بعد ذلك يلتفت السياق إلى رسول الله [ ص ] ليفرده وحده بدينه وشريعته ومنهجه وطريقه عن كل الملل والنحل والشيع القائمة في الأرض - بما فيها ملة المشركين العرب - :
( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء . إنما أمرهم إلى الله ، ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون ) . .
إنه مفرق الطريق بين الرسول [ ص ] ودينه وشريعته ومنهجه كله وبين سائر الملل والنحل . . سواء من المشركين الذين كانت تمزقهم أوهام الجاهلية وتقاليدها وعاداتها وثاراتها ، شيعاً وفرقاً وقبائل وعشائر وبطونا . أو من اليهود والنصارى ممن قسمتهم الخلافات المذهبية مللا ونحلا ومعسكرات ودولا . أو من غيرهم مما كان وما سيكون من مذاهب ونظريات وتصورات ومعتقدات وأوضاع وأنظمة إلى يوم الدين .
إن رسول الله [ ص ] ليس من هؤلاء كلهم في شيء . . إن دينه هو الإسلام وشريعته هي التي في كتاب الله ؛ ومنهجه هو منهجه المستقل المتفرد المتميز . . وما يمكن أن يختلط هذا الدين بغيره من المعتقدات والتصورات ؛ ولا أن تختلط شريعته ونظامه بغيره من المذاهب والأوضاع والنظريات . . وما يمكن أن يكون هناك وصفان اثنان لأي شريعة أو أي وضع أو أي نظام . . إسلامي . . وشيء آخر . . ! ! ! إن الإسلام إسلام فحسب . والشريعة الإسلامية شريعة إسلامية فحسب . والنظام الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي الإسلامي إسلامي فحسب . . ورسول الله [ ص ] ليس في شيء على الإطلاق من هذا كله إلى آخر الزمان !
إن الوقفة الأولى للمسلم أمام أية عقيدة ليست هي الإسلام هي وقفة المفارقة والرفض منذ اللحظة الأولى . وكذلك وقفته أمام أي شرع أو نظام أو وضع ليست الحاكمية فيه لله وحده - وبالتعبير الآخر : ليست الألوهية والربوبية فيه لله وحده - إنها وقفة الرفض والتبرؤ منذ اللحظة الأولى . . قبل الدخول في أية محاولة للبحث عن مشابهات أو مخالفات بين شيء من هذا كله وبين ما في الإسلام !
إن الدين عند الله الإسلام . . ورسول الله [ ص ] ليس في شيء ممن فرقوا الدين فلم يلتقوا فيه على الإسلام .
وإن الدين عند الله هو المنهج والشرع . . ورسول الله [ ص ] ليس في شيء ممن يتخذون غير منهج الله منهجاً ، وغير شريعة الله شرعا . .
الأمر هكذا جملة . وللنظرة الأولى . بدون دخول في التفصيلات !
وأمر هؤلاء الذين فرقوا دينهم شيعا ، وبرئ منهم رسول الله [ ص ] بحكم من الله تعالى . . أمرهم بعد ذلك إلى الله ؛ وهو محاسبهم على ما كانوا يفعلون :
قال مجاهد ، وقتادة ، والضحاك ، والسُّدِّي : نزلت هذه الآية في اليهود والنصارى .
وقال العَوْفي ، عن ابن عباس في قوله : { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا } وذلك أن اليهود والنصارى اختلفوا قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم ، فتفرقوا . فلما بعث [ الله ]{[11470]} محمدا صلى الله عليه وسلم أنزل : { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } الآية .
وقال ابن جرير : حدثني سعد بن عَمْرو السكوني ، حدثنا بَقِيَّة بن الوليد : كتب إليّ عباد بن كثير ، حدثني لَيْث ، عن طاوس ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن في هذه الأمَّة { الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } وليسوا منك ، هم أهل البدع ، وأهل الشبهات ، وأهل الضلالة ، من هذه الأمة " {[11471]} .
لكن هذا الإسناد لا يصح ، فإن عباد بن كثير متروك الحديث ، ولم يختلق هذا الحديث ، ولكنه وَهَم في رفعه . فإنه رواه سفيان الثوري ، عن ليث - وهو ابن أبي سليم - عن طاوس ، عن أبي هريرة ، في قوله : { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا } قال : نزلت في هذه الأمة .
