لقد نقضوا ميثاقهم مع الله . . قتلوا أنبياءهم بغير حق ، وبيتوا القتل والصلب لعيسى عليه السلام - وهو آخر أنبيائهم - وحرفوا كتابهم - التوراة - ونسوا شرائعها فلم ينفذوها ، ووقفوا من خاتم الأنبياء - عليه الصلاة والسلام - موقفا لئيما ماكرا عنيدا ، وخانوا مواثيقهم معه . فباءوا بالطرد من هدى الله ، وقست قلوبهم فلم تعد صالحة لاستقبال هذا الهدى . .
( فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية ، يحرفون الكلم عن مواضعه ، ونسوا حظا مما ذكروا به . . . )
وصدق الله . فهذه سمات يهود التي لا تفارقهم . . لعنة تبدو على سيماهم ، إذ تنضح بها جبلتهم الملعونة المطرودة من الهداية . وقسوة تبدو في ملامحهم الناضبة من بشاشة الرحمة ، وفي تصرفاتهم الخالية من المشاعر الإنسانية ، ومهما حاولوا - مكرا - إبداء اللين في القول عند الخوف وعند المصلحة ، والنعومة في الملمس عند الكيد والوقيعة ، فإن جفاف الملامح والسمات ينضح ويشي بجفاف القلوب والأفئدة . . وطابعهم الأصيل هو تحريف الكلم عن مواضعه . تحريف كتابهم أولا عن صورته التي أنزلها الله على موسى - عليه السلام - إما بإضافة الكثير إليه مما يتضمن أهدافهم الملتوية ويبررها بنصوص من الكتاب مزورة على الله ! وإما بتفسير النصوص الأصلية الباقية وفق الهوى والمصلحة والهدف الخبيث ! ونسيان وإهمال لأوامر دينهم وشريعتهم ، وعدم تنفيذها في حياتهم ومجتمعهم ، لأن تنفيذها يكلفهم الاستقامة على منهج الله الطاهر النظيف القويم .
( ولا تزال تطلع على خائنة منهم ، إلا قليلا منهم . . . ) . .
وهو خطاب للرسول [ ص ] يصور حال يهود في المجتمع المسلم في المدينة . فهم لا يكفون عن محاولة خيانة رسول الله [ ص ] وقد كانت لهم مواقف خيانة متواترة . بل كانت هذه هي حالهم طوال إقامتهم معه في المدينة - ثم في الجزيرة كلها - وما تزال هذه حالهم في المجتمع الإسلامي على مدار التاريخ . على الرغم من أن المجتمع الإسلامي هو المجتمع الوحيد الذي آواهم ، ورفع عنهم الاضطهاد ، وعاملهم بالحسنى ، ومكن لهم من الحياة الرغيدة فيه . ولكنهم كانوا دائما - كما كانوا على عهد الرسول - عقارب وحيات وثعالب وذئابا تضمر المكر والخيانة ، ولا تني تمكر وتغدر . إن أعوزتهم القدرة على التنكيل الظاهر بالمسلمين نصبوا لهم الشباك وأقاموا لهم المصائد ، وتآمروا مع كل عدو لهم ، حتى تحين الفرصة ، فينقضوا عليهم ، قساة جفاة لا يرحمونهم ، ولا يرعون فيهم إلا ولا ذمة . أكثرهم كذلك . . كما وصفهم الله سبحانه في كتابه ، وكما أنبأنا عن جبلتهم التي أورثها إياهم نقضهم لميثاق الله من قديم .
والتعبير القرآني الخاص عن واقع حال اليهود مع رسول الله [ ص ] في المدينة ، تعبير طريف :
( ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم ) . .
الفعلة الخائنة ، والنية الخائنة ، والكلمة الخائنة ، والنظرة الخائنة . . يجملها النص بحذف الموصوف وإثبات الصفة . . ( خائنة ) . . لتبقى الخيانة وحدها مجردة ، تملأ الجو ، وتلقي ظلالها وحدها على القوم . . فهذا هو جوهر جبلتهم ، وهذا هو جوهر موقفهم ، مع الرسول [ ص ] ومع الجماعة المسلمة . .
