في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{سَنَفۡرُغُ لَكُمۡ أَيُّهَ ٱلثَّقَلَانِ} (31)

وبتقرير حقيقة البقاء وراء الفناء ، وما ينبثق منها من حقيقة الاتجاه الكلي إلى الواحد الباقي ، وتعلق مشيئته - سبحانه - بشئون الخلائق وتقديرها وتدبيرها ، فضلا منه ومنة على العباد . .

بتقرير هذه الحقيقة الكلية وما ينبثق عنها من حقائق ينتهي الاستعراض الكوني ، ومواجهة الجن والإنس به ؛ ويبدأ مقطع جديد . فيه تهديد وفيه وعيد . تهديد مرعب مفزع ، ووعيد مزلزل مضعضع . تمهيدا لهول القيامة الذي يطالع الثقلين في سياق السورة بعد ذاك :

( سنفرغ لكم أيها الثقلان . فبأي آلاء ربكما تكذبان ? يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا . لا تنفذون إلا بسلطان . فبأي آلاء ربكما تكذبان ? يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران . فبأي آلاء ربكما تكذبان ? ) . .

( سنفرغ لكم أيها الثقلان ) . .

يا للهول المرعب المزلزل ، الذي لا يثبت له إنس ولا جان . ولا تقف له الجبال الرواسي ولا النجوم والأفلاك !

الله . جل جلاله . الله القوي القادر ، القهار الجبار ، الكبير المتعال . الله - سبحانه - يفرغ لحساب هذين الخلقين الضعيفين الصغيرين : الجن والإنس ، في وعيد وانتقام !

إنه أمر . إنه هول . إنه فوق كل تصور واحتمال !

والله - سبحانه - ليس مشغولا فيفرغ . وإنما هو تقريب الأمر للتصور البشري . وإيقاع الوعيد في صورة مذهلة مزلزلة ، تسحق الكيان بمجرد تصورها سحقا . فهذا الوجود كله نشأ بكلمة . كلمة واحدة . كن فيكون . وتدميره أو سحقه لا يحتاج إلا واحدة كلمح بالبصر . . فكيف يكون حال الثقلين ، والله يفرغ لهما وحدهما ، ليتولاهما بالانتقام ? !

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{سَنَفۡرُغُ لَكُمۡ أَيُّهَ ٱلثَّقَلَانِ} (31)

قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ } ، قال : وعيد من الله للعباد ، وليس بالله شغل وهو فارغ . وكذا قال الضحاك : هذا وعيد . وقال قتادة : قد دنا من الله فراغ لخلقه . وقال ابن جريج : { سَنَفْرُغُ لَكُمْ } أي : سنقضي لكم .

وقال البخاري : سنحاسبكم{[27882]} ، لا يشغله شيء عن شيء ، وهو معروف في كلام العرب ، يقال {[27883]} لأتفرغن لك " وما به شغل ، يقول : " لآخذنك على غِرَّتك {[27884]} " .

وقوله : { أَيُّهَا الثَّقَلانِ } الثقلان : الإنس والجن ، كما جاء في الصحيح : " يسمعها كل شيء إلا الثقلين " وفي رواية : " إلا الجن والإنس " . وفي حديث الصور : " الثقلان الإنس والجن " { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } .


[27882]:- (3) في م: "سيحاسبكم".
[27883]:- (4) في أ: "يقول".
[27884]:- (5) في م: "غرة".
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{سَنَفۡرُغُ لَكُمۡ أَيُّهَ ٱلثَّقَلَانِ} (31)

سنفرغ لكم أيها الثقلان أي سنتجرد لحسابكم وجزائكم وذلك يوم القيامة فإنه تعالى لا يفعل فيه غيره وقيل تهديد مستعار من قولك لمن تهدده سأفرغ لك فإن المتجرد للشيء كان أقوى وأجد فيه وقرأ حمزة والكسائي بالياء وقرئ سنفرغ إليكم أي سنقصد إليكم و الثقلان الإنس والجن سميا بذلك لثقلهما على الأرض أو لرزانة رأيهما وقدرهما أو لأنهما مثقلان بالتكليف .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{سَنَفۡرُغُ لَكُمۡ أَيُّهَ ٱلثَّقَلَانِ} (31)

وقوله تعالى : { سنفرغ لكم أيها الثقلان } عبارة عن إتيان الوقت الذي قدر فيه وقضى أن ينظر في أمور عباده وذلك يوم القيامة ، وليس المعنى : أن ثم شغلاً يتفرغ منه ، وإنما هي إشارة وعيد ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ِلَأَزِّب العقبة :«لأفرغن لك يا خبيث » والتفرغ من كل آدمي حقيقة .

