في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا جَآءَكُمُ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتُ مُهَٰجِرَٰتٖ فَٱمۡتَحِنُوهُنَّۖ ٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِإِيمَٰنِهِنَّۖ فَإِنۡ عَلِمۡتُمُوهُنَّ مُؤۡمِنَٰتٖ فَلَا تَرۡجِعُوهُنَّ إِلَى ٱلۡكُفَّارِۖ لَا هُنَّ حِلّٞ لَّهُمۡ وَلَا هُمۡ يَحِلُّونَ لَهُنَّۖ وَءَاتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَآ ءَاتَيۡتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّۚ وَلَا تُمۡسِكُواْ بِعِصَمِ ٱلۡكَوَافِرِ وَسۡـَٔلُواْ مَآ أَنفَقۡتُمۡ وَلۡيَسۡـَٔلُواْ مَآ أَنفَقُواْۚ ذَٰلِكُمۡ حُكۡمُ ٱللَّهِ يَحۡكُمُ بَيۡنَكُمۡۖ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (10)

ونكتفي بهذا القدر من الاستطراد لنعود إلى سياق السورة في حكم المؤمنات المهاجرات : ( يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن ، الله أعلم بإيمانهن ، فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار ، لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن ، وآتوهم ما أنفقوا ، ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن ؛ ولا تمسكوا بعصم الكوافر ، واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا . ذلكم حكم الله يحكم بينكم ، والله عليم حكيم . وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا ، واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون ) . .

وقد ورد في سبب نزول هذه الأحكام أنه كان بعد صلح الحديبية الذي جاء فيه : " على ألا يأتيك منا أحد وإن كان على دينك إلا رددته إلينا " . . فلما كان الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] والمسلمون معه بأسفل الحديبية جاءته نساء مؤمنات يطلبن الهجرة والانضمام إلى دار الإسلام في المدينة ؛ وجاءت قريش تطلب ردهن تنفيذا للمعاهدة . ويظهر أن النص لم يكن قاطعا في موضوع النساء ، فنزلت هاتات الآيتان تمنعان رد المهاجرات المؤمنات إلى الكفار ، يفتن في دينهن وهن ضعاف .

ونزلت أحكام هذه الحالة الدولية معها ، تنظم التعامل فيها على أعدل قاعدة تتحرى العدل في ذاته دون تأثر بسلوك الفريق الآخر ، وما فيها من شطط وجور . على طريقة الإسلام في كل معاملاته الداخلية والدولية .

وأول إجراء هو امتحان هؤلاء المهاجرات لتحري سبب الهجرة ، فلا يكون تخلصا من زواج مكروه ، ولا طلبا لمنفعة ، ولا جريا وراء حب فردي في دار الإسلام !

قال ابن عباس : كان يمتحنهن : بالله ما خرجت من بغض زوج ، وبالله ما خرجت رغبة عن أرض إلى أرض ، وبالله ما خرجت التماس دنيا ، وبالله ما خرجت إلا حبا لله ورسوله .

وقال عكرمة : يقال لها : ما جاء بك إلا حب الله ورسوله ، وما جاء بك عشق رجل منا ، ولا فرارا من زوجك .

وهذا هو الامتحان . . وهو يعتمد على ظاهر حالهن واقرارهن مع الحلف بالله . فأما خفايا الصدور فأمرها إلى الله ، ولا سبيل للبشر إليها : ( الله أعلم بإيمانهن . . )فإذا ما أقررن هكذا ( فلا ترجعوهن إلى الكفار ) . .

( لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن ) . .

فقد أنبتت الوشيجة الأولى . . وشيجة العقيدة . . فلم تعد هناك وشيجة أخرى يمكن أن تصل هذه القطيعة . والزوجية حالة امتزاج واندماج واستقرار ، لا يمكن أن تقوم إذا انقطعت هذه الوشيجة الأولى . والإيمان هو قوام حياة القلب الذي لا تقوم مقامه عاطفة أخرى ، فإذا خوى منه قلب لم يستطع قلب مؤمن أن يتجاوب معه ، ولا أن يأنس به ، ولا أن يواده ولا أن يسكن إليه ويطمئن في جواره . والزواج مودة ورحمة وأنس وسكن .