إن هذا القرآن هو معلم هذه الأمة ومرشدها ورائدها وحادي طريقها على طول الطريق . وهو يكشف لها عن حال أعدائها معها ، وعن جبلتهم وعن تاريخهم مع هدى الله كله . ولو ظلت هذه الأمة تستشير قرآنها ؛ وتسمع توجيهاته ؛ وتقيم قواعده وتشريعاته في حياتها ، ما استطاع أعداؤها أن ينالوا منها في يوم من الأيام . . ولكنها حين نقضت ميثاقها مع ربها ؛ وحين اتخذت القرآن مهجورا - وإن كانت ما تزال تتخذ منه ترانيم مطربة ، وتعاويذ ورقى وأدعية ! - أصابها ما أصابها .
ولقد كان الله - سبحانه - يقص عليها ما وقع لبني إسرائيل من اللعن والطرد وقسوة القلب وتحريف الكلم عن مواضعه ، حين نقضوا ميثاقهم مع الله ، لتحذر أن تنقض هي ميثاقها مع الله ، فيصيبها ما يصيب كل ناكث للعهد ، ناقض للعقد . . فلما غفلت عن هذا التحذير ، وسارت في طريق غير الطريق ، نزع الله منها قيادة البشرية ؛ وتركها هكذا ذيلا في القافلة ! حتى تثوب إلى ربها ؛ وحتى تستمسك بعهدها ، وحتى توفيبعقدها . فيفي لها الله بوعده من التمكين في الأرض ومن القيادة للبشر والشهادة على الناس . . وإلا بقيت هكذا ذيلا للقافلة . . وعد الله لا يخلف الله وعده . .
ولقد كان توجيه الله لنبيه في ذلك الحين الذي نزلت فيه هذه الآية :
( فاعف عنهم واصفح ، إن الله يحب المحسنين ) . .
والعفو عن قبائحهم إحسان ، والصفح عن خيانتهم إحسان . .
ولكن جاء الوقت الذي لم يعد فيه للعفو والصفح مكان . فأمر الله نبيه [ ص ] أن يجليهم عن المدينة . ثم أن يأمر بإجلائهم عن الجزيرة كلها . وقد كان . .
ثم أخبر تعالى عما أحل بهم من العقوبة عند مخالفتهم ميثاقه ونقضهم عهده ، فقال : { فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ } أي : فبسبب نقضهم الميثاقَ الذي أخذ عليهم لعناهم ، أي أبعدناهم عن الحق وطردناهم عن الهدى ، { وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً } أي : فلا يتعظون{[9431]} بموعظة لغلظها وقساوتها ، { يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ } أي : فسدت{[9432]} فُهومهم ، وساء تصرفهم في آيات الله ، وتأولوا كتابه على غير ما أنزله ، وحملوه على غير مراده ، وقالوا عليه ما لم يقل ، عياذًا بالله من ذلك ، { وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ } أي : وتركوا العمل به رغبة عنه .
قال الحسن : تركوا عُرَى دينهم ووظائف الله التي لا يقبل العمل إلا بها . وقال غيره : تركوا العمل فصاروا إلى حالة رديئة ، فلا قلوب سليمة ، ولا فطر مستقيمة ، ولا أعمال قويمة .
{ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ } يعني : مكرهم وغَدْرهم لك ولأصحابك .
وقال مجاهد وغيره : يعني بذلك تمالؤهم على الفتك بالنبي ، صلى الله عليه وسلم .
{ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ } وهذا هو عين النصر والظفر ، كما قال بعض السلف : ما عاملت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه . وبهذا يحصل لهم تأليف وجمع على الحق ، ولعل الله أن يهديهم ؛ ولهذا قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } يعني به : الصفح عمن أساء إليك .