وفي قوله تعالى : { سنفرغ لكم } جرى على استعمال العرب ، ويحتمل أن يكون التوعد بعذاب في الدنيا والأول أبين .

وقرأ نافع وابن كثير وعاصم وأبو عمرو وابن عامر : «سنفرُغ » بضم الراء{[10826]} وبفتح النون . وقرأ الأعرج وقتادة : ذلك بفتح الراء والنون ، ورويت عن عاصم ، ويقال فرغ بفتح الراء وفرغ بكسرها . ويصح منهما جميعاً أن يقال يفرغ بفتح الراء وقرأ عيسى بفتح النون وكسر الراء . وقال أبو حاتم : هي لغة سفلى مضر ، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي : بالياء المفتوحة ، قرأ حمزة والكسائي : بضم الراء . وقرأ أبو عمرو : بفتحها . وقرأ الأعمش بخلاف ، وأبو حيوة : «سيُفرَغ » بضم الياء وفتح الراء وبناء الفعل للمفعول . وقرأ عيسى بن عمر أيضاً : «سنَفرِغ » ، بفتح النون وكسر الراء . وفي مصحف عبد الله بن مسعود : «سنفرغ لكم أيها » .

و { الثقلان } الإنس والجن ، ويقال لكل ما يعظم أمره ثقل ، ومنه :

{ وأخرجت الأرض أثقالها }{[10827]} [ الزلزلة : 2 ] . وقال النبي عليه السلام : «إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي »{[10828]} . ويقال لبيض النعام ثقل . وقال لبيد : [ الكامل ]

فتذكرا ثقلاً رئيداً بعدما . . . ألقت ذكاء يمينها في كافر{[10829]}

وقال جعفر بن محمد الصادق{[10830]} رضي الله عنه : سمي الإنس والجن ثقلين ، لأنهما ثقلا بالذنوب وهذا بارع ينظر إلى خلقهما من طين ونار .

وقرأ ابن عامر : «أيُّهُ الثقلان » بضم الهاء .


[10826]:في الأصول:"بضم النون والراء"، والتصويب عن كتب القراءة والتفسير.
[10827]:الآية (2) من سورة (الزلزلة).
[10828]:أخرج هذا الحديث مسلم في فضائل الصحابة، والدارمي في فضائل القرآن، وأحمد في مسنده(3-14، 17، 36، 59)، ولفظه كما في مسند أحمد، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(إني تارك فيكم الثقلين، أحدهما أكبر من الآخر، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعِترتي أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض)، وفي رواية أخرى ذكرها أيضا أحمد في مسنده زيادة في أول الحديث هي قوله صلى الله عليه وسلم:(إني أوشك أن أدعى فأجيب)، وزيادة في آخره هو قوله:(فانظروا بم تخلفوني فيهما).
[10829]:هذا أول بيت قاله ثعلبة بن صُعير المازني يذكر الظليم والنعامة، وليس من شعر لبيد، وقد قال ثعلبة هذا البيت من قصيدة يذكر فيها حبيبته عمرة، وكيف وعدته ثم أخلفت وعدها، فتركها وسافر على ناقة شبهها بالظليم-وهو ذكر النعام- ثم استطرد يصف الناقة، والبيت بتمامه كما ذكره صاحب اللسان: فتذكرا ثقلا رئيدا بعدما ألقت ذكاء يمينها في كافر ورواية البيت كما ذكرها المُفضل الضبي في المُفضليات:"فتذكرت ثقلا..." يعني النعامة التي يشبه بها ناقته، والثَّقل: المتاع وكل شيء مصون، وهو يريد هنا بيضها. والرئيد: المنضود بعضه فوق بعض، وذُكاء-بضم الذال-: الشمس، والكافر: الليل؛ لأنه يغطي ويستر بظلمته كل شيء، وكل ما غطى شيئا فقد ستره وكفره، ومعنى"ألقت يمينها في كافر" مالت للمغيب، أو تهيأت له.
[10830]:هو جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي، أبو عبد الله، المعروف بالصادق، صدوق فقيه، إمام، من السادسة، مات سنة ثمان وأربعين.(تقريب التهذيب).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{سَنَفۡرُغُ لَكُمۡ أَيُّهَ ٱلثَّقَلَانِ} (31)

