ، عليه السلام ، إذا غدا إلى مجلسه الذي كان يجلس فيه : تفقد الطير ، وكان فيما يزعمون يأتيه نُوَبٌ من كل صنف من الطير ، كل يوم طائر ، فنظر فرأى من أصناف الطير كلّها من حَضَره إلا الهدهد ، { فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ } أخطأه بصري من الطير ، أم غاب فلم يحضر ؟ .
اختلف الناس في معنى «تفقده الطير » ، فقالت فرقة ذلك بحسب ما تقتضيه العناية بأمور الملك والتهمم بكل جزء منها .
قال القاضي أبو محمد : وظاهر الآية أنه تفقد جميع الطير ، وقالت فرقة : بل «تفقد الطير » لأن الشمس دخلت من موضع { الهدهد } حين غاب ، فكان ذلك سبب تفقد الطير ليبين من أين دخلت الشمس ، وقال عبد الله بن سلام إنما طلب { الهدهد } لأنه احتاج إلى معرفة الماء على كَم هو من وجه الأرض ، لأنه كان نزل في مفازة عدم فيها الماء ، وأن { الهدهد } كان يرى باطن الأرض وظاهرها كانت تشف له وكان يخبر سليمان بموضع الماء ، ثم كانت الجن تخرجه في ساعة يسيرة تسلخ عنه وجه الأرض كما تسلخ شاة قاله ابن عباس فيما روي عن أبي سلام وغيره ، وقال في كتاب النقاش كان { الهدهد } مهندساً ، وروي أن نافع بن الأزرق سمع ابن عباس يقول هذا فقال له : قف يا وقاف كيف يرى { الهدهد } باطن الأرض وهو لا يرى الفخ حين يقع فيه . فقال له ابن عباس رضي الله عنه : إذا جاء القدر عمي البصر . وقال وهب بن منبه : كانت الطير تنتاب{[9005]} سليمان كل يوم من كل نوع واحد نوبة معهودة ففقد { الهدهد } ، وقوله { ما لي لا أرى } إنما مقصد الكلام { الهدهد } غاب لكنه أخذ اللام عن مغيبه وهو أن لا يراه فاستفهم على جهة التوقيف عن اللازم ، وهذا ضرب من الإيجاز ، والاستفهام الذي في قوله { ما لي } ، ناب مناب الألف التي تحتاجها أم{[9006]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.