وقال قتادة : هذه الآية { فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ } منسوخة بقوله : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِر [ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ] }{[9433]} [ التوبة : 29 ]
يحتمل أن تكون «ما » زائدة والتقدير «فبنقضهم »{[4489]} ويحتمل أن تكون اسماً نكرة أبدل منه النقض على بدل المعرفة من النكرة ، التقدير : فبفعل هو نقضهم للميثاق ، وهذا هو المعنى في هذا التأويل ، وقد تقدم في النساء نظير هذا ، و { لعناهم } معناه بعدناهم من الخير أجمعه ، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر «قاسية » بالألف وقرأ حمزة والكسائي «قسية » دون ألف ، وزنها فعيلة فحجة الأولى قوله تعالى : { فويل للقاسية قلوبهم }{[4490]} وقوله : { ثم قست قلوبكم من بعد ذلك }{[4491]} والقسوة غلظ القلب ونبوه عن الرقة والموعظة وصلابته حتى لا ينفعل لخير ، ومن قرأ قسيه فهو من هذا المعنى فعيلة بمعنى فاعلة كشاهد وشهيد وغير ذلك من الأمثلة ، وحكى الطبري عن قوم أنهم قالوا «قسية » ليست من معنى القسوة وإنما هي كالقسي من الدراهم ، وهي التي خالطها غش وتدليس ، فكذا القلوب لم تصف للإيمان بل خالطها الكفر والفساد ومن ذلك قول أبي زبيد :
لها صواهل في صم السلام كما *** صاح القسيات في أيدي الصياريف{[4492]}
فما زوداني غير سحق عمامة *** وخمس مئىًء منها قسي وزائف{[4493]}
قال أبو علي : هذه اللفظة معربة وليست بأصل في كلام العرب ، واختلف العلماء في معنى قوله : { يحرفون الكلم } فقال قوم منهم ابن عباس ، تحريفهم هو بالتأويل ولا قدرة لهم على تبديل الألفاظ في التوراة ولا يتمكن لهم ذلك ويدل على ذلك بقاء آية الرجم واحتياجهم إلى أن يضع القارىء يده عليها ، وقالت فرقة : بل حرفوا الكلام وبدلوه أيضاً وفعلوا الأمرين جميعاً بحسب ما أمكنهم .
قال القاضي أبو محمد : وألفاظ القرآن تحتمل المعنيين فقوله تعالى : { فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم }{[4494]} يقتضي التبديل . ولا شك أنهم فعلوا الأمرين . وقرأ جمهور الناس «الكَلِم » بفتح الكاف وكسر اللام وقرأ أبو عبد الرحمن وإبراهيم النخعي «الكلام » بالألف وقرأ أبو رجاء . «الكِلْم » بكسر الكاف وسكون اللام ، وقوله تعالى : { ونسوا حظاً مما ذكروا به } نص على سوء فعلهم بأنفسهم أي قد كان لهم حظ عظيم فيما ذكروا به فنسوه وتركوه ، ثم أخبر تعالى نبيه عليه السلام أنه لا يزال في مؤتنف الزمان يطلع { على خائنة منهم } وغائلة وأمور فاسدة ، واختلف الناس في معنى { خائنة } في هذا الموضع فقالت فرقة { خائنة } مصدر كالعاقبة وكقوله تعالى : { فأهلكوا بالطاغية }{[4495]} فالمعنى على خيانة ، وقال آخرون معناه على فرقة خائنة فهي اسم فاعل صفة المؤنث ، وقال آخرون المعنى على خائن فزيدت الهاء للمبالغة كعلامة ونسابة ومنه قول الشاعر :
حدثت نفسك بالوفاء ولم تكن *** للغدر خائنة ُمغَّل الاصبع{[4496]}
وقرأ الأعمش : «على خيانة منهم » ثم استثنى تبارك وتعالى منهم القليل فيحتمل أن يكون الاستثناء في الأشخاص ، ويحتمل أن يكون في الأفعال ، وقوله تعالى : { فاعف عنهم واصفح } منسوخ بما في براءة من الأمر بقتالهم حتى يؤدوا الجزية{[4497]} وباقي الآية وعد على الإحسان .