وكان الأمر في أول الهجرة متروكا بغير نص ، فلم يكن يفرق بين الزوجة المؤمنة والزوج الكافر ؛ ولا بين الزوج المؤمن والزوجة الكافرة ، لأن المجتمع الإسلامي لم يكن قد استقرت قواعده بعد . فأما بعد صلح الحديبية - أو فتح الحديبية كما يعتبره كثير من الرواة - فقد آن أن تقع المفاصلة الكاملة ؛ وأن يستقر في ضمير المؤمنين والمؤمنات ، كما يستقر في واقعهم ، أن لا رابطة إلا رابطة الإيمان ، وأن لا وشيجة إلا وشيجة العقيدة ، وأن لا ارتباط إلا بين الذين يرتبطون بالله .

ومع إجراء التفريق إجراء التعويض - على مقتضى العدل والمساواة - فيرد على الزوج الكافر قيمة ما أنفق من المهر على زوجته المؤمنة التي فارقته تعويضا للضرر . كما يرد على الزوج المؤمن قيمة ما أنفق من المهر على زوجته الكافرة التي يطلقها من عصمته .

وبعد ذلك يحل للمؤمنين نكاح المؤمنات المهاجرات متى آتوهن مهورهن . . مع خلاف فقهي : هل لهن عدة ، أم لا عدة إلا للحوامل حتى يضعن حملهن ? وإذا كانت لهن عدة فهل هي عدة المطلقات . . . ثلاثة قروء . . أم هي عدة استبراء للرحم بحيضة واحدة ?

( وآتوهم ما أنفقوا ، ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن . ولا تمسكوا بعصم الكوافر ، واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا ) .

ثم يربط هذه الأحكام كلها بالضمانة الكبرى في ضمير المؤمن . ضمانة الرقابة الإلهية وخشية الله وتقواه :

( ذلكم حكم الله يحكم بينكم ، والله عليم حكيم ) . .

وهي الضمانة الوحيدة التي يؤمن عليها من النقض والالتواء والاحتيال . فحكم الله ، هو حكم العليم الحكيم . وهو حكم المطلع على ذوات الصدور . وهو حكم القوي القدير . ويكفي أن يستشعر ضمير المسلم هذه الصلة ، ويدرك مصدر الحكم ليستقيم عليه ويرعاه . وهو يوقن أن مرده إلى الله .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا جَآءَكُمُ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتُ مُهَٰجِرَٰتٖ فَٱمۡتَحِنُوهُنَّۖ ٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِإِيمَٰنِهِنَّۖ فَإِنۡ عَلِمۡتُمُوهُنَّ مُؤۡمِنَٰتٖ فَلَا تَرۡجِعُوهُنَّ إِلَى ٱلۡكُفَّارِۖ لَا هُنَّ حِلّٞ لَّهُمۡ وَلَا هُمۡ يَحِلُّونَ لَهُنَّۖ وَءَاتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَآ ءَاتَيۡتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّۚ وَلَا تُمۡسِكُواْ بِعِصَمِ ٱلۡكَوَافِرِ وَسۡـَٔلُواْ مَآ أَنفَقۡتُمۡ وَلۡيَسۡـَٔلُواْ مَآ أَنفَقُواْۚ ذَٰلِكُمۡ حُكۡمُ ٱللَّهِ يَحۡكُمُ بَيۡنَكُمۡۖ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (10)

تقدم في سورة " الفتح " ذكر صلح الحديبية الذي وقع بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كفار قريش ، فكان فيه : " على ألا يأتيك منا رجل - وإن كان على دينك - إلا رددته إلينا " . وفي رواية : " على أنه لا يأتيك منا أحد - وإن كان على دينك - إلا رددته إلينا " . وهذا قول عروة ، والضحاك ، وعبد الرحمن بن زيد ، والزهري ، ومقاتل ، والسدي . فعلى هذه الرواية تكون هذه الآية مخصصة للسنة ، وهذا من أحسن أمثلة ذلك ، وعلى طريقة بعض السلف ناسخة ، فإن الله ، عز وجل ، أمر عباده المؤمنين إذا جاءهم النساء مهاجرات أن يمتحنوهن ، فإن عَلِموهن مؤمنات فلا يرجعوهن إلى الكفار ، لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن .

