فإذا انتهى مشهد الاحتضار ، فنحن أمام المشهد التالي ، وهؤلاء المحتضرون في النار ! . . ويسكت السياق عما بينهما ، ويسقط الفترة بين الموت والبعث والحشر . وكأنما يؤخذ هؤلاء المحتضرون من الدار إلى النار !
( قال : ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار ، كلما دخلت أمة لعنت أختها ، حتى إذا ادّاركوا فيها جميعاً قالت أخراهم لأولاهم : ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذاباً ضعفاً من النار . قال : لكل ضعف ولكن لا تعلمون . وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل ، فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون ) .
( ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار ) .
انضموا إلى زملائكم وأوليائكم من الجن والإنس . . هنا في النار . . أليس إبليس هو الذي عصى ربه ؟ وهو الذي أخرج آدم من الجنة وزوجه ؟ وهو الذي أغوى من أغوى من أبنائه ؟ وهو الذي أوعده الله أن يكون هو ومن أغواهم في النار ؟ . . فادخلوا إذن جميعاً . . ادخلوا سابقين ولاحقين . . فكلكم أولياء . . وكلكم سواء !
ولقد كانت هذه الأمم والجماعات والفرق في الدنيا من الولاء بحيث يتبع آخرها أولها ؛ ويملي متبوعها لتابعها . . فلننظر اليوم كيف تكون الأحقاد بينها ، وكيف يكون التنابز فيها :
( كلما دخلت أمة لعنت أختها ) !
فما أبأسها نهاية تلك التي يلعن فيها الابن أباه ؛ ويتنكر فيها الولي لمولاه !
( حتى إذا اداركوا فيها جميعاً ) . .
وتلاحق آخرهم وأولهم ، واجتمع قاصيهم بدانيهم ، بدأ الخصام والجدال :
( قالت أخراهم لأولاهم ، ربنا هؤلاء أضلونا ، فآتهم عذاباً ضعفاً من النار ) . .
وهكذا تبدأ مهزلتهم أو مأساتهم ! ويكشف المشهد عن الأصفياء والأولياء ، وهم متناكرون أعداء ؛ يتهم بعضهم بعضا ، ويلعن بعضهم بعضا ، ويطلب له من( ربنا )شر الجزاء . . من( ربنا )الذي كانوا يفترون عليه ويكذبون بآياته ؛ وهم اليوم ينيبون إليه وحده ويتوجهون إليه بالدعاء ! فيكون الجواب استجابة للدعاء . ولكن أية استجابة ؟ !
يقول تعالى مخبرًا عما يقوله لهؤلاء المشركين به ، المفترين عليه المكذبين بآياته : { ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ } أي : من أشكالكم وعلى صفاتكم ، { قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ } أي : من الأمم السالفة الكافرة ، { مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ فِي النَّارِ } يحتمل أن يكون بدلا من قوله : { فِي أُمَمٍ } ويحتمل أن يكون { فِي أُمَمٍ } أي : مع أمم .
وقوله : { كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا } كما قال الخليل ، عليه السلام : { ثُمّ{[11711]} َ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ [ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ] }{[11712]} الآية [ العنكبوت : 25 ] . وقوله تعالى : { إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسْبَابُ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ } [ البقرة : 166 ، 167 ] .
وقوله [ تعالى ]{[11713]} { حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا } أي : اجتمعوا فيها كلهم ، { قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأولاهُمْ } أي : أخراهم دخولا - وهم الأتباع - لأولاهم - وهم المتبوعون - لأنهم أشد جرمًا من أتباعهم ، فدخلوا قبلهم ، فيشكوهم{[11714]} الأتباع إلى الله يوم القيامة ؛ لأنهم هم الذين أضلوهم عن سواء السبيل ، فيقولون : { رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ } أي : أضعف عليهم العقوبة ، كما قال تعالى : { يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ [ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا{[11715]} ] } [ الأحزاب : 66 - 68 ]
وقوله : { قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ } أي : قد فعلنا ذلك وجازينا كلا بحسبه ، كما قال تعالى : { الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا [ فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ{[11716]} ] } [ النحل : 88 ] وقال تعالى : { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَعَ أَثْقَالِهِمْ [ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ{[11717]} ] } [ العنكبوت : 13 ] وقال : { وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ{[11718]} ] } [ النحل : 25 ]
هذه حكاية ما يقول الله لهم يوم القيامة بوساطة ملائكة العذاب وعبر عن يقول . ب { قال } لتحقق وقوع ذلك وصدق القصة ، وهذا كثير ، وقوله : { في أمم } متعلق ب { ادخلوا } ، ويحتمل أن يتعلق بمحذوف تقديره كائنين أو ثابتين في أمم ، فيكون في موضع الحال من الضمير في { ادخلوا } وقيل { في } بمعنى مع ، وقيل هي على بابها وهو أصوب ، وقوله { قد خلت } صفة ل { أمم } وقوله : { في النار } يصح تعلقه ب { ادخلوا } يصح أن يتعلق ب { أمم } أي في أمم ثابتة أو مستقرة ، ويصح تعلقه بالذكر الذي في { خلت } ومعنى { قد خلت } على هذا التعلق أي قد تقدمت ومضى عليها الزمن وعرفها فيما تطاول من الآباد ، وقد تستعمل وإن لم يطل الوقت إذ أصلها فيمن مات من الناس أي صاروا إلى خلاء من الأرض ، وعلى التعليقين الأولين لقوله { في النار } فإنما { خلت } حكاية عن حال الدنيا أي ادخلوا في النار في جملة الأمم السالفة لكم في الدنيا الكافرة ، وقد ذكر الجن لأنهم أعرق في الكفر ، وإبليس أصل الضلال والإغواء ، وهذه الآية نص في أن كفرة الجن في النار ، والذي يقتضيه النظر أن مؤمنيهم في الجنة لأنهم عقلاء مكلفون مبعوث إليهم آمنوا وصدقوا ، وقد بوب البخاري رحمه الله - باب في ذكر الجن وثوابهم وعقابهم - وذكر عبد الجليل أن مؤمني الجن يكونون تراباً كالبهائم ، وذكر في ذلك حديث مجهولاً وما أراه يصح ، والله أعلم .
والأخوة في هذه الآية أخوة الملة والشريعة . قال السدي : يتلاعن آخرها وأولها ، و { اَّداركوا } معناه تلاحقوا ووزنه تفاعلوا أصله تداركوا أدغم فجلبت ألف الوصل ، وقرأ أبوعمرو «إداركوا » بقطع ألف الوصل ، قال أبو الفتح : هذا مشكل ولا يسوغ أن يقطعها ارتجالاً فذلك إنما يجيء شاذاً في ضرورة الشعر ، في الاسم أيضاً لكنه وقف مثل وقفة المستذكر ثم ابتدأ فقطع ، وقرأ مجاهد بقطع الألف وسكون الدال «ادْركوا » بفتح الراء وبحذف الألف بعد الدال بمعنى أدرك بعضهم بعضاً ، وقرأ حميد «أُدرِكوا » بضم الهمزة وكسر الراء أي أدخلوا في إدراكها ، وقال مكي في قراءة مجاهد إنها «ادَّارَكوا » بشد الدال المفتوحة وفتح الراء ، قال : وأصله إذ تركوا وزنها افتعلوا ، وقرأ ابن مسعود والأعمش «تداركوا » ورويت عن أبي عمرو ، وقرأ الجمهور «حتى إذا اَّداركوا » بحذف ألف «إذا » لالتقاء الساكنين .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.