وقال أبو غالب ، عن أبي أمامة ، في قوله : { [ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ ] وَكَانُوا شِيَعًا{[11472]} } قال : هم الخوارج . وروى عنه مرفوعًا ، ولا يصح .
وقال شعبة ، عن مُجالد ، عن الشعبي ، عن شُرَيْح ، عن عمر [ رضي الله عنه ]{[11473]} أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة : { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا } قال : " هم أصحاب البدع " .
وهذا رواه ابن مَرْدُوَيه ، وهو غريب أيضًا{[11474]} ولا يصح رفعه .
والظاهر أن الآية عامة في كل من فارق دين الله وكان مخالفًا له ، فإن الله بعث رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ، وشرعه واحد لا اختلاف فيه ولا افتراق ، فمن اختلف فيه { وَكَانُوا شِيَعًا } أي : فرقًا كأهل الملل والنحل - وهي الأهواء والضلالات - فالله{[11475]} قد بَرَّأ رسوله مما هم فيه . وهذه الآية كقوله تعالى : { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ [ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ] }{[11476]} الآية[ الشورى : 13 ] ، وفي الحديث : " نحن معاشر الأنبياء أولاد عَلات ، ديننا واحد " .
فهذا هو الصراط المستقيم ، وهو ما جاءت به الرسل ، من عبادة الله وحده لا شريك له ، والتمسك بشريعة الرسول المتأخر ، وما خالف ذلك فضلالات وجهالات وآراء وأهواء ، الرسل بُرآء منها ، كما قال : { لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ }
وقوله : { إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } كقوله { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ] {[11477]} } [ الحج : 17 ] ،
{ إن الذين فرقوا دينهم } بددوه فآمنوا ببعض وكفروا ببعض ، أو افترقوا فيه قال عليه الصلاة والسلام : " افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة كلها في الهاوية إلا واحدة ، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة كلها في الهاوية إلا واحدة ، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في الهاوية إلا واحدة " . وقرأ حمزة والكسائي " فارقوا " أي باينوا . { وكانوا شيعا } فرقا تشيع كل فرقة إماما . { لست منهم في شيء } أي من السؤال عنهم وعن تفرقهم ، أو من عقابهم ، أو أنت بريء منهم . وقيل هو نهي عن التعرض لهم وهو منسوخ بآية السيف . { إنما أمرهم إلى الله } يتولى جزاءهم . { ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون } بالعقاب .
قال ابن عباس والصحابة وقتادة : المراد اليهود والنصارى أي فرقوا دين إبراهيم الحنيفية ، وأضيف الدين إليهم من حيث كان ينبغي أن يلتزموه ، إذ هو دين الله الذي ألزمه العباد ، فهو دين جميع الناس بهذا الوجه ووصفهم «بالشيع » إذ كل طائفة منهم لها فرق واختلافات ، ففي الآية حض لأمة محمد على الائتلاف وقلة الاختلاف ، وقال أبو الأحوص{[5170]} وأم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم : الآية في أهل البدع والأهواء والفتن ومن جرى مجراهم من أمة محمد ، أي فرقوا دين الإسلام ، وقرأ علي بن أبي طالب وحمزة والكسائي «فارقوا » ومعناه تركوا ، ثم بيّن قوله { وكانوا شيعاً } أنهم فرقوه أيضاً ، والشيع جمع شيعة وهي الفرقة على مقصد ما يتشايعون عليه ، وقوله { لست منهم في شيء } أي لا تشفع لهم ولا لهم بك تعلق ، وهذا على الإطلاق في الكفار وعلى جهة المبالغة في العصاة والمتنطعين في الشرع ، لأنهم لهم حظ من تفريق الدين ، وقوله { إنما أمرهم إلى الله } إلى آخر الآية وعيد محض ، والقرينة المتقدمة تقتضي أن أمرهم إلى الله فيه وعيد ، كما أن القرينة في قوله { فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله }{[5171]} تعطي أن في ذلك الأمر رجاء كأنه قال وأمره في إقبال وإلى خير ، وقرأ النخعي والأعمش وأبو صالح «فرَقوا » بتخفيف الراء وقال السدي هذه آية لم يؤمر فيها بقتال وهي منسوخة بالقتال .
قال القاضي أبو محمد : وهذا كلام غير متقن فإن الآية خبر لا يدخله نسخ ولكنها تضمنت بالمعنى أمراً بموادعة فيشبه أن يقال إن النسخ وقع في ذلك المعنى الذي تقرر في آيات أخر .