وقد ذكرنا في ترجمة عبد الله بن أبي أحمد بن جحش ، من المسند الكبير ، من طريق أبي بكر بن أبي عاصم ، عن محمد بن يحيى الذهلي ، عن يعقوب بن محمد ، عن عبد العزيز بن عمران ، عن مُجَمِّع بن يعقوب ، عن حسين بن أبي لُبانة ، عن عبد الله بن أبي أحمد قال : هاجرت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي مُعَيط في الهجرة ، فخرج أخواها عمارة والوليد حتى قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكلماه فيها أن يردها إليهما ، فنقض الله العهد بينه وبين المشركين في النساء خاصة ، ومنعهن أن يُرْدَدْنَ إلى المشركين ، وأنزل الله آية الامتحان{[28685]} .

قال ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا يونس بن بُكَيْر ، عن قيس بن الربيع ، عن الأغر بن الصباح ، عن خليفة عن حُصَين ، عن أبي نصر الأسدي قال : سُئِل ابنُ عباس : كيف كان امتحانُ رسول الله صلى الله عليه وسلم النساءَ ؟ قال : كان يمتحنهن : بالله ما خَرجت من بُغض زوج ؟ وبالله ما خَرجت رَغبةً عن أرض إلى أرض ؟ وبالله ما خرجت التماس دنيا ؟ وبالله ما خرجت إلا حبًا لله ولرسوله ؟ {[28686]} .

ثم رواه من وجه آخر ، عن الأغر بن الصباح ، به . وكذا رواه البزار من طريقه ، وذكر فيه أن الذي كان يحلفهن عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم له عمر بن الخطاب{[28687]} .

وقال العوفي ، عن ابن عباس في قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ } كان امتحانهن أن يَشهدْن أن لا إله إلا الله ، وأن محمدًا عبد الله{[28688]} ورسوله .

وقال مجاهد : { فَامْتَحِنُوهُنّ } فاسألوهن : عما جاء بهن ؟ فإن كان بهن غضبٌ على أزواجهن أو سَخْطة أو غيره ، ولم يؤمنّ فارجعوهن إلى أزواجهن .

وقال عكرمة : يقال لها : ما جاء بك إلا حب الله ورسوله ؟ وما جاء بك عشق رجل منا ، ولا فرار من زوجك ؟ فذلك قوله : { فَامْتَحِنُوهُنّ } .

وقال قتادة : كانت محنتهن أن يستحلفن بالله : ما أخرجكن النشوز ؟ وما أخرجكن إلا حب الإسلام وأهله وحِرص عليه ؟ فإذا قلن ذلك قُبِل ذلك منهن .

وقوله : { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ } فيه دلالة على أن الإيمان يمكن الاطلاع عليه يقينًا .

وقوله : { لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } هذه الآية هي التي حَرّمَت المسلمات على المشركين ، وقد كان جائزًا في ابتداء الإسلام أن يتزوج المشرك المؤمنة ؛ ولهذا كان أبو العاص بن الربيع زوج ابنة النبي صلى الله عليه وسلم زينب ، رضي الله عنها ، وقد كانت مسلمة وهو على دين قومه ، فلما وقع في الأسارى يوم بدر بعثت امرأته زينب في فدائه بقلادة لها كانت لأمها خديجة ، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رَقّ لها رقَّةً شَديدَةً ، وقال للمسلمين : " إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها فافعلوا " . ففعلوا ، فأطلقه رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يبعث ابنته إليه ، فوفى له بذلك وصدقه فيما وعده ، وبعثها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع زيد بن حارثة ، رضي الله عنه ، فأقامت بالمدينة من بعد وقعة بدر ، وكانت سنة اثنتين إلى أن أسلم زوجها العاص بن الربيع سنة ثمان فردها عليه بالنكاح الأول ، ولم يحدث لها صداقًا ، كما قال الإمام أحمد :حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي ، حدثنا بن إسحاق ، حدثنا داود بن الحصين ، عن عكرمة عن ابن عباس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد ابنته زينب على أبي العاص [ ابن الربيع ]{[28689]} وكانت هجرتها قبل إسلامه بست سنين على النكاح الأول ، ولم يحدث شهادة ولا صَدَاقًا .

ورواه أبو داود والترمذي وابن ماجة{[28690]} . ومنهم من يقول : " بعد سنتين " ، وهو صحيح ؛ لأن إسلامه كان بعد تحريم المسلمات على المشركين بسنتين . وقال الترمذي : " ليس بإسناده بأس ، ولا نعرف{[28691]} وجه هذا الحديث ، ولعله جاء من حفظ داود بن الحصين . وسمعت عبد بن حميد يقول : سمعت يزيد بن هارون يذكر عن بن إسحاق هذا الحديث ، وحديث ابن الحجاج - يعني ابن أرطأة - عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد ابنته على أبي العاص بن الربيع بمهر جديد ونكاح جديد . فقال يزيد : حديث ابن عباس أجودُ إسنادًا والعمل على حديث عمرو بن شعيب " .