هذا تخلّص من الاعتبار بأحوال الحياة العاجلة إلى التذكير بأحوال الآخرة والجزاء فيها انتُقل إليه بمناسبة اشتمال ما سَبق من دلائل سعة قدرة الله تعالى ، على تعريض بأن فاعل ذلك أهلّ للتوحيد بالإِلهية ، ومستحق الإِفراد بالعبادة ، وإذ قد كان المخاطبون بذلك مشركين مع الله في العبادة انتُقل إلى تهديدهم بأنهم وأولياءَهم من الجن المسوِّلين لهم عبادة الأصنام سيعرضون على حكم الله فيهم .

وحرف التنفيس مستعمل في مطلق التقريب المكنَّى به عن التحقيق ، كما تقدم في قوله تعالى : { قال سوف أستغفر لكم ربي } في سورة يوسف ( 98 ) .

والفراغ للشيء : الخلوُ عما يشغل عنه ، وهو تمثيل للاعتناء بالشيء ، شبّه حال المقبل على عمل دون عمللٍ آخر بحال الوعاء الذي أُفْرغَ مما فيه ليُملأ بشيء آخر .

وهذا التمثيل صالح للاستعمال في الاعتناء كما في قول أبي بكر الصديق لابنه عبد الرحمان افْرُغْ إلى أضيافك ( أي تخل عن كل شغل لتشتغل بأضيافك وتتوفر على قِراهم ) وصالح للاستعمال في الوعيد ، كقول جرير :

أَلاَنَ وقد فرغت إلى نَمير *** فهذا حين كنتُ لها عذاباً

والمناسب لسياق الآية باعتبار السابق واللاحق ، أن تحمل على معنى الإِقبال على أمور الثقلين في الآخرة ، لأن بعده { يعرف المجرمون بسيماهم } [ الرحمن : 41 ] ، وهذا لكفار الثقلين وهم الأكثر في حين نزول هذه الآية .

و { الثقلان } : تثنية ثَقَل ، وهذا المثنى اسم مفرد لمجموع الإِنس والجن .

وأحسب أن الثّقَل هو الإِنسان لأنه محمول على الأرض ، فهو كالثقل على الدابة ، وأن إطلاق هذا المثنى على الإنس والجن من باب التغليب ، وقيل غير هذا مما لا يرتضيه المتأمل . وقد عد هذا اللفظ بهذا المعنى مما يستعمل إلا بصيغة التثنية فلا يطلق على نوع الإنسان بانفراده اسم الثقل ولذلك فهو مثنى اللفظ مفرد الإطلاق . وأظن أن هذا اللفظ لم يطلق على مجموع النوعين قبل القرآن فهو من أعلام الأجناس بالغلبة ، ثم استعمله أهل الإسلام ، قال ذو الرمة :

وميَّة أحسن الثقلين وَجها *** وسَالِفَةً وأحسنُهُ قَذالاً

أراد وأحسن الثقلين ، وجعل الضمير له مفرداً . وقد أخطأ في استعماله إذ لا علاقة للجن في شيء من غرضه .

وقرأ الجمهور { سنفرغ } بالنون . وقرأه حمزة والكسائي بالياء المفتوحة على أن الضمير عائد إلى الله تعالى على طريقة الالتفات .

وكُتب { أيه } في المصحف بهاء ليس بعدها ألف وهو رسم مراعى فيه حال النطق بالكلمة في الوصل إذ لا يوقف على مثله ، فقرأها الجمهور بفتحة على الهاء دون ألف في حالتي الوصل والوقف . وقرأها أبو عمرو والكسائي بألف بعد الهاء في الوقف . وقرأه ابن عامر بضم الهاء تبعاً لضم الياء التي قبلها وهذا من الإِتباع .