قلت : وقد رَوَي حديث الحجاج بن أرطأة ، عن عمرو بن شعيب الإمامُ أحمد والترمذي وابن ماجة{[28692]} ، وضعفه الإمام أحمد وغير واحد ، والله أعلم .

وأجاب الجمهور عن حديث ابن عباس بأن ذلك كان قضية عين يحتمل أنه لم تنقض عِدّتها منه ؛ لأن الذي عليه الأكثرون أنها متى انقضت العدة ولم يسلم{[28693]} انفسخَ نِكاحُها منه .

وقال آخرون : بل إذا انقضت العدة هي بالخيار ، إن شاءت أقامت على النكاح واستمرت ، وإن شاءت فسخته وذهبت فتزوجت ، وحملوا عليه حديث ابن عباس ، والله أعلم .

وقوله : { وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا } يعني : أزواج المهاجرات من المشركين ، ادفعوا إليهم الذي غرموه عليهن من الأصدقة . قاله ابن عباس ، ومجاهد وقتادة ، والزهري ، وغير واحد .

وقوله : { وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } يعني : إذا أعطيتموهن أصدقتهن فانكحوهن ، أي : تزوجوهن بشرطه من انقضاء العدة والولي وغير ذلك .

وقوله : { وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } تحريم من الله ، عز وجل ، على عباده المؤمنين نكاح المشركات ، والاستمرار معهن .

وفي الصحيح ، عن الزهري ، عن عروة ، عن المسور ومَرْوان بن الحكم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عاهد كفار قريش يوم الحديبية جاء نساءٌ من المؤمنات ، فأنزل الله عز وجل : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ [ فَامْتَحِنُوهُنَّ ] } {[28694]} إلى قوله : { وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } فطلق عمر بن الخطاب يومئذ امرأتين ، تزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان ، والأخرى صفوان بن أمية{[28695]} .

وقال ابن ثور ، عن مَعْمَر ، عن الزهري : أنزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو بأسفل الحديبية ، حين صالحهم على أنه من أتاه منهم رده إليهم ، فلما جاءه النساء نزلت هذه الآية ، وأمره أن يرد الصداق إلى أزواجهن ، وحكم على المشركين مثل ذلك إذا جاءتهم امرأة من المسلمين أن يردوا الصداق إلى زوجها ، وقال : { وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } وهكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وقال : وإنما حكم الله بينهم بذلك ، لأجل ما كان بينهم وبينهم من العهد .

وقال محمد بن إسحاق ، عن الزهري : طلق عمر يومئذ قريبة بنت أبي أمية بن المغيرة ، فتزوجها معاوية ، وأم كلثوم بنت عمرو بن جرول الخزاعية ، وهي أم عُبَيد الله ، فتزوجها أبو جهم ابن حذيفة بن غانم ، رجل من قومه ، وهما على شركهما ، وطلق طلحةُ بن عبيد الله أروي بنتَ ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ، فتزوجها بعده خالد بن سعيد بن العاص{[28696]} .

وقوله : { وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا } أي : وطالبوا بما أنفقتم على أزواجكم اللاتي يذهبن إلى الكفار ، إن ذهبن ، وليطالبوا بما أنفقوا على أزواجهم اللاتي هاجرن إلى المسلمين .

وقوله : { ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ } أي : في الصلح واستثناء النساء منه ، والأمر بهذا كله هو حكم الله يحكم به بين خلقه : { وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } أي عليم بما يصلح عباده حكيم في ذلك .


[28685]:- (1) جامع المسانيد والسنن لابن كثير (7/243) ورواه ابن الأثير في أسد الغابة (3/67) من طريق أبي بكر بن أبي عاصم، وعبد العزيز ابن عمران ضعيف.
[28686]:- (2) تفسير الطبري (28/44).
[28687]:- (3) مسند البزار برقم (2272) "كشف الأستار" وقال: "لا نعلمه يروى عن ابن عباس إلا بهذا الإسناد، ولا روي عن أبي نصر إلا خليفة". قال الهيثمي في المجمع (7/123): "وفيه قيس بن الربيع، وثقه شعبة والثوري، وضعفه غيرهما، وبقية رجاله ثقاب". وتعقبه ابن حجر في مختصر الزوائد (1/112). قلت: "أعله الشيخ بقيس، وقد ذكر البخاري أن أبا نصر لم يسمع من ابن عباس فهي العلة".
[28688]:- (4) في م: "وإن محمدًا عبده".
[28689]:- (1) زيادة من مسند الإمام أحمد.
[28690]:- (2) المسند (1/261) وسنن أبي داود برقم (2240) وسنن الترمذي برقم (1143) وسنن ابن ماجة برقم (2009).
[28691]:- (3) في م: "ولا يعرف".
[28692]:- (4) المسند (2/207) وسنن الترمذي برقم (1142) وسنن ابن ماجة برقم (2010).
[28693]:- (1) في م: "ولم تسلم".
[28694]:- (2) زيادة من م.
[28695]:- (3) صحيح البخاري برقم (2731، 2732).
[28696]:- (4) تفسير الطبري (28/47) مع اختلاف يسير.
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا جَآءَكُمُ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتُ مُهَٰجِرَٰتٖ فَٱمۡتَحِنُوهُنَّۖ ٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِإِيمَٰنِهِنَّۖ فَإِنۡ عَلِمۡتُمُوهُنَّ مُؤۡمِنَٰتٖ فَلَا تَرۡجِعُوهُنَّ إِلَى ٱلۡكُفَّارِۖ لَا هُنَّ حِلّٞ لَّهُمۡ وَلَا هُمۡ يَحِلُّونَ لَهُنَّۖ وَءَاتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَآ ءَاتَيۡتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّۚ وَلَا تُمۡسِكُواْ بِعِصَمِ ٱلۡكَوَافِرِ وَسۡـَٔلُواْ مَآ أَنفَقۡتُمۡ وَلۡيَسۡـَٔلُواْ مَآ أَنفَقُواْۚ ذَٰلِكُمۡ حُكۡمُ ٱللَّهِ يَحۡكُمُ بَيۡنَكُمۡۖ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (10)

أمر الله تعالى أن يؤتى الكفار مهور نسائهم اللاتي هاجرن مؤمنات ورفع الجناح في أن يتزوجن بصدقات هي أجورهن ، وأمر المسلمين بفراق الكافرات وأن لا يمسكوا بعصمهن ، فقيل : الآيات في عابدات الأوثان ومن لا يجوز نكاحها ، ابتداء ، وقيل : هي عامة نسخ منها نساء أهل الكتاب ، والعصم : جمع عصمة : وهي أسباب الصحبة والبقاء في الزوجية ، وكذلك العصمة في كل شيء ، السبب الذي يعتصم به ، ويعتمد عليه ، وقرأ جمهور السبعة والناس : «تُمسِكوا » بضم التاء وكسر السين وتخفيفها من أمسك ، وقرأ أبو عمرو{[11051]} وحده وابن جبير ومجاهد والأعرج والحسن بخلاف «ولا تمسّكوا » من مسك ، بالشد في السين ، وقرأ الحسن وابن أبي ليلى وابن عامر في رواية عبد المجيد : «تَمَسَّكوا » بفتح التاء والميم ، وفتح السين وشدها ، وقرأ الحسن : «تَمْسِكوا » بفتح التاء وسكون الميم وكسر السين مخففة .

ورأيت لأبي علي الفارسي أنه قال : سمعت الفقيه أبا الحسن الكرخي يقول في تفسير قوله تعالى : { ولا تمسكوا بعصم الكوافر } ، إنه في الرجال والنساء ، فقلت له : النحويون لا يرون هذا إلا في النساء ، لأن كوافر : جمع كافرة ، فقال وايش يمنع من هذا أليس الناس يقولون : طائفة كافرة ، وفرقة كافرة ، فبهت ، وقلت هذا تأييد{[11052]} .


[11051]:يعني: وحده من بين السبعة المشهورين، وإلا فقد قرأ بها غيره كما ذكر المؤلف.
[11052]:علق أبو حيان الأندلسي في (البحر المحيط) على كلام أبي علي الفارسي بقوله:"وهذا الكوفي معتزلي فقيه، وأبو علي معتزلي، فأعجبه هذا التخريج، وليس بشيء؟ لأنه لا يقال "كافرة" في وصف الرجال إلا تابعا لموصوفها أو يكون محذوفا مُرادا، أما بغير ذلك فلا يُجمع فاعلة على فواعل إلا ويكون للمؤنث".